الثقافي

الأسطول البحري العُماني في صفحات التاريخ

كان لموقع عُمان الاستراتيجي المطل على عدة بحار واشتغال معظم سكانها بالتجارة والملاحة والصيد أثر كبير في دفع العُمانيين إلى بناء الأساطيل العسكرية؛ لتكون سدًا منيعًا في حماية البلاد من الغزوات الخارجية، وحماية الموانئ والسفن التجارية العُمانية. ويعتبر الإمام غسان بن عبد الله اليحمدي (192-207هـ/807-822م) أول من أنشأ أسطولًا حربيًا لعمان في العصر الإسلامي؛ من أجل حماية الشواطئ العُمانية، وتأمين الطريق البحري من القراصنة، كما قام الأسطول العُماني في عهد الصلت بن مالك الخروصي (237-273هـ/851-886م) بتحرير جزيرة سقطرى -التي كانت تابعة لعمان- من الأحباش، الذين احتلوها وقتلوا الوالي العُماني فيها.

عماد بن جاسم البحراني
باحث وكاتب في التاريخ

الأسطول العُماني في عصر اليعاربة
عند قيام دولة اليعاربة في عام 1624م أنشأ مؤسسها الإمام ناصر بن مرشد اليعربي أسطولًا بحريًا بهدف مقاومة الاحتلال البرتغالي لعمان وتحرير البلاد، وبعد وفاة الإمام ناصر بن مرشد في عام 1649م، تم انتخاب ابن عمه سلطان بن سيف بن مالك اليعربي لمنصب الإمامة، وقد صمم الإمام سلطان بن سيف الأول على تعزيز وتطوير الأسطول البحري العماني؛ لإدراكه أن امتلاك قوة بحرية قوية أمر حاسم لتأمين سواحل بلاده وتجارتها من الهجمات التدميرية البرتغالية. وقد استطاع الإمام بفضل هذه الأسطول فرض حصار بحري على البرتغاليين في مسقط لعدة أشهر، مكنه من تحرير مسقط في 23 يناير 1650م.
وبعد تحرير الأراضي العمانية قام الإمام سلطان بن سيف الأول بتحديث الأسطول البحري، فاستبدل السفن القديمة بسفن حديثة من الطراز الأوروبي بني أغلبها في سورات بالهند وبعضها تم شراؤه من الهولنديين والإنجليز بالإضافة إلى السفن التي غنمها العُمانيون من معاركهم ضد البرتغاليين.
عن ذلك تقول الباحثة الإماراتية الدكتورة عائشة السيار:«وللفخر فإن دولة اليعاربة هي من أوائل الدول الإسلامية التي اقتبست من الغرب الكثير في بناء أسطولها، ذلك الأسطول الذي صارت الدول الأوروبية تحسب له حسابًا».
ولم يكتف الإمام سلطان بن سيف الأول بطرد البرتغاليين من عُمان، بل طاردهم في المحيط الهندي وشرق أفريقيا، بعد أن طلب منه أهالي زنجبار المساعدة في تحرير بلادهم من الاحتلال البرتغالي.
وعلى ساحل الخليج العربي كانت جلفار -رأس الخيمة حاليا- قاعدة للحملات العُمانية ضد الوجود البرتغالي في الخليج، حيث هاجم العمانيون المراكز البرتغاليون في لارك، كنج، هرمز، وقشم)، وكانت الحملة على قشم في عام 1668م. وتكبد البرتغاليون خسائر فادحة جراء هذه الحملات العُمانية.
ويذكر تقرير هولندي أن الأسطول العُماني في عهد الإمام سلطان بن سيف الأول كان يتكون من خمس عشرة أو ست عشرة وحدة تتضمن ثلاث أو أربع سفن شراعية كبيرة مربعة أو سفينتين شراعيتين مربعتين صغيرتين، وتسع أو عشر سفن صغيرة. وبلغ مجمل السلاح الذي تزودت به جميع تلك السفن من تسعين إلى خمسة وتسعين مدفعاً ومعظمها من العيارات الخفيفة.
وفي عهد الإمام سيف بن سلطان الأول الملقب بقيد الأرض (1692-1711م) تمكن الأسطول العماني من طرد البرتغاليين من ممباسا، في عام 1698م. كما سيطر على بيمبا وزنجبار وبته وكلوه، وكانت موزمبيق هي الوحيدة التي قاومت الاسطول العُماني وبقيت بأيدي البرتغاليين إلى القرن العشرين.
وعن قوة الأسطول في عهد «قيد الأرض» يذكر دكتور فراير الذي زار الخليج في فترة حكمه: «إن العُمانيين قد اكتسبوا ‏مكانات بحرية هائلة، وأن نشاطهم يهدد بندر عباس، لدرجة أن الفرس طلبوا من الإنجليز ‏حمايتهم من العُمانيين».
وذكر لوكير الذي زار مسقط في عهد سيف بن سلطان الأول أنه شاهد واحدة من السفن العُمانية وهي مجهزة بسبعين مدفعاً، وأضاف أن الأسطول ‏العُماني تمكن من أسر واحدة من أغنى سفن كلكتا، وكانت تحت قيادة الكابتن ميرفيل ‏وعلى الرغم من أعمال الأسطول العُماني ضد السفن الإنجليزية، إلا أن الشركات ‏الإنجليزية التي تملك هذه السفن لم تقم بعمل مضاد ضد عرب عُمان. ‏
ووصف الرحالة بروس الأسطول العُماني في عهد سيف ‏بن سلطان قائلاً:» كان الأسطول العُماني هائلاً لدرجة أثارت الرعب ‏في نفوس الأوروبيين، وكل الدلائل تؤكد إنهم كانوا يسيطرون على الخليج كله». ‏
أما في عهد ابنه الإمام سلطان بن سيف الثاني فقد بلغ الأسطول شأنا كبيرًا من التفوق، فقد كان قوة مهابة في المحيط الهندي. وسبَّب التفوق العُماني قلقًا للبرتغاليين؛ مما دفعهم إلى زيادة معداتهم على طول الساحل الهندي.
ونستطيع القول إن الأسطول البحري العُماني شهد عصره الذهبي إبّان عهد دولة اليعاربة، فقد تطورت البحرية العُمانية بشكل لافت خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي، وقام الأسطول بدورٍ رئيسيٍ في تحرير عُمان من الاحتلال البرتغالي، كما تمكن من مطاردة البرتغاليين في سواحل الخليج العربي والهند وشرق أفريقيا، وأصبح قوة ضاربة في المنطقة، يحسب له ألف حساب بشهادة المستعمرين الأوروبيين أنفسهم.
ويمكن التعرف على المدى الذي وصلت إليه البحرية العُمانية في عهد اليعاربة من ‏خلال كتابات هاميلتون الذي ذكر أن البحرية العُمانية كانت تتكون من مئات السفن ‏الكبيرة ذات الحمولات المختلفة من المدافع الكبيرة والصغيرة. ‏
فيما قال الرحالة فريرز: «إنه من الضروري عدم استفزاز العُمانيين؛ إذ إننا لن نجني من ‏وراء ذلك سوى ضربات تنهال علينا». وقال المؤرخ الإنجليزي كوبلاند: «إن البحرية ‏العمانية في بداية القرن الثامن عشر أصبحت تفوق أية قوة بحرية أخرى لدرجة أن ‏الأساطيل الإنجليزية والهولندية كانت تخشى مواجهة العُمانيين».
أما مايلز فقد ذكر: «إن ‏اليعاربة قد صارت لهم السيادة الفعلية على المحيط الهندي، وأصبحت سفنهم تنشر ‏الرعب في قلوب الأوروبيين لمدة قرن ونصف». ‏
الأسطول العُماني في عصر البوسعيد
عندما أصبح أحمد بن سعيد البوسعيدي إماماً على عُمان في عام 1749م كانت البلاد تعاني من الاضطرابات وعدم الاستقرار، لذا سعى إلى إعادة بناء الأسطول الذي تعرض للإهمال خلال فترة الحرب الأهلية والغزو الخارجي في أواخر العصر اليعربي.
ففي عام (1775م) كان الأسطول البحري العُماني يتألف من 24 سفينة، أربع منها مزودة ب44 مدفعاً، وخمس فرقاطات تحمل كل منها 18 إلى 24 مدفعا، أما البقية فكانت من النوع الذي تتراوح أسلحته بين 8 و14 مدفعا.
وقد قام الأسطول العُماني في عهد الإمام أحمد بن سعيد بمساعدة شاه علم إمبراطور المغول في الهند وعاونه في حربه ضد القراصنة الذين كانوا يعوقون التجارة بين مانجالور في ساحل الهند الغربية وبين مسقط، وتوجت هذه العلاقة بإبرام معاهدة عام 1766م التي نصت على استمرار علاقات الصداقة، وإنشاء دار في مسقط لمبعوث الحاكم المغولي الذي أصبح يعرف ببيت نواب.
كما ساهم الأسطول العُماني في تحرير مدينة البصرة من الفرس في عام 1775م، بعد استنجاد القبائل العربية في البصرة بالإمام أحمد بن سعيد، وقد قال زعيم حلف قبائل المنتفق العراقية عند وصول السفينة الرحماني بقيادة السيد هلال بن أحمد بن سعيد إلى البصرة:» ياخوي نحن سقماء وأنتم حكماء، داوونا والمعافي هو الله».
