الثقافي

أحمد العجمي: الشعر لا يفكر بالمنطق ولا يحب الانتظار

يعد الشاعر البحريني أحمد العجمي من التجارب البارزة والمؤثرة على الصعيد البحريني والخليجي، بل يتعدى ذلك إلى حضوره العربي الأوسع. شاعر متمسك بالشعر ومنحاز إلى خيار إلى الإبداع والكتابة. الشعر يعني له مشروع الحياة ومعادلها القيمي والوجودي. لذا فهو يكتب ويقرأ بنمهم عميق، حتى جاوزت إصداراته العشرين كتابا.

يراهن على الحياة وفن والجمال. إنه ناسك مخلص في محراب الإبداع. لا يفتأ ينتهي من قصيدة حتى تستدرجه قصيدة أخرى نحو تخومها اللامتناهية.

(التكوين) تلتقي مع الشاعر البحريني أحمد العجمي، لتكشف جزءا من ذاكرته وتطل على مساحة واسعة من رؤاه في الأدب والفكر والحياة.

فتيلة الشعر

في البدء يتحدث أحمد العجمي عن علاقته بالطفولة باعتبارها عنصرا إبداعيا خصبا، وينبوعا دافقا من ينابيع الروح، فيقول: في الفن والأدب لابد من استحضار الطفولة وتفعيلها كي يمتلك الفن والأدب كينونتيهما؛ والاستحضار والتفعيل لا يتمان عن طريق جلب الذكريات واستعراضها، بل عن طريق استرجاع الخصائص الطفولية ذاتها، مثل: الفضول، والدهشة، والخيال، والحلم، وإنتاج التساؤلات، وعدم الانضباط للواقع المنمّط وللأشكال المُعرّفة مُسبقاً. فالفن والأدب يتصرفان على طريقة الطفولة غير الساكنة في مواجهتها الأولى مع الوجود. وأيّ ذهاب للممارسة الإبداعية يسقط منهج حرية الطفولة وفوضويتها ونهمها البدائي، ودهشتها أمام كل شيء تصطدم به، وحراكها خارج الأسوار المّختلقة، يتعرّض هذا الذهاب للهشاشة والبطء في تفكيك القشرات المانعة لرؤية الظلال، والحاجبة للرؤيا العميقة للوجود.

ولن يصل المبدع لهذا التناغم مع خصائص طفولته البعيدة إلا عن طريق تمارين الوثوق بها وتقويتها باستمرار للتغلب على المحكم الذي تم بناؤه حوله من قِبل البنى والتابوهات المتسلطة ثقافياً واجتماعياً. الطفولة فتيلة الشعر.

ويفتح صاحب (مدخنة الطيور) الباب مشرعا على الإيماءات الأولى البعيدة التي ساقته إلى مرابع القصيدة، فيبوح موضحا: جاءت الشرارة الأولى لكتابة الشعر في بداية التحاقي بجامعة الكويت عام 1976، وانضمامي للاتحاد الوطني لطلبة البحرين، حيث تجرأت على كتابة أغانٍ وطنية وسياسية كان يلحنها الفنان خالد الشيخ ومن بعده الفنان يعقوب يوسف، وتغنى من قبل فرقة صوت عذاري؛ وهي فرقة فنية تأسست من الزملاء الطلبة والطالبات أعضاء الاتحاد آن ذاك. ومن هذه الأغاني (أغنية وطني أوال). وفي موازاة الكتابة كان من الضرورة التكثيف من قراءة الشعر باستمرار والعمل على اكتشاف طاقاته ودهشته وطريقة اللعب معه، ومازالت أفعل ذلك حتى الآن كمشروع وليس كهواية. لقد اكتشفت مشروعي الذي لا ينتهي.

الظلال القبيحة

في عالم تتفشى فيه الكراهية والأحقاد والقبح، في حين أصبح الحب ممنوعا والعواطف مصادرة .. يشق أحمد العجمي طريقه نحو الحياة بمحبة (العاشق) والشاعر. يوضح العجمي ذلك قائلا: الشعر لا يتعامل في اتجاهات محدودة أو محدّدة، فهو يخترق كل المواضيع بتضاداتها وبتناقضاتها. لقد كتبت عن الحب وعن رؤيتي له كسؤال كبير ورئيس لدى الإنسان، لكن يستطيع الشعر في ذات الوقت أن يضغط على مكامن الكراهية والأحقاد وممراتها ليعريها، ويعمل على تطهير العقل والروح من إفرازاتها ومخلفاتها. وأعتقد أن الإنسان مازال يحمل حيوانية قوية متخلقة فيه قبل تحولاته الحضارية؛ ويظهر ذلك في الصراعات العرقية والطائفية والتوحش في الحروب وفي القمع والتسلط ومصادرة الحريات.

وما لم يتخلص العالم من بقاياه الحيوانية التي تهمل العقل كقوة وتذهب إلى استخدام قوة السلاح أو السلطة فلن يستطيع أن يقترب من العدالة والمساواة والمحبة. وهذا ما يراه الشعر من خلال الظلال القبيحة.

لدى صحاب (نصف كأس من الأمل) تتجلى ثيمة العلاقة مع الماء ونقيضه عميقة في نصوصه المسكونة البحار والمطر والسواحل، والجفاف أيضا .. يحدثنا سر هذا التعلق بالماء قائلا: الماء كثيمة مادية هي جزء من تكويني البيلوجي وجزء من بيئتي الجغرافية  وجزء من ثقافتي السوكية والمعرفية ومن ذاكرتي ومشاهداتي اليومية حيث إنني ابن أرخبيل البحرين المُحاط بمياه البحر والممتلئ بالمياه السفلية العذبة المتدفقة والتي أبهجت طفولتي. والماء كثيمة معنوية ذات طبقات وظلال متعددة تتمظهر في الخصب والسيولة والحركة والتسامح والمحبة وفي الشفافية كمكون مهم من ثقافتي. وحين يتمرأى الماء مادياً ومعنوياً فإن هذا التمرئي من أجل التوسع والتعمّق في الحياة وفي جمالياتها.

وبتعلقي بالماء يتقوى تعلقي بالحياة وبالإنسانية وعلاماتها ورموزها؛ فأنا كائن مائي في الحياة وفي التفكير. والشعر الذي يهمل التعامل مع الماء وتحولاته يُصاب بالجفاف واليباس. فلا يمكن أن تظهر مشاعرك وأحاسيسك خارج ظلال الماء ومراياه.

الجميل المتطفل

وفيما يتعلق بجدلية المعاناة الشخصة وتجلياتها على التجربة الإبداعية يؤكد أحمد العجمي أن التجربة والمعاناة الشخصية في الحياة تمنح الشعر سمته الوجدانية وتشحنه بموجات الأحاسيس، لكن الشعر لا يطمئن للأحاسيس وحدها، فهو مركب كيميائي يحتاج إلى التجربة الثقافية وفلسفتها وإلى معاجمها المتنوعة التي تستطيع الانتقال بالشعر من الحالة الشعورية إلى وضع التفكير والتأمل ومنحه طاقة التمدد في ثقافات الشعوب والاستمرار في تحولات الزمن والانتقال في الحضارات. فالحب أو الفقد في الشعر لا تحملهما فقط حرارة التجربة المعاشة وكمية زيتها، وإنما الشعر قبل ذلك سؤال فلسفي كبير يفرض الأعمق والمتعدّد من الرؤى التي تلاحق المفاهيم وتتبع صور وأشكال التحقق والتحولات مادياً ومعنوياً، والشعر لا يقوم بدور المطهر من الآلام الفردية، وإنما يعيد هندسة الأحاسيس جمالياً.

يمتلك الشاعر أحمد العجمي لغة وامئة تنحو إلى التكثيف والاختزال وكسر المتوقع. في هذا الساق يقول: أرى أن الشعر يتحرك وينمو ويتطور بهذه الطريقة في التعامل مع اللغة والكلام؛ فالشعر لا يمكن أن يشتغل خارج التكثيف والاختزال حيث إنه يذهب إلى الاحتواء والتركيب الذي يفرض التخلص مما هو زائد ومثقل، ويفترض الجمال والتسارع في الزمن، فالشعر لا يعتمد الجملة التداولية الإفهامية منطقياً ولا التراتبية في الزمن، وإنما يعتمد اللامنطق والتلميح والتداخل في الأزمان. وهو بالتكثيف والاختزال والتلميح يتيح لذاته خلق السحر والجمال والنشوة والمتعة والدهشة واللعب والتلغيز، وتحفيز المخيلة؛ وهذه كلها من جوهر الشعر. والنص الذي لا يعتمد ذلك يأتي تقريرياً خالياً من مذاق الشعر.

وحين لا يذهب الشعر إلى كسر المتوقع أو مراوغته فسيفقد طاقة اللعب وخلق الدهشة. المُتوقَع ينتمي للسائد والعقلاني والمنطق، والشعر لا يتعامل مع هذا التنميط. فمن وظائف الشعر هو محو المتوقع وإخراجه من خارطته.

ولإتقان ذلك لابد من امتلاك ثقافة متعددة ومتنوعة وامتلاك معاجم كثيرة تسعف بعضها في صياغة العلاقة بين المتباعدات. الشعر لا يفكر بالمنطق ولا يحب الانتظار.

مناصرة العدم

تنم قصائد أحمد العجمي عن انهماك عميق لديه في أسئلة الكون والوجود .. فكيف توازن بين الفلسفي والواقعي والجمالي في نص شعري؟ يجيب موضحا: الشعر ليس لعباً مجانياً أو مرتبطاً بالأغراض والوظائف؛ بل من صميم جوهره اللعب مع تساؤلات الإنسان المتعلقة بوجوده ومصيره، وهو بذلك دائماً ما يرفض الكمال واليقين وينفي السلطات عند كل عتبة يعبرها، ولهذا صار الشعر الخالق الأول للفلسفة فمن الشعر ظهرت وتوالدت الإشارات الفلسفية وأسئلتها الأولى. والشعر الذي لا يذهب إلى اللعب مع الأسئلة الكبرى مثل: الموت والوجود والحب والحرية مصيره التسطح والوقف عند العتبة الصغرى لجوهر الشعر وجمالياته. دائما الإنسان في وجوده يعمل على تجاوز الضرورة عن طريق الحرية، والضرورة التي تتواجه مع الإنسان لا تنحصر في ضرورات الطبيعة والحياة الاجتماعية وإنما حتى في طرق التفكير والنظر في معنى الوجود، والشعر الحقيقي المكتنز بشعريته قادر على كسر الكثير من الضرورات عن طريق توسيع مدارات الحرية.

الشعر والفلسفة يشتركان في إلغاء الحواجز وفي عدم المساس بالحرية. الشعر يخلق الجمال والفلسفة تفكر فيه.

لدى أحمد العجمي حدود تماس واضحة بين خراب الواقع وفضاءات القصيدة، يوضحها قائلا: الشعر لا يقف متفرجاً ولا يضع الحلول أيضاً؛ ولكنه يتدخل على طريقته فهو ليس وظيفياً، إنه يفتح الأبواب ليعري ويفضح، ليظهر النقص ويقترح نقصاً أو عرياً آخر. تحت هذا السقف البارد والأملس يعمل الشعر على إرواء الروح بالأمل وبتنشيط الطاقة الكامنة لدى الشغوفين بجماليات الحياة.

ليس من وظيفة الشعر ترميم أية حماقات، لكنّه لا ينسحب من أمامها، ويسمح لها بمناصرة العدم. الشعر يمارس السحر بالتعامل مع أبسط وأصغر الموجودات من أجل بناء جديد، من أجل تخليص الإنسان من توحشه أو لامبالاته بجعله يرى ذاته في بؤر متكاثرة ويسمع صوته من أي نقطة. الشعر لا يرمم الفعل وإنما يرمم الفاعل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملاحظة: نص الحوار كاملا في عدد يناير 2019م

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق