الثقافي

سوسن دهنيم: القصيدة لا تسعى إلى غنائم الحروب

هي حفيدة الدلمونيات، وارثات أسرار جلجامش، وزارعات عشبة الشعر الخالدة في كبد الأرض. تسللت إلى مخدع الشعر طفلة صغيرة، لتجد ملاذها وسكينتها في حدائق المعرفة وعلى بين ينابيع القصيدة. الشعر غيمتها الماطرة في أزمنة الجدب، وهو بيتها الرحب، تأوي إليه من صخب الحياة وآلام الواقع ومكابدات العيش. إنها الشاعرة البحرينية سوسن دهنيم، صاحبة (لمس) و(غائب ولكن) و(قبلة في مهب النسيان) و(كان عرشه على الماء). التقتها (التكوين) لتقلب معها جانبا من أوراق الحياة والشعر والذكرى، فقابلتنا برحابة القصيدة، وفتحت فضاءات قلبها مثل سواحل البحرين الفسيحة النقية، لتبوح عبر هذا الحوار الماتع العميق.

التكوين: المنامة

طفلة في المكتبة
تتحدث سوسن دهنيم في البداية عن الطفلة التي أغواها طائر الشعر فراحت تلاحقه لتنسج معه لاحقا قصة عشق أزلية. فهي كما تقول: كنتُ الطفلة الأخيرة في أسرة تكتب الشعر بشكليه العامي والفصيح، تفتحت عيناي على ثلاث مكتباتٍ في ثلاث غرفٍ تحوي كل أصناف الكتب ومجالاته. هذي المكتبات التي خلقت اثنتان منها شغفي بالقراءة ومن ثم محاولة مجاراة ما أقرأ بالقلم، كانت بداية محبتي للأدب واهتمامي بتثقيف نفسي. كنتُ طفلةً لا تقرأ قصص الأطفال بقدر اهتمامها بقراءة الشعر والرواية وكتب الفكر والفلسفة، كل تلك القراءات كانت خلسة، فكان «من غير اللائق» أن تقرأ طفلة ذات العشرة أعوام دواوين لنزار قباني والمتنبي والسياب ونازك الملائكة وجواد جميل وأحمد مطر، أو روايات لإحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ وحنامينا، أو كتب مركز دراسات الوحدة العربية بما تحتويه من أفكار «كبيرة» على طفلة.
وتضيف سوسن: هذه القراءات خلقت بداخلي إنسانا ناضجا يعي الكثير مما حوله، يفهم معنى الغياب والفقد والحب والألفة والغربة والوطن. ولهذا حين توفي والدي وأنا في المرحلة الابتدائية كان لذلك عظيم الأثر علي. فانزويت إلى الكتب أكثر وبدأت أحاول الكتابة حول هذا الغياب الذي لم أشفَ منه حتى اليوم. إضافة إلى رؤيتي لأمي الأرملة الشابة التي عليها أن تقوم بتربية ثمانية أولاد وحيدة فتحفر الصخر كي لا يشعروا بنقص معنوي أو مادي.
ولم يكن الألم وحده من شكلني، بل كنتُ طفلة مدللة لدي الكثير من الألعاب التي ساعدتني في إيجاد قصص كثيرة، ولدي صديقات كثيرات جربنا معًا كل أنواع الشقاوة والمرح.
كل هذه أثرت على شخصيتي ورسمت بداخلي الشاعرة التي يخفق قلبها للفرح والحزن والفقد والحب. وهذا ما شعرت به معلماتي منذ المرحلة الإبتدائية، فكن يشجعنني على الكتابة ويتنبأن بمستقبل مليء بالحروف، فكان لهن فضل لا ينسى علي.
وعن تجربة ديوانها الأول(غائب ولكن) المشترك مع الشاعرة منى الصفار تقول سوسن دهنيم: «غائب ولكن» كان مولودي الأول، ولولا الشاعرة البحرينية فاطمة التيتون لما ظهر للنور، ولربما ما ظهر غيره كذلك. كنتُ أكتبُ نصوصي في دفاتر – ما زلتُ أحتفظ بها- ومنى الصفار كذلك، ولأن التيتون كانت معلمتنا في الثانوية، فقد ارتأينا أن نطلعها على ما نكتب لتبدي رأيها على كل نص، كانت توجهنا وتقترح علينا ما نقرأ، إلى أن فاجأتنا بفكرة نشر ديوان مشترك، فاختارت النصوص لكل منا، وقامت مشكورة بكل الإجراءات حتى نشرنا ديواننا الأول ونحن في المرحلة الثانوية، لأصدر مجموعتي الثانية «قبلة في مهب النسيان» وأنا في المرحلة الجامعية.
ولأنني لست ممن يتبرأون من أبنائهم، مازلت أهدي بعض المهتمين هذا الكتاب، فأنا أعرف أن فرق الزمن والسن والفكر له دور كبير في تركيبة النص، وما زلت فخورة بمستوى نصوصي في تلك الفترة.
الكتابة للوقوف على القدمين
سوسن دهنيم تمثل لها الكتابة ملاذا آمنا من سطوة الحياة وأحزانها. تلجأ للقلم في لحظة الألم واليأس، لتتنفس الحياة وتعود إلى سكينتها. تعبر سوسن دهنيم عن ذلك قائلة: لو قلتَ لي ما هو نوع الهواء الذي تتنفسين لقلتُ لك: الحرف، قراءةً وكتابة. فالكتاب رفيقي الدائم وقت السعادة والراحة، وكلما ضاقت بي الأرض بمن عليها لجأتُ لقلمي.
أنا لا أكتبُ حين أكون سعيدة، بل أكتبُ سعادتي المرجوة وأنا في قمة حزني. أكتبُ العشق وأنا في قمة الخذلان. أكتبُ الحزن حين لا أقوى على البوح به. أكتبُ الفقد حين لا أجد إلا المسافات تتسع أمامي.
الشعر بالنسبة لي العتاب الذي لا يسمح لي الآخر به، هو تجسيد الحلم الذي أتمناه كل لحظة، صرختي حين لا يسعفني صوتي على الصراخ، تنهيدتي الحارة حين لا أجد الهواء، وابتسامتي الباردة حين أشعر بالوجع.
لولا الكتابة لما استطعت اليوم الوقوف على قدمي، ولما واجهت كل هذا الخذلان والفقد والألم بابتسامتي التي لا تراها تغادر شفتيّ. الشعر دوائي وملجئي والحضن الذي يجيد الطبطبة علي.
وتواصل سوسن دهنيم بوحها: إنني لا ألجأ للقلم إلا عندما تجتاحني المشاعر السلبية ليكون متنفسي. ولهذا كان للفقد دور كبير في تجربتي؛ فقد توفي والدي مذ كنتُ في الثامنة من عمري، ورأيتُ معاناة والدتي التي كان عليها أن تعيل ثمانية أطفال، وكنتُ أشعر بكم الألم العربي من خلال قراءاتي ومتابعة ما ينشر في الصحف عن أوضاع عالمنا العربي. كنتُ ملجأ لكثير ممن حولي حين تضيق بهم الدنيا منذ نعومتي أظفاري؛ من هنا كنت أجد مواضيع الكتابة، ولأنني عشقتُ عشقا صادقا، كتبتُ في الحب حين يهم بي الشوق، ولأن هذا العشق انتهى بالفقد أيضا عدتُ إلى كتابة وجعي ومعاناتي من جديد.
ليس بالضرورة أن أكتب الحزن حين أشعر به، بل أكتب الفرح المرجو والحب والانتصار، وبهذا أكون قد تجرعت الدواء الذي يخرجني مما أنا فيه.
وتكشف سوسن دهنيم عن تجربة الفقد التي عاشتها في حياتها قائلة: «الفقد»، هذه الكلمة التي تمنيت لو أنها لم توجد في القاموس بكل اللغات، لو أن الألم الذي تخلّفه لم يُخْلَق. حين ظننتُ أنني برئتُ من فقد والدي أعاد القدر لي تلك المشاعر مضاعفة حين فقدتُ حبيبي الذي حاربت الدنيا بأسرها لأجله، بعد أن عشتُ معه تسع سنوات كانت الأجمل في حياتي على الإطلاق. كنتُ أخشى الفقد ولهذا كتبتُ ديواني الرابع «لمس» لأتحدث عن لمس الأرواح، وأنا التي كنتُ أعيش اللمس بكل معانيه، بعد أن أحببت وتزوجت من شاعر وموسيقي كفيف البصر. «لمس» كتب وأنا في تلك الحال من العشق والسعادة، لكنه كان نبوءة لفقد كل هذا بعد فقد مصدره، لم ينشر «لمس» إلا بعد وفاة «حسين الأمير» فجاء بمثابة توثيق لهذه التجربة. وكل من قرأه ظنه كتب بعد وفاته، على الرغم من أنه أبدى رأيه فيه قبل الرحيل.
هذا الفقد ما زال اليوم محرّضي على الكتابة، فكلما اشتد الشوق كتبت، وكلما تذكرت السعادة تلك كتبت، وكلما نبض قلبي حباً وولهاً كتبت، وكلما رأيتُ «قيس» و «رند» الوردتين اللتين خلفهما هذا الحب كتبت.
الحب والفقد والعزلة
وإلى جانب الفقد تتحدث سوسن دهنيم عن مكابدة أخرى تتمثل في قيم المجتمعات تقليدية التي تحكمها العادات والتقاليد الصارمة، وتبعات ذلك على الشاعرة والمثقفة بشكل عام فتقول: نعم مجتمعاتنا كذلك، ولكن على المرأة أن تحارب لأجل تحقيق أحلامها، وما دامت قوية ستجد هذا المجتمع يرحب بها ويحترمها.
الشاعرة اليوم في بعض المجتمعات وعند بعض الأسر خارجة على التقاليد والعادات خصوصا حين تكتب عن الحب أو أي تابو يمنع عليها التحدث عنه، لكنني ولله الحمد تزوجت برجل كان لا يرى في هذا إلا انتقاصا من حق المرأة؛ ولأنه كان يكتب الشعر ويحترف الموسيقى ويقرأ بنهم برغم إعاقته البصرية، شجعني وأجبرني على التعبير عن نفسي والمشاركة في المنتديات والملتقيات في الدول العربية والعالمية فكان له الفضل الأكبر فيما أنا عليه اليوم.
وتتحدث سوسن دهنيم عن طقوسها الخاصة، عن هروبها الدائم من الضجيج والأصوات، إلى العزلة ومناخاتها الفسيحة للمرء، ذاك لأن الشاعر، كما تقول سوسن، حساس بطبيعته، يجنح إلى الهدوء. ولأن في العزلة هدوءًا لذيذًا، وجدتُ نفسي أفضلها في كثير من الأوقات، خصوصًا حين أعمل على تجربةٍ كتابيةٍ جديدة. لكنني بالطبع لا أستطيع العيش وحيدة طوال الوقت، فأنا كائن اجتماعي بامتياز، وأحب مخالطة الناس وحضور الفعاليات الثقافية والفنية وهو ما يحدث في الغالب. وتكرار هذه المفردات في نصوصي نتيجة طبيعية لنظامي في الكتابة، فأنا لا أكتب لحظة الفرح، بل أعيشها بكل ما تحمله من جنون وصخب ورقص وشقاوة. الكتابة ملجئي حين لا أجد هذا الفرح أو حين أتعرض للخذلان.
ولأن القصيدة أنثى، فإن سوسن دهنيم ترى فيها شقيقتها الأخرى التي تشبهها، لذلك فهي تكسوها بكل تفاصيل الأنثى التي تريد، إذ أن كل إنسان، وفق تعبير سوسن دهنيم، يكتب ما يشعر به وما هو عليه، لا يوجد رجل كتب أنثى كما تكتبها هي، وبطبيعة الحال لا يمكن وجود العكس. أكتب ما أشعر به بمفرداتي وتكويني النفسي والجسدي والشعوري. المرأة اليوم تكتب نفسها، محيطها، قضاياها، وقضايا العالم من حولها، تماما كما يفعل الرجل، ولأن التكوين البيولوجي والفسيولوجي مختلف تجد لكل خطابه.
