العام
في الـحـب وأحـواله: لماذا يخاف الرجال النساء؟
يقال إن النظريات في الحب خُلقت من «الثرثرة» عنه، ومن رغبةٍ في «الحديث» عن أمور العشق، أصواتٌ همهماتٌ تخلق غيمةَ أفكارٍ، تنسكب مطراً، يُحَسّ ويُسمَعُ إيقاعُ نقراته على أجسادنا، ويرتد صداه في أرواحنا. وفي حضور من نحب، ثمّة شيء يمنعنا من الإنتاج وقول المهم، أو فعل ما يجب فعله.
جواد ديوب
إنها قوة الانجذاب إلى شخصه، إلى صفاته التي تصبح بقوةٍ سحرية، أو بقوة تعطيلٍ سحرية، البديلَ أو المعادل الواقعي لما نرغب أن نكونه.
في حضور من نحب تنسحب قدرتنا على الفعل وإنتاج الأفكار بقوة انزياحٍ لا إرادية نحو المحبوب، فتغدو أفعالنا هي ردود أفعال لما يصدر عنه، أو ما يرغب فيه.
ولكن أليس المحبوب هو أيضاً مُحِب؟ بالتالي نحن أيضاً نمتلك وبالطريقة السحرية ذاتها، تلك القدرة على «سحب» أو «شفط» أو تجريد الآخر من الكثير من صفاته وجواهر ذاته.
المفارقة هنا فيها شيء من فلسفة لغوية:
إذ أن الصيغة (مُحِب) تتضمن لغوياً صفة الفعل والقيام به، أي الفعل(يُحِبُّ). وتتضمن الصيغة(محبوب) أي (مفعول) دلائلَ السلب أو تشير إلى المتلقي الخاضع لفعل ما. ولكن في واقع الأمر، أي في خضمّ الحب، في العلاقة العشقية الواقعية، والتي يبذل فيها طرف أضعافاً مضاعفة من العواطف والمشاعر والوقت والجهد، بل بسبب هذا العطاء، يصبح(المُحِبّ) تابعاً تعِساً، يصبح (سانشو)الحب، بينما يصبح(المحبوب) كالفارس الحالم دون كيشوت، متبختراً متغاوياً لكن رأسه في الماء، ويصبحان معاً كمن تُطوّح به طواحينُ الحب في نواحي الأرض البعيدة.
لكن كيف يمكن لمن طوّعه الحب، وأنْسنَ الوحشَ فيه، وحمله على أجنحة الحلم ليرتقي بشوقه حتى كاد يرى وجهَ الله، كيف يمكن للرجال أن يخافوا النساء، وكيف يمكن للنساء أن تخشى الرجال؟ كيف يمكن لهما ذلك وهما قطبا الكون الأعظمين؟
من أين تأتي خشية البعض وخوفهم من النساء؟
أمِنَ الأديان؟ أم من قصص وحكايات الشعوب التي ما تزال معجونةً في جيناتنا المتوارثة والتي تعطي المرأة أهمية وقيمة كما كانت عليه في المجتمعات الأمومية/ الماترياركية حيث المرأة «مقدّسة»، ولها سلطتها وحضورها وخصبها، مما جعل احترام الناس عموماً، والرجال خصوصاً، أكبر وأعظم مما هو في المجتمعات التي انتقلت للطور الأبوي/ البطرياركي/ الذكوري، حيث طغت فيه صفات التدنيس والتسفيه والإقلال من شأن المرأة باعتبارها تشكل «خطراً» على سلطة ذكورية ناشئة، وعلى «سلطة دينية» متحوّلة؟
يبدو لي أن التشابه والتقاطع بين «الأساطير المؤسسة» في بلاد ما بين النهرين وبين تلك التي تنتمي إلى جهات الأرض الأخرى، هي من القوة بحيث أننا سنجد جزءاً من أنفسنا ومن ذاكرتنا في تلك الأعراق وتلك الشعوب كلما أوصلتنا دروب المعرفة إليها، سنجد جزءنا البشري قابعاً في تفاصيل الحكايات وفي رموزها، كأن البشر كلما أصرّوا على معرفة أنفسهم، كلما توغّلوا في ضياعهم أكثر، وفي عدم القدرة على التقاط «جواهر» الأشياء، تلك «البذرة»، اللبّ الذي تغلّفه قشرةُ أجسادهم. ويبدو أن كل تلك المحاولات شبه الفاشلة أو شبه العبثية، وذاك التوق الأزلي والأبدي للنفاذ إلى «العقل الأول» أو الروح الأولى، هي التي صنعت الفنون والفلسفات والأديان، لعلّها تُسكِت جوعنا المعرفي ولو لمرة واحدة.
ففي الديانة الزرادشتية مثلاً وفي فترة الإمبراطورية الساسانية، تخبرنا النقوش المرسومة على الصحون الفضية، أن الروح البشرية، حين يتوفى الإنسان، كانت ترسم على شكل فتاةٍ جميلة تدعى «أناهيتا» يحملها نسرٌ ضخم ويطير بها في السماوات، الملفت أن هذه (الروح/الصبية الجميلة) ستلاقي المتوفى على «الصراط» المستقيم بين الحياة وبين الجنة، فتساعده لعبوره وعدم السقوط في نار «الجحيم»، وإن كان المتوفى شخصاً فاسداً في حياته الواقعية، ستتحول المرأة إلى عجوز قبيحة، تدفعه للسقوط في»الجحيم» فيلقى عذاباً أليماً.
لكن لماذا يصوّر الكائن الذي يلقي الناس في النار على شكل «عجوز بشعة»؟ كم هي صورة مركّبة ومرعبة لمن يقرؤها خاصة عندما تحكى للأطفال الذين يستعيدونها في أذهانهم خلال مسيرة علاقتهم مع الفتيات، والحكاية الزردشتية تشبه حكاية كانت جداتنا ترويها لنا عن أنه في الليل وبينما أحد الرجال عائداً من سهرة ما أو من سفر ما، تعترض طريقه امرأةٌ فاتنةٌ تطلب مساعدة منه أو تطلب أن يوصلها بسيارته إلى منزلها، وحين يهمّ بمساعدتها أو حين تركب بجواره ينتبه إلى أن نصفها الأسفل على شكل أرجل معزاة بأظلاف وشعر كثيف على الساقين، فينتابه رعبٌ ينخر العظام لكنه يستطيع بحيلة ما أو بشجاعة التخلص منها…إلخ. لم كل هذا الخوف أو التخويف من المرأة، بل من المرأة الجميلة تحديداً؟!
في كل الأزمان على ما يبدو، قام الرجال بتسديد ضربات موجعة للنساء، في محاولات يائسة منهم لاسترداد هيبتهم المسفوحة، فذاك الخوف العميق والقديم من المرأة جعلهم يشوهون صورتها في أذهان الناس بكل الوسائل، حتى بالحكايات التي يرويها الرحالة الذكور لأطفالهم وأهالي قراهم حين يعودون من مغامراتهم يشدّهم الحنين إلى أحضان زوجاتهم بعد إحساسهم بعبثية رحلاتهم رغم كل المعرفة التي اكتنزوها.
البعض يعتقد أن التشوّه لا يكمن في التعاليم الدينية إنما في طبيعة العقل البشري أو في نوعية العقول المتعاملة مع تلك التعاليم أو في البيئة المجتمعية الحاضنة لتلك الأديان، فمن يكن ذا تفكير سلبي سيبحث عن تفسير سلبي للآيات القرآنية وللأناجيل وللعهد القديم، لتسفيه النساء أو للتحريض عليهن لإثبات وجهة نظره، ومن يكن ذا تفكير إيجابي سيجد أن الأديان في الكثير من آياتها ونصوصها المقدسة عظّمت من المرأة بكل تجلياتها وحالاتها، وحتى في لحظات ضعفها ورقتها الزائدة.
الغيرة تؤبّد الحبّ أم تقتله؟
ورغم تلك السيطرة الذكورية العنيفة، التي تدلّ إذاً على خوف من النساء أكثر مما تدل على المقدرة، تبقى نار التوق، وشغف اللحاق بالأنثى يُلهِب عقول الرجال ورغباتهم المعلنة وغير المعلنة، والتي قد تصل بهم حد القتل «غيرةً» عليها وثأراً لكرامة مهدورة عندهم بدلاً من محبةٍ عميقة وتقدير لمعنى أنوثتها. لأن منشأ الغيرة النفسي هو صراع الإرادات/ محاولة إخضاع ٍ متبادل بين المرأة والرجل.
وليست غيرة وغضب النساء وخوفهن من الرجل بأقل حدّة من تلك التي عند الرجل، إذ يمكننا أن نجد في كتاب «غضب ميديا» أمثلة عديدة عن عنف وسطوة ردود أفعال النساء فيما لو جُرحن أو أحسسن بطعنة في أرواحهن.
ما لفت نظري في كتب علم النفس التي تتحدث بشكل عام عن الغيرة باعتبارها «مرضًا نفسيًا» بدرجات متفاوتة، هو أنها تستخدم مفردتي الذكر والأنثى أو الرجل والمرأة أكثر بكثير مما تستخدم مفردتي العاشق والعاشقة، أو الحبيب والحبيبة، أو حتى الزوج و الزوجة، كأنها بالفعل تشير إلى «تربة دوافع الأنا العميقة» التي تنمو فيها الغيرة باعتبارها ذات منشأ سيكولوجي وليست ذات منشأ ثقافي أو عقلي ما فوق غرائزي، وبالتالي هي ليست دليل صحة وعافية في العلاقة، وليست مرتبطة بالحب أو بشدة الحب بين العاشقين بل على العكس هي دليل خلل وخوف وعدم ثقة. وهي بالتالي وبرأيي لا تؤبد الحب بل تؤبّد الحكايات والأشعار عنه. لأن المحب الحقيقي هو من يتألم بصمت يحترق ويذوي كمجنون ليلى، بينما استعبدت الغيرة بـ»عطيل» وأفقدته بصيرته فما عاد يرى في حبيبته وزوجته ديدمونة إلا مصدراً للشقاء والتعاسة والألم.
في كل رجل هناك شهريار، وفي كل أنثى هناك شهرزاد:
بحساسية شعرية ملفتة يقول أدونيس: «وذلك ما فعلته شهرزاد: لم تعلّم شهريار شيئاً. فتحت له باب المخيلة، وأغرته بالإقامة فيها. أرجأت المشكلة. أرجأت القتل. لكنها لم تبطلْه. لم تقدم حلاً. قدمت حيلة. أطالت أمد الوصول إلى التحرر. مع ذلك أسست لشيء مهم: علمت المرأة أن تفكر بعقلها هي، لا بعقل الرجل. نقلةٌ مهمةٌ في تهديم سلطة الذكر من داخل، وتهديم سلطة الإرث.» (تنويعات على آلام المتنبي في حلب»(أدونيس)
صحيحٌ أن شهرزاد حاولت تطويع وترويض الوحش الكامن في شهريار، لكن هل بالفعل قطفت النساءُ ثمارَ نجاحها؟ وهل أقنعت بحججها وقصصها من أتى بعد ذلك من رجال/ذكور/شهريارات آخرين؟ أم أنها زادتهم حيرة وخوفاً من ذكائها و»كيدها العظيم»؟
أذكر أنه في أثناء إعدادي لهذه الدراسة، وفيما كنت أكتب مقالة عن الجسد الأنثوي المشوَّه عبر القنوات الفضائية، وأبحث في كتاب توثيقي حول الحريم التركي، بعنوان «عالم الحريم خلف الحجاب» ترجمة علي خليل/ دار الكلمة) سألتني إحدى زميلاتي وأصرّت أن أجيبها بصدق حين انتقدت مسلسل «حريم السلطان» والنساء/الصبايا اللواتي تعلقنّ بالمسلسل وعوالمه: «ألا ترغب في أن تكون سلطاناً محاطاً بالنساء والمحظيات والخدم؟» أجبتها بلا تردد:»أعتقد أن في داخل كل رجل هناك شهريار، وفي كل أنثى هناك شهرزاد، لكن ما أنتقده هو شكل تعاطي الناس ووسائل الإعلام مع هذا الموضوع، وما يقدمونه باعتباره «الموضة» الأجمل لتتشبه بها الفتيات، وأنه النموذج الأرقى لما يمكن أن يحلم به الذكر ويبتغيه من النساء حوله.
وجودية الحب:
إن «الخوف من المرأة» يلعب دوراً في صياغة شكل العلاقة بين الرجل والمرأة سواء لجهة الطاقة/القوة الجبارة التي تحدث عنها فرويد (الليبدو) أو لجهة أنه عيبٌ ثقافيّ في مجتمع ما كرّسته عاداته وتقاليده وتطوراته الداخلية، وبالتالي بكونه نوعاً من «موضوع» قابل للدراسة والتحليل كما هي حال الموضوعات الفلسفية.
