مقالات
الوقف الإسلامي.. مشروع استثماري اجتماعي تستفيد منه الدولة
فوزي بن يونس بن حديد
الوقف في عمومه مشروع إسلامي استثماري، جاء به الإسلام ليعلي شأن الدولة الإسلامية ويحصّنها من آفات الفقر والخصاصة، وحثّ عليه لتغطية العجز الذي قد يحدث في ميزانية الدولة، أو في الحالات الصعبة التي تمر على العالم أجمع بعد أن صار قرية واحدة، إذا اشتكت منه دولة تداعت كل الدول بسبب الأزمة، ولهذا كان الإسلام الدين الحنيف يرى أن الدولة الإسلامية لا بد أن تظل أركانها متينة لا تزعزعها الأحداث الجارية ولا هوى بعض الناس وميلهم إلى الفساد المالي، فهناك قوانين مشدّدة تردع الناس عن أي فعل يمكن أن يمسّ النظام الاقتصادي أو يتسبب في انهياره، ولو تمسّك العالم بهذه الأوامر الإلهية الربانية ما وجدنا فقيرا ولا أعزب ولا محتاجا ولا مشرّدا، فالكل يعيش تحت غطاء الأمن والأمان الجسدي والصحي والنفسي والاقتصادي.
هذه هي حقيقة الاستثمار في المال، وحقيقة إبقاء المال حيّا حتى لو مات صاحبه، فالوقف يقف فيه صاحبه شامخا حيّا وميّتا، لأنه يسهم في إحياء البلاد وتحويل جزء من المال إلى الانتفاع العام، لا يخص الورثة في شيء، تنتفع به الأجيال جيلا بعد جيل وترى الإبداع يخرج من خلاله لأن هناك من ينتظر الدعم فقط لإخراج مكنونات نفسه وليضيف على الموجود نسقا جديدا من الارتواء بالأفكار والمقترحات الجديدة، فأهم شيء هو البناء وبعدها يأتي من يكمل ويزركش ويصور الإبداع في صوره الجديدة المتنوعة والمختلفة، هذا ما يمكن أن يفعله الوقف في حياتنا المعاصرة التي التهمتها التقنية الجديدة، فصارت عنوانا للمعاملات والتصرفات فلا تحيد عنها أي مؤسسة أو هيئة أو شركة، فالكل محتاج للتقنية في عصر التقنية ويمكن للوقف أن يتكيف مع العصرنة التي تحتاج فقط إلى منح الشباب المتعلم الفرصة أن يضفي عليه لمسات تقنية ليكون أكثر ربحا واستثمارا لا أن يبقى على ماهيته الكلاسيكية.
فهو مشروع استثماري إسلامي كبير له جناحان: المال والإنسان، وقد عرف الوقف تطورات ميدانية منذ النشأة الإسلامية الأولى وتبلور هذا الفكر مع التغيرات المجتمعية والحركة العمرانية والتطورات الإنسانية، ولم يختص في مجال دون مجال، فمجال المال واسع ومتشعب ويتكيف مع الواقع البشري والمد الفكري الأصيل، وليست له مجالات محددة يعمل فيها ما دامت الوسائل المستخدمة شرعية ولا تتعارض مع المبادئ الأساسية والخطوط العريضة لأساسات الوقف الإسلامي.
وبالنظر إلى التاريخ الإسلامي يتضح جليا أن الوقف له جذوره العميقة في الشخصية المسلمة إذ تُربي فيه روح التنمية الأخلاقية وتغرس في نفسه عمق التجربة الميدانية وروح التضحية من أجل الآخر دون عائد مادي، ويصور لنا نماذج من الواقع لها صدى كبير في التأثير على المسلم نفسه من جميع الزوايا، وقد بادر بعض الصحابة إلى التصدق بأحب أمواله إليه عند نزول قوله تعالى: «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى ٰ تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ « وما روي عن أنس بن مالك أنه قال: «كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة نخلا، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما أُنزلت «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حتى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ « قام أبو طلحة وقال: يا رسول الله: إن الله يقول : لن تنالوا البر…الآية، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله، أرجو برّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال صلى الله عليه وسلم: اجعلها (أي ريعها) في قرابتك. كما روي عن عثمان بن عفان أنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم، المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال: «من يشتري بئر رومة، فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة»، قال عثمان: «فاشتريتها من صلب مالي» ومعنى الحديث أن عثمان اشترى البئر وجعلها وقفًا على المسلمين، وروي أيضا عن أبي هريرة، رضي الله عنه أن خالد بن الوليد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله والله تعالى يقول: «وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ».
وعلى هذا يتبين أن مجال الوقف واسع وفسيح، منه ينال المسلم الأجر والثواب العظيم الذي يبقى يصله إلى يوم الدين، فلا ينقطع بموت المتبرع، لأنه سيظل محبوسا في خزينة الدولة تشرف عليه إن صار الأمر إليها لتضع إيراداته وريعه في مكانه المناسب. وربما اتسع الوقف وفاقت استفادته ما كان يتوقع له المتبرع وهنا يفتح الباب أمام المجتهدين العلماء ليبحثوا عن المسألة فيما لو زاد ريع الوقف عن المعتاد الذي كان الوقف يجنيه ويرده على من أوصى به الميت، هل يمكن صرف المتبقي في جوانب أخرى من الحياة؟ ويبقى الجواب رهين اجتهاد العلماء في كل عصر لأن الحياة تتغير وتتبدل سريعا، ويمضي الإنسان في اكتشافاته واختراعاته ليأتي بالجديد والمتنوع المفيد، ولا يتجمد في وضع محدّد، ومن ثَمّ صار الوقف عقيدة يؤمن بها المسلم ويراها جزءا لا يتجزأ من حياته المالية وقد مثل ذلك قوة ضاربة في التاريخ الإسلامي حتى بدأ أعداء الإسلام يتوجّسون خيفة من هذا النظام البارع الذي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فالوقف والزكاة وسيلتان فعّالتان للقضاء على أي عجز مالي في الدولة لأنهما استثمار على المدى البعيد لا يتأثران بالواقع المحيط ولا بالأسواق التجارية العالمية.
وقد علم كثير من الصحابة أثر هذا التصرف على النفس والمال والولد، فبادروا إلى الإنفاق والتصدق والتبرع بجزء من أموالهم ذخرا لهم للآخرة وأقبلوا على التنازل بأجزاء مهمة من أموالهم ابتغاء مرضاة الله عز وجل بعد أن تمكن الإيمان من قلوبهم واستحوذ اهتمامهم وانصب على الآخرة باعتباره الملاذ الأخير والمستقر الأبدي وذلك نرى عددا كبيرا من الصحابة تصدقوا بدُورهم ومساكنهم، وجعلوها وقفا في سبيل الله أو على ذريتهم، واستمر هذا الفكر يتطور عبر الزمن حتى بلغ إيمان الفرد بضرورة التنازل عن جزء من المال عقيدة سارية في نفوس المسلمين، ولكن بعد أن ظهر ما يسمى العولمة، ابتعد الناس عن المنهج الإسلامي الصحيح فبدأت تتخلخل موازين القوى عند المسلمين، حيث أصبح حب المال هو السائد، وبدأ الناس يفكرون في الأنا ويصرفون أنظارهم عن الضمير الإنساني الجمعي، فتغلغلت في قلوبهم ألوان من الطمع والجشع والغش والاحتيال والحصول على المال وبدأت الرأسمالية تضخ تجربتها عبر الانتقاص من هذا الوزن الإسلامي الذي خلق العدل بين البشر وتبث في الناس وتنشر أنه تجربة فاشلة لأن الإنسان ينبغي أن يتمتع بماله الذي يكسبه بطرق شرعية وحتى غير شرعية وباتت الأخلاق عائقا يقف في وجه هذه الطغمة الاقتصادية والفكر الجديد الذي سمى نفسه «عولمة»، وعندما فشل هذا النظام الجديد في إيجاد طرق بديلة للخروج من الأزمة العالمية الاقتصادية الخانقة بدأ يتجه إلى ابتكار حلول هي في صميم الحلول الإسلامية وبدأ يدعو إلى إنشاء المصارف الإسلامية والحث على ابتكار وسائل وطرق جديدة كالوقف والاهتمام بالزكاة كحل وحيد وأوحد للتخفيف من الأزمة والابتعاد عن شبح الانهيار والإفلاس الذي يهدد كثيرا من الدول الآن. ومن هنا تتجلى أهمية الوقف الحضارية في النظام الاقتصادي الإسلامي، فبالوقف والزكاة استطاع الخليفة الراشدي عمر بن عبد العزيز أن يغطي كل النقائص المادية والثغرات المالية إبان خلافته التي لم تستمر طويلا ولم تصمد كثيرا أمام الجشع الرأسمالي.
فالوقف يمكن أن نصنع منه قوة علمية وأخرى اقتصادية وربما عمرانية ومجتمعية تتبلور فيه كل معاني الثبات والعزيمة والصبر باعتباره الوجهة المحبوسة في مشاريع خيرية تنموية لها أثرها النفسي والاقتصادي والاجتماعي، ويكون الوقف باطلا غير مشروع إذا قصد به الواقف إلحاق الضرر بورثته، كمن يوصي بجميع ماله وقفا، وبالتالي يلحق ضررا كبيرا بالورثة خاصة إذا كانوا في حاجة ماسة للمال، لأن ذلك مما لم يأذن به الله سبحانه، بل إنه تعالى نهى عن الضرر والإضرار، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ضر ولا ضرار».، ولا يؤتي الوقف أكله إذا كان هدف المتبرع الرياء والسمعة والأنانية بل ينبغي أن يكون الهدف الأساس ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى ورضاه.
وللوقف مجالات متعددة ومتنوعة، لا يقتصر الانتفاع به في وجه معين، إذ ما يعين الدولة وينتفع به الناس يوجه إليه، كالمستشفيات والمدارس والأسواق وتعبيد الطرقات وكل ما يسهل على الناس حياتهم ويسهم في الارتقاء بالمدينة والقرية والولاية، وهكذا يكون الوقف قد أدى دوره الاستثماري في الحياة العامة، وكان جزءا لا يتجزأ من الحياة الاقتصادية المعاصرة ويصبح الملاذ الذي ترجع إليه الدولة في كل زمان من أجل إنعاش الاقتصاد.