الثقافي
الحداثة والتحديث خليجيا
إضاءة: سيف بن عدي المسكري
تتميز السلسلة الشهرية للكتب الثقافية التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت تحت عنوان “عالم المعرفة” بالتنوع حيث تغطي حقول معرفية واسعة ظهر ذلك في عدد ديسمبر 2018م والذي ناقش مسألة بالغة في الأهمية؛ “الحداثة والتحديث في دول الخليج العربية منذ منتصف القرن العشرين” لمؤلفه الدكتور عبد المالك خلف التميمي أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بالكويت، وصاحب جملة من الكتب النوعية حول تاريخ المنطقة. اشتمل الكتاب في صفحاته (244) على تقديم ومقدمة و12 فصلا وخاتمة مع ملاحق تختص بكل دولة من دول الخليج العربي.
حداثة أم تحديث؟
ناقش الكتاب عبر التقديم والفصول الثلاثة الأولى منه مسألة التأصيل للمفاهيم حيث يرى أن الحداثة غير التحديث فالأولى مرتبطة بتغيرات في بنية الفكر والعلاقات بين أطياف المجتمع ونقلة من عصر إلى آخر عرفتها بدء الحضارة الغربية في حين أن التحديث هو التماهي مع نتاجات الحداثة في مستوياتها المادية من عمران وآلات ومؤسسات ونظم. وفرادة هذه المنطقة تتموضع في كونها عرفت طفرة سريعة وجذرية ترتب عليها تحولات اقتصادية وديموغرافية واجتماعية سببتها مدخولات النفط. فجاء التحديث “شاملا ومتنوعا لا يستند إلى رؤية استراتيجية، لأن الرؤية الاستراتيجية تحتاج إلى الحداثة التي لم تكن متوفرة في حالة التطور في منطقة الخليج العربي”.
لأجل ذلك قدم عبر الفصول الثلاثة مسحا موجزاً ومركزاً حول الحداثة والتحديث في الغرب، ومن بعدها تجارب مصر واليابان والصين، وأخيرا الحداثة والتحديث في منطقة الخليج العربي. فكرة الحداثة والتحديث أوروبية المنشأ ولم يكن التحديث إلا بعد الحداثة عكس ما حدث عربيا. فهي مرتبطة بمرحلة التنوير والصراع بين التقليد والتجديد وما أعقبه من تطور في البنى الفكرية والاجتماعية ورسوخ العقلانية وما تبعها من ثورات سياسية وصناعية رافقها تطور رأسمالي كان نتاجه حركة استعمار عانت منها المجتمعات خارج المنظومة الغربية.
والعرب حسب رأي الكاتب لم يعرفوا الحداثة إلا بعد دخول الأوروبي منطقتهم، ورغم التجربة التحديثية المصرية زمن محمد علي إلا أنه لم يكتب لها النجاح لأسباب أولها عدم توفر حداثة ترتكز على رؤية استراتيجية إضافة إلى أسباب أخرى تتعلق بسياسة محمد علي والتدخل الأجنبي. أما اليابان فاعتبرت التجربة التحديثية الثانية خارج المنظومة الأوروبية وقد سبق عصر الامبراطور ميجي (1852-1912م) إرهاصات للإصلاح كان نتيجتها تقدم معرفي استطاع اليابانيون عبره خلق توازن بين المعارف الغربية وخصوصية القومية اليابانية. ورغم تجربتها المريرة بعد الحرب العالمية الثانية إلا أن اليابان تمكنت من النهوض متسلحة بالعلم والتقدم. وهي في نهضتها هذه لم تكتفي بالتحديث بل استطاعت تشرب الحداثة الغربية وإنتاج حداثتها الذاتية.
تجربة التحديث في الصين عدت من التجارب الكبرى والحديثة نسبيا _النصف الثاني من القرن العشرين_ حيث استطاع الصينيون اللحاق بالغرب وخلق قوة عظمى اقتصاديا وعسكريا، والملفت أن الكاتب لم يتعرض لمسألة الحداثة في صورتها السياسية حيث أن النظام الصيني ظل مسيرا من قبل الحزب الواحد. وفي معرض المقارنة بين التجارب الثلاث يذهب التميمي إلى أن التجربتين اليابانية والصينية عرفتا نقدا للتراث، كما تم التعامل مع الحداثة بوصفها قيمة سبقت التحديث، وكان للموقع الجغرافي أثره في هذه التجارب.
النفط والتعليم كانا عاملين أساسيين في إحداث نقلة كبيرة في منطقة الخليج العربي، الأول كان له دور في توفير كمية كبيرة من السيولة المالية التي انتعشت بالخصوص في سبعينيات القرن العشرين بعد تأميم النفط وارتفاع أسعاره، رافق ذلك بناء تحديثي شمل أغلب جوانب الحياة، وأما العامل الثاني فقد تطور مع الوفرة المادية حيث كان نوعيا في البداية ومركزا على البعثات الخارجية التي عادت لتشارك في بناء مجتمعاتها. لكن الآية انعكست بعد ذلك حيث أصبح التعليم كميا وغدت مخرجاته لا تتجاوز تسيير مصالح الدولة الإدارية دون وعي بأهمية الابداع والمشاركة في التقدم. يركز الكاتب في هذا الفصل حول المسألة الأهم “لماذا الحداثة في المنطقة ضعيفة في الوقت الذي يشهد فيه التحديث تحولا كبيرا وسريعا؟” إجابة المؤلف هي ظهور النفط بكميات ضخمة في وقت يحتاج له العالم فكانت عائداته سببا أساسيا في هذا التحديث. وعبر نقاط عديدة منها الحداثة في الأدب والفن، والثقافة ودورها الحداثي، والصحافة والحداثة والتحديث يستمر الكاتب في تحليل هاتين الظاهرتين.