وفي عهد السيد سلطان بن أحمد بن سعيد البوسعيدي (1792 – 1804م) كان الأسطول العُماني يتكون من حوالي 500 سفينة، ذات حمولة تتراوح بين 250 و1000 طن عدا 100 سفينة أخرى يمتلكها أهل صور، ويرجح أن هذه السفن كانت سفناً تعمل في التجارة والقتال أيضا إذا لزم الأمر، ذلك أن المصادر التاريخية أشارت إلى أن السفن الكبيرة المخصصة للقتال وحده لم تزد على ثلاث سفن.
كما كان للأسطول العُماني في عهد السيد سلطان بن أحمد نشاط كبير، حيث شن حملات عديدة على قشم وهرمز والبحرين. واستطاع بسط نفوذه على الموانئ المهمة في ساحل مكران واستولى على ميناءي شهبار وجوادر، وتمكن كذلك من السيطرة على ميناء بندر عباس الإيراني.
وفي عهد خليفته السلطان سعيد بن سلطان (1806-1856م) اتسع نفوذ الدولة العُمانية بشكل لم يشهده مثيل من قبل بحيث أصبحت كافة المناطق الواقعة بين بندر عباس على الساحل الشرقي للخليج العربي إلى ميناء زنجبار على الساحل الشرقي لأفريقيا منطقة نفوذ عُمانية، هذا بالإضافة إلى أن العديد من الجزر الواقعة في مدخل الخليج والمحاذية للساحل الشرقي للخليج، وكذلك إلى جزر بحر العرب والمحيط الهندي بما فيها أرخبيل جزر القمر كانت تحت النفوذ العُماني، لذا كان من الطبيعي أن يتطور الأسطول التجاري والحربي في عهده؛ ليحافظ من خلاله على هذه الامبراطورية المترامية الأطراف. وتشير المصادر التاريخية إلى أن السيد سعيد بن سلطان استعان بخبراء من بريطانيا وهولندا والبرتغال وفرنسا لتفقد السفن المصنعة له ‏في ترسانات السفن في بومباي. ‏
وكان ‏الأسطول العُماني آنذاك يتكون من مائة سفينة متعددة الحمولة مزود كل منها ‏ما بين عشرة مدافع إلى أربعة وسبعين مدفعاً إضافة إلى مئات المراكب التجارية ‏الصغيرة. ‏ومن أبرز سفن الأسطول العُماني في منتصف القرن التاسع عشر (شاه علم، كارولين، ليفربول، سلطانة، فكتوريا، تاج بكس، تاجه).
وتعد السفينة «سلطانة» من أهم دعائم أسطول السيد سعيد بن سلطان، وقد بنيت في حوض مازاجون لبناء السفن في مدينة بومباي سنة 1833م، وكانت حمولتها حوالي 312 طنا، وزودت بـ14 مدفعا، فيما كانت أشرعتها مربعة تحملها ثلاثة صواري، وقد دخل عليها في كل من بومباي ومطرح فيما بعد بعض التعديلات ذات الطابع العُماني.
في الثالث عشر من شهر أبريل عام 1840 م وصلت سلطانة وعلى متنها المبعوث أحمد بن النعمان الكعبي إلى ميناء نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية وكان وصولها ثمرة لمعاهدة الصداقة والتجارة التي عقدها السيد سعيد مع أمريكا في سنة 1833م.
وفي يوليو 1840م بدأ أحمد بن النعمان يتهيأ لرحلة العودة حيث تم شحن السلع، وأبحرت (سلطانة) من ميناء نيويورك في التاسع من أغسطس عام 1840م. وبعد رحلة طويلة شاقة وصلت السفينة إلى زنجبار في 8 ديسمبر1840م، بعد أن توقفت لمرة واحدة فقط وذلك في مدينة كيب تاون بجنوب أفريقيا.
أما السفينة فكتوريا فهي احدى قطع الأسطول العُماني الشهيرة، وسبب شهرتها يعود إلى أن السلطان سعيد بن سلطان قد قام بآخر زيارة له إلى عُمان على متنها، وفي طريق عودته إلى زنجبار أصيب بألم شديد في ساقه نتيجة جرح قديم، وتوفي على إثره وهو على متن السفينة فكتوريا، ودفن بزنجبار في سنة 1856م.
وشكلّت وفاة السيد سعيد بن سلطان بداية النهاية للأسطول العُماني، بعد أن انهارت بوفاته الدولة الأفروآسيوية التي أنشأها، وشهدت عُمان تراجعاً على جميع الأصعدة، وطويت بذلك صفحة مشرقة من تاريخ عُمان، كان الأسطول البحري هو العمود الفقري في قوة الدولة عسكرياً واقتصادياً لعدة قرون.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق