العام
الأبعاد النفسية للطلاق
أحيانا يأتيني في العيادة زوج أو زوجة بلغت الخلافات الزوجية بينهما أقصاها واصبح الطلاق هو الحل الوحيد في نظرهما. ودائما أقترح عليهما إحضار الطرف الآخر، فليس من الممكن إجراء الاستشارة الزوجية بدون حضور الطرفين. أحيانا يكون سبب الخلاف عابرا، لكن في أغلب الأحيان يكون القشة التي قصمت ظهر البعير. تتراكم الخلافات منذ بدء العلاقه الزوجية ويحاول كل منهما إقناع نفسه أن «الأمور طيبة» إلى أن يأتي اليوم الذي يذهب كل منهما في طريق. ويكون الأطفال هم الضحية الكبرى، يتدمر مفهوم الأسرة أمام أعينهم، البعض يجد نفسه يتحمل مسؤولية المنزل بعد رحيل الأب، خاصة الابن الأكبر، الذي يحاول أن يحافظ على إخوانه ويعوضهم حنان الأب دون أن يشعر أنه هو أيضا في حاجة إلى ذلك الحنان. بعض القادمين للاستشارة يأتون بعد أن وصلت بهم الخلافات إلى طريق مسدود ويصبح العمل معهما تحديا كبيرا.
د. حمد بن ناصر السناوي
استشاري أول ـ الطب السلوكي
منذ أشهر أتاني زوجان في أواخر العشرينات من العمر، أخبرني الزوج أن الزوجة فرضت حالة الصمت لمدة أسبوع، لا تتكلم معه وإذا احتاجت بعض الأشياء الضرورية لطفلتهما تقوم بإرسال رسالة واتس آب إلى هاتفه. كانت الطفلة ذات العامين متعلقة كثيرا بوالدها، وللأسف الشديد يتم استخدامها من الطرفين لمعاقبة الطرف الآخر. ابتدأ الزوج حديثه معلنا «لقد وصلت الأمور بيننا إلى طريق مسدود ولم يعد أمامنا سوى الطلاق». سألته «لماذا لم تأت للاستشارة مبكرا، فأجاب «توقعت أننا نستطيع تجاوز هذه الأزمة، وبالطبع كلانا يخجل من زيارة الطبيب النفسي». خلال الجلسة تبين للجميع أن الأزمة الحالية ليست سوى مسلسل من الأزمات يبدأ أحيانا في الأشهر الأولى من الزواج وتستمر تبعاته حتى بعد الطلاق .
قرأت في إحدى الصحف المحلية أن حالات الطلاق في عام 2016م ارتفعت بنسبة 3.2% من الأعوام السابقة لتصل إلى 3 آلاف و736 وثيقة، بمعدل 10 حالات يوميا وهذا رقم مخيف يجعلنا نتساءل، لماذا؟
يقول أحد الباحثين النفسيين، من أكبر الأخطاء التى تؤدي إلى الطلاق عدم تقدير وفهم الاختلاف بين الرجال والنساء، كل منهما يتوقع أن ينظر الآخر إلى الأمور من نفس وجهة نظره هو ويتفاعل على طريقته. ولا يفهم كل منهما احتياجات الآخر أو يحترمها. فبعض النساء تغلب عليهن العاطفه وتكفي كلمة طيبة أو احتضان من الزوج في تهدئة الخلاف بينما يضيع بعض الأزواج وقته وطاقته في فهم رده فعل زوجته من الناحية المنطقية.
وبشكل عام، تتعدد الأسباب التي تؤدي إلى الطلاق، فبعض الحالات يكون سببها الفهم الخاطيء من كلا الزوجين لماهية وطبيعة العلاقة الزوجية وحقوق وواجبات كل منهما فنجد الزوج مثلا يستمر في الخروج مع أصدقائه والسهر خارج المنزل مرات عديدة خلال الأسبوع مثلما كان يفعل قبل الزواج، فتبقى الزوجة وحدها ساعات طويلة تشعر بالوحدة والإهمال فتكثر من الشكوى والتذمر أو تقضي الوقت في متابعة وسائل التواصل الاجتماعي وتكثر المشاكل والخلافات. جانب الآخر قد تتصور بعض الزوجات أن الزواج يعني كفرغًا كاملاً من جانب الزوج ينحصر فيه روتينه بين البيت والعمل وقد تعتبر خروجه بين الآن والآخر مع أصدقائه أمرا غير مناسب، فيشعر الزوج أنه مسجون في قفص الزوجية وتبدأ الخلافات. ويلقي بعض الباحثين الاجتماعيين على وسائل الإعلام مثل المسلسلات الرومانسية والقصص والروايات في تشكيل صورة غير حقيقية عن الحب والغرام والحياة المثالية التي تجعل كل رجل وامرأة يشعر بأن هذه هي الحياة المثالية التي يستحقها ويجب أن يحصل عليها. وتساهم فترة الخطوبة في تعزيز مثل هذه الصورة خاصة عندما يحرص كل من الطرفين على رسم نموذج مثالي أمام الآخر، إلا أن هذه النماذج لا تدوم ويسقط القناع مع أبسط خلاف بينهما فينصدم كل منهما أمام الواقع الجديد، وقد يبالغ في ردة فعله بدلا من التريث والبحث عن حل عملي للخلافات قبل أن تكبر .
كما يعتبر انعدام التوافق الفكري وتوافق الشخصية والطباع والانسجام الروحي والعاطفي بين الزوجين من أهم الأسباب وراء الخلافات الزوجية المتكررة. فالزوج البيتوتي الذي لا يحبذ المناسبات الاجتماعية ويحتفظ بعلاقات محدودة مع عدد قليل من الاصدقاء والأقارب ينزعج من إصرار زوجته على الزيارات الأسرية الأسبوعية والتجمعات والحفلات، فيصبح هذا الموضوع مصدرا للخلاف قد يؤدي إلى حدوث فجوة بينهما .
أحيانا تكون الأنانية والهروب من تحمل المسؤولية وضعف القدرة على التواصل والتعامل مع واقعية الحياة من العوامل التى تدفع إلى الطلاق. كما تساهم كل من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وتدخل الأهل في الشؤون الخاصة للزوجين في خلق فجوة في العلاقة الزوجية قد تودي إلى الطلاق. وقد يعاني أحد الوالدين من المرض النفسي الذي يؤثر على الجو السائد في المنزل خاصة إذا لم يتم تشخيص وعلاج هذا المرض فيقع جميع أفراد الأسرة في حيرة من أمرهم في ظل غياب الإرشاد النفسي في كيفية التعامل مع المريض. وتساهم حالات الإدمان على الكحول والمخدرات في هدم الكثير من الأسر. فالشخص المدمن يجعل كل همه في الوجود البحث عن الكحول أو المخدر فيهمل أسرته وأولاده في سبيل ذلك.
الآثار النفسية :
يسبب الطلاق العديد من الآثار النفسية لكل من الزوج والزوجة والأطفال، وتختلف هذه الآثار من فرد إلى آخر. وحسب مسببات الطلاق، فالرجل المطلق قد يجد في البداية صعوبة في التكيف مع الحياة الجديدة بعيدا عن جو الأسرة والأطفال، وقد يشعر بالتأنيب إذا كان هو السبب في حدوث الطلاق. وقد يسارع بالزواج مرة أخرى ليثبت لطليقته أنه مازال مرغوبا فيه أو للهروب من الوحدة.
أما المرأة المطلقة فتعاني العديد من الآثار النفسية، أبرزها الإحساس بالفشل في المحافظة على كيان الأسرة والخوف من أن تفقد حضانة الأطفال، وأيضا تحمل مسؤولية تربيتهم في ظل غياب الأب. وكذلك الاثار المادية للطلاق، فإذا كانت ظروفها الاقتصادية لا تسمح لها بالعيش في بيت مستقل ستجد نفسها عائدة إلى بيت أبيها مع أطفالها، مما قد يشكل عبئًا عليها خاصة إذا ماطل والد الأطفال في دفع النفقة والحضانة ومصاريف الأولاد. ولا ننسى نظرة المجتمعات الشرقية السلبية للمرأة المطلقة والتي لا يتسع المجال لذكرها هنا .
تشير الأبحاث العالمية أن أكثر الآثار السلبية للطلاق على الأطفال مبالغ فيها إلى حد كبير. في دراسات سابقة ذكر أن الأطفال يصبحون أكثر عرضة للإصابة بمرض الاكتئاب والفشل في المدرسة، بينما تشير الأبحاث الحديثة أن الأطفال الذين يعانون من الاكتئاب واضطرابات السلوك يكون ذلك بسبب وجود خلافات عميقة بين الوالدين تسبب التعاسة والألم النفسي لجميع الأطراف. ويستنتج الباحثون أن هذه الخلافات، وليس الطلاق هو سبب الآثار النفسية لدى الأطفال. كما أن بقاء كل من الوالدين على تواصل مستمر بين الأبناء يساعد على أن يتخطوا هذه المرحلة والتأقلم معها. وتشير دراسة أخرى إلى أن ردود أفعال الأطفال النفسية بعد الطلاق تعتمد على عوامل عديدة أهمها جودة علاقتهم مع كل من الوالدين قبل الطلاق وشدة الخلافات الزوجية وقدرة الوالدين على التركيز على احتياجات الأطفال بعد الطلاق . وقد تمتد الآثار النفسية على الأطفال فتؤثر على قراراتهم واختياراتهم عن تكوين أسرهم مستقبلا، فالبعض قد يفقد الثقة في قدرته على التعامل مع الخلافات البسيطة فيطل شبح الطلاق.
حلول مقترحة
تساعد بعض العوامل على التقليل من حدوث الطلاق والتعامل مع الخلافات الزوجية بطريقة صحيحة. ومن أعم هذه العوامل وجود تكافؤ في المستوى التعليمي والثقافي والاجتماعي والعمري بين الزوجين، وتقبل كل منهما للآخر، وإحساس كل طرف بأنه موافق على الارتباط بالآخر وليس لإرضاء الأهل. ففي بعض المجتمعات مازال زواج الأقارب هو السائد ويتولى الجد أو الجدة إصدار القرارات بمن يتزوج بمن ولا يستطيع الشاب والشابة الرفض. وبشكل عام لا يوجد ما يشير إلى أن مثل هذه الزيجات أكثر عرضة للانفصال، إلا أن شعور الفرد بأن له الحق في اختيار شريك حياته يجعله أكثر تحملا لتبعيات هذا القرار ويبذل أقصى ما في وسعه لإنقاذ العلاقة الزوجية أمام الخلافات والنزاعات. كما يسهم تعريف الشباب المقبلين على الزواج بطبيعة العلاقة الزوجية من خلال عقد الدورات التدريبية والتأهيلية في تمكن الأزواج من معرفة الحقوق والواجبات تجاه بعضهم البعض ويسهل من عملية التواصل بينهم وتعلم الطرق الصحيحة فى حل المشكلات التى تحفظ للطرفين كرامتهما. ولا ننسى دور الأسرة في تقديم النصح والمشورة والصلح بين الزوجين. وفي بعض الأحيان يحتاج الطرفان إلى استشارة مختصين في تقديم الاستشارة النفسية للزوجين في التعامل مع الخلافات واتباع الطرق السليمة في الاستجابة للطرف الاخر .
وختاما، فإن مسؤولية الحفاظ على كيان الأسرة وتفادي الطلاق وتوابعه تقع على جميع أفراد المجتمع، لذا يجب أن تتكاتف جميع المؤسسات المعنية في تمكين الزوجين من تجاوز العقبات أولا بأول واتباع الطرق السليمة في حل المشكلات بعيدا عن التسرع والاستجابة لنوبات الغضب التي عادة ما يتبعها الإحساس بالندم الشديد.
حفظ الله الجميع من كل سوء.