كما تريد القصيدة
أما فيما يتعلق برؤيتها الجمالية للقصيدة وتعاملها مع اللغة أثناء الكتابة فتقول سوسن دهنيم: كنتُ أكتبُ القصيدة كما تجيء، لكنني أعود لأهدم ما بنيته كلما وجدتها موزونة، لأنني كنتُ أفضّل كتابة قصيدة النثر على أي شكل آخر برغم حبي لقراء جميع أنواع الشعر، لكنني انتبهتُ لخطئي بعد ذلك، وقررتُ أن أنشر القصيدة كما تريد هي لا كما أتمناها أنا. كنت أخجل من نشر قصيدة تفعيلة أو عمود لأنني عرفت شاعرة نثر، لكنني اليوم أفخر بأني أكتب كل الأنواع وأنشرها.
بطبيعتي لا أحب البسيط والعادي في أي شيء، ولا أحب لملمة الأشياء والأشخاص لأكوّن منهم وحدة واحدة، لهذا أهندس نصي كما أهندس حياتي. لقد كتبتُ نصوص آخر مجموعتين شعريتين ليكونا ضمن جو واحد، وموضوع واحد، إذ كان ديوان «وكان عرشه على الماء» يتحدث بمجمله عن الماء كثيمة أساسية، فقسمته إلى ثلاثة فصول: سيرة الماء، سيرة العشق، سيرة العرش. بينما جاء ديوان «لمس» ليحمل نصوصاً تترجم عنوانه؛فقسمت فصوله إلى ستة، أولها اللمس بين الأحبة، فاللمس بين الأشياء من حولنا، ثم اللمس بين الأم وطفلها، والكتابة باعتبارها لمسا، واللمس عند الأعمى، وأخيرا اللمس في الصلاة.
واليوم أنتظر صدور مجموعتي الجديدة التي تتحدث عن سيرة غريب يهرب من جور قبيلته فيلتقي «سمراء المنامة» في الباخرة، يحبها وتحبه، لأحكي سيرة هذا الحب منذ خروج الغريب من بلاده هرباً حتى لقائه بحبيبته في الباخرة وحياته الجديدة في وطنه الجديد. وفي هذه المجموعة زاوجتُ للمرة الأولى بين التفعيلة والنثر ليكون كلام العاشقة كله تفعيلة بينما كلام الراوي والعاشق نثرا.
القصيدة لدى الشاعرة سوسن دهنيم كائن ناعم صادم، يمكن له أن يعيد ترميم النفس والروح والقلب. وهل هناك أهم من هذا الترميم؟
حين يلجأ إليها العاشق فيجدها تتحدث بلسانه، وتلجأ لها الولهى فتجدها تواسيها، ويلجأ لها المتعب فيجد في حروفها سكينة، وتلجأ لها الأم لتجد فيها رائحة قمصان أبنائها. كل هذا يمكن أن يرمم الروح ويبهج القلب. وحين ترمم أنفس وأرواح الناس لابد وأن يترمم المجتمع، فقط لو أننا نصغي لصوتها، ونجعلها دستور حياة يوازي الدساتير السياسية التي مزقتنا.
وانطلاقا من هذا الإيمان بالقصيدة وقدرتها على التغيير ومواجهة القبح تذهب سوسن دهنيم إلى أن القصيدة اليوم تباغت المرء في بيته، يمكنه أن يستمع لأمسية شعرية كاملة في غرفة نومه من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، يمكنه أن يقرأ كتابا شعريا على طاولة طعامه، يمكنه أن يهدهد أطفاله بقصيدة يقرؤها من هاتفه. هي حاضرة في مكان اليوم، لكن صوتها لن يعلو إلا حينما نسمح لها بالدخول إلى عالمنا من غير أن تشعر بالغربة. هي اليوم تعاني الغربة لأنها لا تريد الدمار، ولا تحب الدماء، ولا تسعى إلى غنائم الحروب. ومن لا يهتم بكل تلك الأمور لابد أن يجد صوت القصيدة حاضرا في حياته بقوة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق