الثقافي

فتحية الصقرية: أكتب لأبقى بدون عاهات مستديمة

للشعر ارتباط وثيق مع الحب، عبر تجلياته، بعدا أو فقدا، تحلق بالشاعر في فضاءات لا مرئية، يستشعرها بروحه، تجوب بالمتلقي لتحط به أخيرا في أرض من الجمال والإبداع، هؤلاء الذين يرسمون لوحات الحياة بالكلمات، فتأتي القصيدة تشبهنا. بين الحب والخوف والشغف والألوان وجدنا شاعرتنا الشابة والجميلة، فتحية الصقرية التي نقلتنا في هذا الحوار بين المفردات الشعرية والعاطفية، شاعرة برزت ثقافتها وقوة تعابيرها في أسطر زينت بها الحوار، فكان الجمال حاضرًا متسيدا الموقف.

حاورتها: شيخة الشحية

كيف تعرفين نفسك للقراء؟
لا أعرف لماذا توقفت طويلا أمام هذا السؤال، كمن دخل إلى ممر طويل وضيق، ويحاول أن يجد مخرجًا يؤدي إلى فضاء أرحب، يليق بكائن حلم كثيرًا بالحقول الشاسعة، بالتأمل والخيال والابتكار، كائن غير اجتماعي، قليل الكلام، وفي حالة هروب دائم متى ما سمع صوتًا يناديه باسمه، يذهب في الاتجاه المعاكس إلى تلك الأمكنة الخالية البعيدة مصابًا بقول دو شازال «اخترت العيش في موريس؛ لأن سكانها لا يعرفونني، ومن جهلهم بي حصلت على حرّيتي». لكن محظوظ بالطبع ذلك الكاتب الذي تحظى نصوصه وقصائده بقراء أذكياء ومختلفين، يعرفون كيف يدخلون إلى عوالم الأرواح الصاخبة القلقة المثقلة بالتساؤلات، قراء لديهم حساسية عالية يقرؤون الحياة بشكل متأنٍّ، ويفتحون الباب على مصراعيه لكل جمال مرهف يسكن أغنية عابرة، أو سطرًا شعريًا، أو لوحة فنية، ويفعل بالروح ما يفعله الورد والربيع بالأرض العطشى.
نعيش في زمن الجميع فيه يقول إنه شاعر.. من هو الشاعر الحقيقي في نظرك؟
أنْ يبحث المرء في هذا العالم عن وسيلة للنجاة أمرٌ ملهم ومهم، بالطريقة التي تلائم روحه، ذاته، كيانه، توجُّهاته؛ ليغرق عن آخره فيه؛ بحثًا عن إجابة، عن حلم، عن أمل، عن طريق جديد، عن روح أخرى تتوافق معه، عن زمن يشبه ما يجده في الخيال، أن يطرق أبوابًا عدّة، يمر بأمكنة معتمة مضيئة موحشة، أن يدخل الغابات، ويعبر البحار والمحيطات؛ ليتقصّى أثرا، ليحصل على وردة، أو نجمة، أو مفتاح.يمضي متلفتًا قلقا، محتفظًا ربما بما قاله هيكسلي: «لا أريد الراحة، أريد الشعر، أريد الخطر، أريد الحرية.»، وبما قاله باسترناك: «إنسان سيء لا يمكن أن يكون شاعرًا جيدًا.» علينا أن نذهب أبعد قليلا، أن نترك مسافة بيننا وبين تلك الأشياء القديمة، علينا أن نستبدل تلك النظرة الفارغة القاتلة التي لا تعبِّر إلا عن روح فارغة، تسير في طريق آمن، أن نلتفت لما هو مهمل وبعيد وملقى في مكان ما داخل متاهات النفس البشرية، أن نحافظ على ذواتنا المخطوفة، أن نتعرف إليها جيدًا، أن لا نلطخ حضورها بشخصيات أخرى، تواظب على الصراخ والدوران،علينا أن نتعلم كيف نصمت قليلا، كيف نبحث بتأنٍّ، كيف نمشي بسرعة أقل؛ لنرى جوهر الأشياء بشكل أوضح .
كلُّ يوم في حياتنا يمنحنا فرصة لاستعادة شيء ما، فرح، ألم، حب، صداقة، اللحظة الفارقة للمعرفة، للتأمل، للفوز، للخسارة، للمرور للوقوف، للتخلِّي، للتعب، للراحة. الغرق في التساؤلات والبحث عن العنوان عن الدليل، عن الإجابة، حتى لو لم نجد شيئًا نتشبَّث بذلك المشي الطويل المضني الذي غالبا لا يفضي إلى شيء .
تمنحني الصبر والقوة
متى بدأت كتابة الشعر؟ وبمن تأثرت؟
بداياتي انطلقت من شغفي بالرسم والموسيقى والتمثيل في المدرسة، أضفت إليها بعد ذلك تصميم الأزياء والخياطة، ثم الخط العربي، أرسم الوجوه والطبيعة إلى جانب اهتمامي بالقراءة، قراءة الكتب والصحف والمجلات المحلية والخليجية التي كان أبي يجلبها للمنزل، كنت أقرأ كل شيء بنهم، إذ لم يكن لديَّ مصدر آخر للحصول على الكتب غيرها، ومحاولاتي للتعبير عمَّا أشعر به تُجاه الحياة والعالم، تجاه كلِّ ما يحدث لي، كانت مستمرة، وان اختلفت الأدوات، لكن كان فعل الكتابة يأخذني أكثر، ويشعرني بلذة التخلُّص من شيء ما ثقيل جدا أحمله، بدأت بعدها بأخذ أدوات الكتابة على محمل الجد. كنت أدوِّن كلَّ فكرة تجول في رأسي، وكلَّ نص شعري، أو قصيدة تمثِّل لي شجرة قمت بزراعتها؛ لتمنحني قوة وصبرًا، ويصعب علي قطعُها، أو اقتلاعها، ومع الوقت تتغيّر نظرتنا للأشياء الآن، انظر لما أكتبه بشكل مختلف تمامًا، ألعب مع القلق لعبة النسيان، أحذف، وأغربل كثيرًا، مثل فلاح يحاول أن يطوِّر من أساليبه، وأدواته في الزراعة.
لمن تكتب فتحية الصقري؟ وهل تهتمّين بردود الأفعال من قبل المجتمع حول ما تكتبين.
في عُمان لا يزال النصُّ الشعريُّ الحديث بعيدًا، قليلا عن الذائقة العامة؛ فتجده متواريًا عن الأنظار لا يُحتفى به غالبا، متواجدًا في مكان ما لا يلتفت إليه عادة، وحاضرًا فقط لدى قرَّاء يتبعون خطًا مختلفا طريقا خاصا بهم، بمنأى عن السائد والمألوف، بوجود مواقع التواصل، كلُّ شيء صار متاحًا، كل شيء يمكن أن تجده بسهولة، ليس بالضرورة أن يصفِّق لك الجميع، لتكون شاعرًا حقيقًيا، تختلف الآراء باختلاف الخلفية الثقافية، والتوجُهات الروحية لدى كلٍّ منَّا، بعيدًا عن مسألة معرفتك بالكاتب نفسه، هناك من يتابع ما تكتب، بصمت وحب، يقرأ روحك بحساسية عالية، في وقت قد تكون فيه نائمًا في وقت قد تكون فيه متعبًا، أو مريضًا، أوماشيًا في خيالك، سعيدًا بابتسامة شخص غريب، قلب مليء بالحب، هبَط فجأة أمامك، من حيث لا تدري،لا يشغلني كثيرًا أمرُ أولئك الذين يمرُّون شاتمين، أو غير راضين؛ لأسباب نفسية نجهلها عادة، فالساحة مفتوحة، تشاهد، وترى الغثَّ والسمين، السيء، والجيِّد، وعليك أن تختار أيّ طريق ستسلك، ما لم تُصِبْك العدوى. لا يمكننا على كلِّ حال إرضاء ذائقة الجميع، ويمكن لكلِّ فرد حرٍّ في هذا العالم أن يترك ما لا يحب، ويذهب إلى ما يحب، دون أن يسبِّب تشويشًا، أو جرحًا للآخر، تسعدني الآراء التي تأتي من قرَّاء لا يعرفونني شخصيًا، يكتبون بحبٍّ في مكان ما انطباعًا عن نصِّك، بعيدا تماما عنك، وبلا أيِّ وسيلة اتصال لإبلاغك بذلك.
إغماض العين
ماذا تعني لك الكتابة ؟
مَا يـرغِمُنِي عَلَى الْكِتَابَةِ، كَمَا يَتَهَيَّأُ لِي، هُوَ الْخَوْفُ مِنْ أَنْ أَصِيـر مَجْنُونًا» وفق قول (جورج باتاي) محاولات البقاء بلا عاهات مستديمة، بعقل كامل، بقلب خالٍ من الشوائب والغبار، والاشتغال المستمر على مشروعات فاشلة، السير بدراجة هوائية في زمن السيارات الفارهة، الوقوف والاكتفاء بالمشاهدة، ومدّ النفس بمهدِّئات سريعة المفعول. عليَّ أن أغمض عينيَّ قليلا، أن أهرب لعالمي الخاص، لوحدتي التي أسمِّيها غرفة المفاجآت، حيث تتدافع الأفكار، واحدة تلو الأخرى؛ لتكشف عن هويتها، وشكلها، عن سبب وجودها، تقريبا يوميا نجلس على طاولة واحدة للتفاوض، أتعرَّف على كلِّ فكرة بمعزل عن الأخرى، فكلُّ واحدة تحمل قلقا مختلفا، خوفا خاصا، أو طريقة جديدة للنجاة من سمكة قرش كبيرة، تعترض حياتك فجأة، ودون سابق معرفة، لا أعرف من الذي ينقذ الآخر، لكن هذا كلُّ ما يمكنني فعلُه، ولا أعرف شيئًا آخر، كلُّ ما أستطيع فعله، بعد كلِّ هذا التَّجوال في ممرَّات الحياة الوعرة، هو اختراع المرح، التسلية، وتركيب رموش اصطناعية للسعادة، بمرور الساعات والأيام أُصبح أكثر هشاشة، يجرحني كلُّ شيء عابر، رفَّة الهواء الخفيف، استدارةُ الشمس، إغماضةُ الحب (لا أستطيع التفكير في شيء/ كلُّ شيء يؤلمني/ الصمتُ/ الكلام/ حناني/ أحوالُ يدي/ قلق المحبة/ هذيانُ روحي/ اسمي واسمُ مَن أُحبّ) في الحقيقة حتى هذه اللحظة لا أستطيع تجاوُزَ أيَّ ألم نفسي سوى بالكتابة.
لمن تقرأ فتحية؟ وماذا تقرأ؟ ومتى ؟
أقرأ صباحًا في الساعة الخامسة، بجانب نافذة مفتوحة، وبحضور مجموعة من العصافير، وفي أوقات متفرِّقة، غير مزدحمة، خلال اليوم، ليس من كاتب محدَّد، أمرُّ على نصوص وقصائد ويوميَّات، أختار ما يناسب حالتي المزاجية، وما يصيب روحي بصدمة، أو رعشة، أو انجذاب، مثلا منذ أيام، وأنا أعيش مع «شاعر السينما» أندريه تاركوفسكي، ومع «قابَ رعشة واحدة من الهاوية» للشاعرة ماريا كابريرا.
فتحية.. والكلمات
الحبّ، الألوان، الصمت، الشغف، الخوف، ماذا تعني لك هذه الكلمات؟
هذه الكلمات، مع كلمات أخرى، ترنُّ باستمرار في حياتي، أتصوَّر أنها تُجري اتصالاتها معي، بشكل شبه دائم، كنت أحاول الوصول إلى معناها في نفسي، من خلال نصّ «الردّ على مكالمات فائتة»
•الحُبّ
الألمُ الوحيدُ الذي نلاحقُهُ، بمتعة، ونركضُ خلفَهُ، كالمجانينِ، بأقدامٍ، وأرواحٍ عارية.
•الصَّمْت
هذا كلُّ ما ينبغي علينا فِعْلُه.
•الخوف
الصخرةُ التي يَشغلُني دائمًا أمرُ إزاحتِها من طريقي.
•الشَّغَف
صديقي الذي يحرِّضُني على المشي في الظلام، وتسلُّقِ الجبال، يحرِّضُني على القفزِ والغرَق، وقَنْصِ الحشرات. صديقي الذي أَطلبُ منه، دائمًا، وبإلحاحٍ أن يتزوَّجَ حياتي.
•الألوان
ابنةُ الحُبِّ، وشقيقةُ البهجةِ الصُّغْرى.
في حياتنا لحظات كثيرة.. ما اللحظات التي لا تستطيع فتحية نسيانها؟
آه اللحظات، اللحظات، الوقت القصير، والنظرة السريعة، التي قد تخلِّف وراءها فراشاتٍ وأغان، أو قتلى وجرحى، وكميَّة هائلة من الدموع، اللحظة التي لا يمكن نسيانها بسهولة، اللحظة التي تلامس الروح، أو تخترقها فجأة، التي تظلُّ محتجَزة في الأعماق، مُحدِثةً ضجيجًا وجلبة، لا يسمعها أحد سواي، تلك التي يكون التخلُّص منها أمرًا شاقًا حدَّ أن أُصَاب بالتعب والحمَّى.
هل ترين نفسك مختلفة عن بقية الشاعرات؟ وكيف؟
الاختلاف حالة صحيَّة، لكل شاعر صوت، وأسلوب خاص، لا أضع نفسي أبدًا في مقارنة مع أيِّ أحد، أُصغي كثيرًا، وأعود لنفسي عند فعل أيِّ شيء، أجرِّب كلَّ الأصوات العابرة التي تهزُّ روحي، أعود للدَّويِّ الذي يحدث في الأعماق، لحاجات الروح الغامضة، لوقت الصمت والحلم والكلام؛ لأبدأ خطوة جديدة قد تلغي الخطوة السابقة.
تمشي مصغية ومتأمِّلة
كيف ترين مستقبل القصيدة بشكل عام؟ والقصيدة النسائية بشكل خاص؟
آمل أن يصبح أفضل، منفتحا أكثر للحياة والعالم، وأن يصبح حضور الشاعرة أكثر قوة وثباتا وثقة، أن تمشي مصغية ومتأمِّلة، دون أن تلتفت كثيرا لمطبَّات الحياة الاجتماعية، وأن تمنح نفسها صوتا خاصا متفرِّدا لا يشبه أحدا سواها.
طموحاتك على مستوى الشعر والمستوى الشخصي..
أن تظلَّ روحي مؤمنة بقوّة الشعر، لتغيير العالم، لتغيير الواقع، والمحيط الذي يثقل كاهلنا بأكاذيبه، أن لا تصاب بالوهن والعجز أمام كلِّ ما يحدث مِن تسارُع مرعب لقوى الشر، والانحدار الأخلاقي الذي يشهده العالم، على نحو غير مسبوق، أن تظلَّ الكتابة قارب النجاة والجسر، والطريق والباب الذي يفضي بي دائمًا لمكان آمن، ففي كل مرَّة أكتب فيها نصًا، أو قصيدة بعد صراع طويل ومجهد مع حدث ما، أَنهَكني نفسيًا وفكريًا وجسديًا، أشعر بطاقة ما تحملني للأعلى، مع العصافير والفراشات. أعتقد أنَّ مثل هذا الصراع الكبير الذي أعيشه لا تخفت حدَّته، ولا تهدأ إلا باللجوء إلى جلسات مكثَّفة، وتغذية مستمرَّة من حدائق الشعر وينابيعه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق