مقالات

أصبحت الآن.. حرًا

زاهر بن حارث المحروقي

من خلال متابعتي للأحداث المحلية، رأيتُ أنّ الكثير من الشائعات التي انطلقت في مواقع التواصل، ما لبثت أن تحوّلت إلى حقيقة وواقع. – ولست بصدد تعداد كلّ تلك الشائعات الآن – فما يهمني في مقالي هذا، هو شائعة إحالة من أكمل ثلاثين عامًا في الخدمة إلى التقاعد، وما رافق تلك الشائعة، من أنّ المتقاعد سيأخذ نصف مكافأة الخدمة، لحظة خروجه من العمل، فيما سيأخذ النصف المتبقي “عندما تتحسن الظروف”.

هذه الشائعة شغلت بالي كثيرًا؛ وكنتُ في حيرة من أمري. هل أتخذُ القرار وأقدّم استقالتي من العمل، أم أنتظر، لعل الظروف تكون أفضل؟!. إنّ مبعث الحيرة هو رغبة النفس في نيل المكاسب، فماذا لو قدّمتُ الاستقالة وقُبلت، وتبيّن فيما بعد، أنّ الشائعات كانت خاطئة، وأنّ الظروف المادية للعاملين تحسّنت، على أقل تقدير تم ترقيتُهم، وتم توحيد مزايا التقاعد، التي انتظرناها طويلا ولم تتحقق؟!. وفي الحالة هذه ألن أكون قد خسرتُ وظلمتُ نفسي وعرّضتُ النفس للندم؟. ولكن – على طريقة فيصل القاسم في طرح التساؤلات في برنامجه الاتجاه المعاكس – إذا كانت الشائعة صحيحة، وأحيل العاملون إلى التقاعد، وأنا قد استقلت قبل تطبيق القرار، ألن أكون قد فزتُ وخرجتُ بكرامتي غير مطرود، ولسانُ حالي يقول “بيدي لا بيد عمرو”؟.

ظللتُ في حيرتي تلك بين الإقدام والإحجام؛ مرةً تقولُ لي نفسي: “أقدم، فأنت الرابح في هذه الخطوة، فلن يتحقّق لك شيء إذا استمررت في العمل، وبالتالي ليس لديك ما تخسره”، ومرةً تقول لي نفسي: “ويحك. إنك ستندم وتردّد لنفسك كثيرًا { يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً}، عندما ترى أنّ الترقيات قد انهالت على الموظفين، وأنّ قانون التقاعد قد تغيّر لصالح موظفي الخدمة المدنية”، ومرةً ثالثة تأمرني نفسي بأن “أتغدى بهم قبل أن يتعشوا بي”.

أمام هذه الحيرة، لم يكن أمامي إلا اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى؛ فهو دليل المتحيّرين، والملجأ والنصير في الشدة، وكلُ إيماني أنّ الله سبحانه، لن يضيّع من يلجأ إليه مخلصًا؛ فكان الجواب في قلبي “توكّل على الله”.

ربما يتساءل من يقرأ مقالي الآن، عن السبب الذي يجعلُ موظفًا قضى في وظيفته أكثر من أربعين عامًا، مع ذلك يتردد في الخروج؟!. سؤالٌ كهذا في محله تمامًا، إذ قد تبدو المسألة أنها تشبث بالوظيفة؛ ولكن الواقع غير ذلك تمامًا. فأنا من المؤمنين جدًا بإفساح المجال للأجيال في كلِّ مواقع العمل، ولي عدة مقالاتٌ تتحدّث عن العمل وعن الترهل فيه، إذ كتبتُ مقالا تحت عنوان “التقاعد المبكر.. فرصة للإحلال الوظيفي”، نُشر في جريدة الرؤية العمانية بتاريخ 22 إبريل 2013، ذكرتُ فيه وجود فائض من العاملين مقابل أعمال قليلة أو معدومة، وهو ما يعرف ب”البطالة المقنعة”، وذكرتُ بعض الحلول التي قد تساعد على القضاء على هذه البطالة، منها  تطبيق سياسة “التقاعد المبكر” مع بعض الامتيازات لتشجيع الموظفين على الخروج المبكر من العمل لفتح الباب أمام موظفين آخرين جدد، مقابل ميزات تحفيزية وتشجيعية، لأنّ في ذلك فرصة لضخ دماء جديدة، بدلا من الطاقات التي أعطت بإخلاص خلال السنوات الماضية، حيث يُعتبر ذلك الجيل الذي عمل في السبعينيات والثمانينيات من الجيل المؤسس والباني لعُمان، وهو جيل كان يؤمن بقيمة العمل،  وتربّى على تقديم الواجبات على الحقوق، “لأنّ هناك مشكلة تواجه الكثيرين ممّن يرغبون في التقاعد المبكر، وهي ضآلة راتب التقاعد أمام التزامات الحياة الكثيرة، ولا يوجد نظام تقاعد موحّد في أجهزة الدولة المختلفة، رغم أنّ العطاء كان واحدا؛ فهناك نظام تقاعد مختلف لموظفي ديوان البلاط السلطاني وكذلك للأجهزة العسكرية والأمنية وأجهزة الخدمة المدنية والقطاع الخاص، ممّا قد يراه البعض، أنه تفرقة بين المواطنين العمانيين، ممّا يوجب الآن التوقف عند هذه النقطة ودراستها، مع التركيز على توحيد صناديق التقاعد كلها في صندوق واحد”. وأظن أنه لا جديد حتى الآن منذ كتابة ذلك المقال.