التحديث السياسي والاجتماعي وقضايا أخرى
ناقش الكتاب عبر الفصلين الرابع والخامس مسألة التحديث السياسي والاجتماعي وقضايا أخرى في الحداثة والتحديث بمنطقة الخليج العربي، حيث تأسست فيها أشكال الدولة الحديثة مؤسساتها المختلفة، من دساتير ونظم وهيكليات ادارية غير أن الواقع يحتم مزيدا من الاسهام المجتمعي في صنع القرار والافساح للقوى المختلفة في ابداء رأيها. بالخصوص موضوع الاصلاح الذي يعني مواجهة الأخطاء والفساد والهدر والقصور في النظام وليس التغيير كون هذه الأنظمة بالمجمل توفر الحد الأدنى المطلوب من مستوى المعيشة وهامش الحرية. كما تعرض لدور المرأة في هذه العمليات حيث نالت الكثير من حقوقها وغدت مشاركة للرجل في العديد من المجالات، بيد أن معوقات تطور مساهمتها في الحياة المعاصرة لا تزال منها النظرة إلى أن دورها ثانوي وليس من الأولويات فهي وإن كانت قد تقدمت اقتصاديا غير أن وضعها الاجتماعي والسياسي يحتاج إلى مزيد من التطوير.
ناقش الكتاب مسائل متعددة عبر هذين الفصلين منها دور الطبقة الوسطى، والوضع الديموغرافي، والتحديث العمراني، وما يهم هذه الوقفة جانبان، مستقبل الحداثة في المنطقة ومعوقاتها، ففي الوقت الذي ينادى فيه بما بعد الحداثة لا زالت المنطقة تتلمس طريقها نحو الحداثة لذا يوجب الأمر استغلال هذا الظرف الاقتصادي لبناء مشروعات تحديثية انتاجية وخلق مناخ معرفي وثقافي تنويري يشارك الجميع في صنعه، حتى لا نجد أنفسنا وقد عدنا إلا المربع الأول بعد رحيل النفط! . والصعاب يلخصها الكاتب في: الدولة الريعية الاستهلاكية، وأزمة التعليم والثقافة، والفساد الإداري والمالي، وضعف دور القوى السياسية، وضعف دور التيار الحداثي، وضعف دور القطاع الخاص، ومعوقات أخرى فصل حولها بمنهج تحليلي واضح.
الحداثة والتحديث في الدول السبع
عبر الفصول من السادس حتى الحادي عشر يتحدث الكتاب عن الحداثة والتحديث في كل دولة على حدة، مستفيضا في الظروف التي مرت بها والانجازات التي حققتها، والرؤى المستقبلية لها، وكون المساحة هنا لا تكفل الخوض في تفاصيل هذه الفصول، نقتصر على ما ذكره حول سلطنة عمان، حيث يوجز في تبيان عمقها التاريخي، وفترات الحكم التي عرفتها، وتوسعها عبر المحيط الهندي، ثم الظروف التي سبقت العصر الحديث. فرغم محدودية الانتاج النفطي مقارنة بمثيلاتها من دول الخليج إلا أن عمان عرفت قفزات نوعية في مجال العمران والطرق والتعليم والصحة. والمشاركة السياسية، ودور المرأة. مع أهمية مراجعة ما تم والتخطيط للمستقبل ووضع الحلول للمشكلات الحالية.
يختم الكاتب فصول كتابه بالتعريج إلى المشتركات الحداثية في دول الخليج العربي، فالتحديث كان سابقا للحداثة لذا فهي حداثة فكرية وثقافية محدودة، التعليم رغم توسيع قاعدته ظل كميا لا نوعيا، التراث رغم أصالته غير أن النظرة النقدية له مهمة وضرورية، معالجة الخلل في التركيبة السكانية. هذه المشتركات تحتم مزيدا من التضامن والتعاون وفق رؤى تقوم على التشاور والديموقراطية والتكامل. كما يجب معالجة المشكلات الاقتصادية والتي ترتبط أحيانا ببنية التفكير المجتمعي ففي دراسة أعدها فاهان زانويان Vahan Zanoyan أثار مشكلة عدم تقبل المواطنين التخلي عن مكتسباتهم المادية لشيوع الثقافة الاستهلاكية، لذا وجب تغيير هذه العقلية بالشراكة بين القطاعات المختلفة والادارة والاصلاح السلمي. الكتاب كما أراد له مؤلفه هو لبنة تتوخى البناء عليها في صرح دراسة جانب مهم يشغل بال الكثيرين حول مصير هذه المنطقة. الملفت أن فكرة ما أو مقولة تخللت وتكررت عبر فصول الكتاب بصور مختلفة تتلخص في أن هذه الفرصة التاريخية والتي جاء بها النفط لا ينبغي أن تضيع هباء؛ فالإنفاق الغير معقلن والغير مدروس مع عدم توفر الرؤية المستقبلية لخلق اقتصاد ومجتمعات واعية تستطيع مواجهة التحديات القادمة، يعني ضياع هذه الفرصة وجعل مصير أجيال قادمة في حكم المجهول.