أحيل هنا إلى فلسفة سارتر الوجودية والذي برأيي كشف القناع عن سرّ من أسرار الحياة البشرية، فقد ربط بين الحب والحرية تحديداً، وتحدّث عن هذا «النزاع الأبدي» بينهما والذي لا يمكن حلّه، إذ يقول: «في سعينا إلى علاقة متبادلة، إلى فهم الإنسان الآخر وإلى مبادلته الحب، نريد، من حيث الواقع، إخضاع حرّيته المستقلة، وجعله مادة لرغباتنا.» كتاب «الإيروس والثقافة» المؤلف فياتشسلاف شتاكوف /دار المدى/ ترجمة نزار عيون السود.
في هذا الكتاب يذكرنا شتاكوف بالمثال الذي حلله سارتر، وهو بطل الروائي مارسيل بروست، والذي يسكن مع عشيقته ويمكنه أن «يمتلكها» طوال الوقت، والذي بدل أن يتحرر من قلقه واضطرابه، على العكس، فإن «الهموم تأكله»، ثم يختم سارتر مثاله بتعليقٍ غاية في الأهمية: «لا يمكن الوصول إلى الحب عن طريق القوة، تماماً كما لا يمكن امتلاك الآخر بحريّة دون خرقها. وإرادة السلطة والتملّك تؤدي إلى الخوف لا إلى الحب.»
جوهر المسألة إذاً، كما أراها، يكمن في الكلمة الأخيرة «الخوف»، فالعلاقة المبنية على الخوف من الطرف الآخر ستؤدي حتماً إلى الاقتتال، ومن ثم محاولة استعباده بدل استيعابه، بغض النظر عن نظريات علم نفس الحالات السادية والمازوشية.
هذه الإشكالية يحللها بكثير من الدقة عالم النفس الألماني (ثيودور رايك) إذ يفرّق بين الحب والشهوة الجنسية، ويدرس بعنايةٍ «سيكولوجيةَ العلاقات الجنسية» وبتحليل اجتماعي ثقافي معرفي وحتى وجودي وبيولوجي، يقول إنها أي الخلافات والمشاحنات وعدم التوافق أو التوافق بين الرجل والمرأة يجب فهمها بالرجوع إلى الأرضية التي ينبت فيها وعليها الحب، أي: «تربة عدم الرضا عن الذات»، هذه التربة المليئة بكل أنواع المشاعر السابقة والأقدم من «فعل الحب» أو من مشاعر الحب، ألا وهي مشاعر العنف والحسد وصراع الإرادات لاحتواء الآخر فكرياً ونفسياً، ليس الاحتواء بمعنى الفهم، بل الاستحواذ عليه واستدماجه في شخصية الفرد نفسه/نفسها. تحليل ثيودور رايك يعود ليتقاطع مع فكرة أن بعض أديان العالم التي تحدّثت بدقة أيضاً، إنما بكثير من الرمزية عن هذه الدواخل، والرغبات العميقة، وتلك الشهوات القابعة في الظلال عند الجنسين، إنما ساهمت أيضاً في زرع الرعب في نفس الرجل نحو المرأة/روح الأفعى الكيدية، وفي عقل وجسد المرأة نحو الذكر/»الوحش».
أيهما أهم الحب أم الحريّة؟
ربما بالحب المبني على الحرية أو على الإرادة الحرّة، تبقى حتى طاقة الجنس المكبوتة أو المنطلقة، طاقة إيجابية بنّاءة وليست هدّامة، خلاّقة وليست سكونيّة، ويصبح الحب صمّام أمان بين الرجل والأنثى، صمّام أمان للمجتمع بأكمله.
ولأن لكل شيء أصلا فإن الحكاية تتجوهر في الحكمة المنبثقة عما هو كلام الرب لجميع خلقه، وأختتم بهذا المقطع الشهير من الكورينثيّات:
إن كنتُ أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبةٌ فقد صرتُ نحاساً يطنّ أو صنجاً يرنّ/ وإن كانت لي نبوّةٌ وأعلمُ جميعَ الأسرار وكلَّ علم، وإن كان لي كلُّ الإيمان حتى أنقلَ الجبال ولكن ليس لي محبةٌ فلستُ شيئاً/ وإن أطعمتُ كل أموالي وإن أسلمتُ جسدي حتى احترَق، ولكن ليس لي محبة فلا أنتفعُ شيئاً/ المحبّة ُ تتأنّى وترفقُ/ المحبة لا تحسد/ المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ/ المحبة لا تقبِّح ولا تطلبُ ما لنفسها، ولا تحتدُّ ولا تظن السوء(…) المحبّةُ لا تسقط أبداً.