كما أني كتبتُ مقالا آخر تحت عنوان “ترهل في الجهاز الإداري للدولة”، نُشر في جريدة الرؤية العمانية بتاريخ 16إبريل 2012، أي قبل شهرين كاملين من تصريح معالي يوسف بن علوي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية، الذي تحدّث فيه عن ذلك الترهّل، فنُسبَتْ عبارةُ “الترهل” إليه أكثر من مرة. 

وعلى صعيد التطبيق في العمل، فقد توقفتُ عن قراءة النشرات الإخبارية طواعيةً في الإذاعة، لإفساح المجال للأجيال الجديدة، وكثيرًا ما كنتُ أحدّث الزملاء، بأنّ الوقت قد حان للتوقف وإفساح المجال للآخرين، رغم إيماني التام، بأنّ الإعلامي الحقيقي ليس له حد للتوقف، إلا إذا أصيب بأمراض.  ومرةً قلت للزميل بدر الظفري “لو كنتُ أقرأ النشرات الإخبارية – أنا والزملاء حسن سالم ومحمد المرجبي وهلال الهلالي وغيرنا من القدامى – بالتأكيد لن يجد الجيل الجديد فرصته”.

عوةً إلى جواب قلبي لي، بأنْ “توكّل على الله”، بعد أن سألتُه واستخرْتُه وطلبتُ منه العون، بأنّ الاستقالة إن كانت خيرًا لي فيسِّرها لي يا رب، وإن كان البقاء خيرًا لي فيسره لي؛ كتبتُ رسالة استقالة لسعادة ناصر بن سليمان السيباني، نائب رئيس الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، بتاريخ 29 مارس 2020، وقابلتُ الرجل، ورفض استقالتي بأدب جم. قلتُ له “إني استقلتُ عام 2016، وأمام إلحاحك لي بالبقاء وافقتُ احترامًا لك، ولكلامك الجميل المشجِّع لي، ولكن هذه المرة أرجوك أن توافق”. وأمام إلحاحي الشديد، أخبرني سعادته أنه عرض الاستقالة لمعالي الدكتور عبد الله الحراصي رئيس الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، وأنه وافق عليها، وصدر قرار إنهاء خدماتي بتاريخ 14إبريل 2020. وعلق على ذلك السيباني “بأني وقّعتُ القرار مضطرا”.

بصدور القرار، انتابتني مشاعر متناقضة؛ هي مزيجٌ من الفرح والحزن؛ ومبعثُ الفرح، هو إحساسي بأني أصبحت حرًا، وأنه آن لي أن أرتاح. أما مبعث الحزن، فلأني سأفتقد مكانًا أصبح جزءا مني وأصبحتُ جزءا منه؛ ويكفي أني قضيت أكثر من ثلثي عُمري في ذلك المكان. وخلال سنوات الخدمة الطويلة تلك، نشأتْ علاقةٌ خاصة بيني وبين الزملاء، بل أني ألفْتُ المكان بأناسه وأشجاره وجدرانه وحتى طيوره وحمائمه. وكنتُ في كلِّ فصل شتاء، أرى طائرًا جميلا بألوان زاهية فوق إحدى النخلات خلف مكتب مدير عام الإذاعة؛ وكم كنتُ أتفاءل بهذا الطير بألوانه الجميلة الزاهية، فكنتُ أحرص دائمًا الخروج من الباب الخلفي للمبنى لألقي السلام على هذا الطير، وكان يرد علي السلام، بلغة لا يعلمها إلا أنا وهو، وبالتأكيد سأفقده ضمن من أفتقدهم من الزملاء والأشياء، ولا أعلم هل سيبحث عني الشتاء المقبل؟.

وعندما أتساءل الآن هل كان قراري بالاستقالة صائبا؟!, أقول – ولله الحمد -، نعم كان القرار نعم الصواب. وقد تأكّد لي ذلك، يوم الأحد 1 يونيو 2020، عندما ذهبتُ إلى العمل لإنهاء إجراءات إخلاء الطرف؛ فبعد وصولي للمبنى رأيتُ حركة دؤوبة غير عادية.. هنا شخصان يتحدثان.. وهنا مجموعة أخرى.. وهناك ستة أشخاص منهمكون في حديث يبدو أنه قلق.. والزميل محمود بن عبيد الحسني يخرج من المبنى في ساعة مبكرة.. والزميل يعقوب الحارثي يذهب إلى مراجعة الموارد البشرية.. ووو. وعند دخولي المبنى سمعتُ من بعض الزملاء، أنهم بعد غياب عن الدوام، بسبب جائحة الكورونا، داوموا صباح اليوم بروح ومعنوية عالية؛ فإذا رسائل الإحالة إلى التقاعد تنتظرهم، مع إلزامهم بالخروج إلى إجازاتهم ثم التقاعد. كان الكلّ في حالة تذمر وقلق؛ لأنّ القرار جاءهم فجأة دون مقدمات، ومعظمُهم عليهم التزاماتٌ مالية، وكان تساؤلهم: لماذا لا نُعطى فرصة حتى نهاية العام؟. ولماذا لم يُطبّق في الهيئة مبدأ الاستثناء، حيث يحق لرئيس الوحدة، أن يستثني 30% من الموظفين؟!

كان مشهد الوداع في ذلك اليوم في كفة، وما حدث في مكتب صديقي وزميلي سليمان المعمري في كفة أخرى. إذ سبق له أن وعدني بهدية عبارة عن كتاب؛ وفعلا أهداني ذلك الكتاب؛ وعندما فتحتُ المظروف، وجدتُ عنوان الكتاب لافتا جدًا، وكأنه يختصر الموضوع برمته، حيث كان الكتاب بعنوان “ما من رحلة إلا هي وداع”، وهو كتابٌ عن الشاعر الإعلامي الزميل صالح العامري، من إعداد وتحرير الصديق سعيد بن سلطان الهاشمي. وطوال فترة عودتي إلى البيت، كانت رحلة عملي في ذهني، كما كان وداع الأصدقاء والزملاء يحتل حيزا كبيرا من تفكيري، فقد شاء القدر أن يستلم كل زميل رسالته ويذهب في حال سبيله دون أي وداع.

رجعتُ البيت، وأنا أحمد الله كثيرًا، على أن هداني للاستقالة، فقد نجوتُ ممّا أصاب زملائي؛ ولكن فرحتي شابها شيءٌ من الحزن، فلا يليق أن أفرح بنجاتي، فيما أرى معاناة زملائي، وهم زملاء كانوا مخلصين في عملهم، وأعطوا بأمانة وبإخلاص. فهل يعقل مثلا أن يتم إرسال رسالة الإحالة إلى التقاعد للزميل المذيع هلال بن سالم الهلالي عبر الواتساب مثلا؟! فما العجلة في ذلك؟!

وإذا كنتُ أرى أنّ المعاملة التي عومل بها موظفو الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون لم تكن لائقة بمكانتهم؛ فإني لن أذهب بعيدًا عن مبنى الإذاعة والتلفزيون، لوصف معاملة أخرى أفرحت الموظفين المحالين للتقاعد، رغم أنّ النتيجة هي واحدة “التقاعد”؛ فالزميل سيف بن سعود المحروقي رئيس تحرير جريدة عُمان، التي تبعد أمتارًا قليلة عن مبنى الإذاعة والتلفزيون، طلب من  وزير الإعلام، أن يكتب رسالة شكر لكلّ موظف أحيل للتقاعد، واشترى لكلّ متقاعد هدية رمزية؛ فكان لذلك، الأثر الطيب في نفوسهم؛ بل إنّ هناك بعض أصحاب المعالي اجتمعوا بالمقاعدين وشكروهم، فماذا كان يضير مسؤولي الهيئة أن يفعلوا مثل ذلك؟!!

أصبْحتُ الآن حرًا من الالتزام الوظيفي؛ وأصبَحَت الإذاعة بالنسبة لي ذكرى؛ بل ذكرى جميلة جدا، أفخر بكلِّ تلك السنوات، وأفخر أيضًا بما قدّمْت. وإذا كان هناك من بعض الذكرى السيئة التي يجب أن تُذكر، هي أنّ سنوات طويلة مرّت علينا كنا لا نترقى فيها تصل إلى ثمان وعشر. ومن المفارقات العجيبة أني تعيّنت في الدرجة الثامنة، وخرجتُ من العمل بالدرجة الثامنة نفسها، بعد أن تم تعديل الدرجات مرتين. أما عن مكافأة ما بعد الخدمة التي استلمتُها، بعد خدمة استمرت 43 عامًا، فأخجل أن أذكرها، لأني إذا ذكرتُها، فتلك إساءة للدولة قبل أن تكون إساءة لي. ومع ذلك أشكر سعادة ناصر بن سليمان السيباني، الذي اهتم وتابع بنفسه مسألة استلامي لحقوقي، وأحمدُ الله أني لستُ مديونًا ولا بيسة، وهذه من نعم الله علينا.     

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق