نظراً لما يكتنف المراسيم والأوامر السلطانية السامية من تساؤل يتصل بمدى قوتها القانونية ومكانتها في سلم الهرم القانوني المكون لمبدأ سيادة القانون أو ما يطلق عليه “تدرج القواعد القانونية”، آثرتُ أن أعرض على القاريء الكريم في مجلة (التكوين) الغراء توضيح ذلك وفق نصوص النظام الأساسي للدولة الصادر بموجب المرسوم السلطاني رقم (101/96) والقوانين الأخرى ذات الصلة وما أقرته أحكام ومباديء محكمة القضاء الإداري العُمانية، ذلك أن ما يميز هذا البلد الآمن حكمة المغفور له بإذن الله تعالى مولانا جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم طيب الله ثراه وفكره المستنير الذي أرسى وفق نهج فكري ثاقب اختطَه جلالته لسياسته الحكيمة في إدارة البلاد آخذاً في الإعتبار مصلحة عُمان وشعبها في المقام الأول والأخير، وها هو حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله ورعاه يؤكد السير في ذات النهج لإرساء دعائم دولة المؤسسات والعدل والقانون على أسس دستورية راسخة.
وقد عرف أهل اللغة المَرْسومُ بشكل عام بأنه: ما يُصدره رئيس الدولة كتِابةً في شأَن من الشؤون فتكون له قوَّة القانون، والمرسوم بقانون هو: قانون ذو صبْغة تشريعية يصدره رئيس الدولة وجمعه مراسيم، أما الأمر فقد جاءت له معان كثيرة في المعاجم نذكر منها ما ينسجم ومعنى الأمر السلطاني الذي نحن بصدده في هذه المقالة بأن الأَمْرُ هو: نقيض النَّهْيِ، أَمَرَه به وأَمَرَهُ، وأَمره إِياه، يَأْمُرُه أَمْراً وإِماراً فأْتَمَرَ أَي قَبِلَ أَمْرَه؛ ومثاله قوله عز وجل: وأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين؛ العرب تقول: أَمَرْتُك أَن تفْعَل ولِتَفْعَلَ وبأَن تفْعَل، فمن قال: أَمرتك بأَن تفعل فالباء للإِلصاق والمعنى وقع الأَمر بهذا الفعل، ومن قال أَمرتُك أَن تفعل فعلى حذف الباء، ومن قال أَمرتك لتفعل فقد أَخبرنا بالعلة التي لها وقع الأَمرُ.
وفي نطاق التشريع القانوني قضى النظام الأساسي للدولة في مــادته رقم (40) بأن احترام هذا النظـام والقوانين والأوامر الصادرة من السلطات العامـة تـنفيذا لها ومراعاة النظام العـام واحـترام الآداب العـامـة واجب على جميع سكـان السلطنة، كما أكدت المــادة (41) من ذات النظام أن السلطان رئيس الدولة والقائد الأعلى للقوات المسلحة، ذاته مصونة لا تمس، واحترامه واجب، وأمره مطاع، وهو رمز الوحدة الـوطنيـة والساهر على رعايتهـا وحمايتها، مما يعني ذلك أن أوامر جلالته حفظه الله ورعاه نافذةً وواجبة الإتباع بنص النظام الأساسي للدولة الذي يمثل دستور البلاد، وحددت المــادة (42) منه المهام التي يقوم بها جلالة السلطان أبقاه الله والتي من بينها: كفالة سيـادة القانـون، واعتماد القوانين والتصديق عليها من خلال المراسيم السلطانية السامية التي تصدر بين حين وآخر، وأوضحت المادة رقم (44) من نفس النظام التعريف بمهام مجلس الوزراء حيث نصت بأن هذا المجلس هو الهيئة المنوط بها تـنفيذ السياسات العامة للدولة ويتولى هذا المجلس بوجه خاص الإشـراف العــام على تـنفيـذ القـوانيـن والمراسيـم واللـوائــح والقـرارات والمعاهدات والاتفاقيات وأحكام المحاكم بما يضمن الالتـزام بها وعدم مخالفتها، أما المــادة (59) من ذات النظام فقد أكدت على أن سيادة القانون أساس الحكم في البلاد، وألزمت المــادة (79) منه بأن تـتطابــق القوانيــن والإجــراءات التي لهـا قــوة القانون مع أحكام النظام الأساسي للدولة، بينما قضت المــادة (80) منه بأنه لا يجـوز لأية جهـة في سلطنة عمان إصدار أنظمة أو لوائح أو قـرارات أو تعليمات تخالف أحكـام القـوانين والمراسيم النافذة أو المعـاهدات والاتـفاقيات الدوليـة التي هي جزء من قانون البلاد، وبحق فإن هذه المواد والنصوص تعتبر غاية في الأهمية لترتيب وتدرج القواعد القانونية وتحديد مكانة المراسيم والأوامر السلطانية في سُلم الهرم القانوني بسلطنة عمان.
وكان قانون تنظيم الجهاز الإداري للدولة الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (26/1975) قد نص بالمادة رقم (2) منه على أن: تصدر القوانين والمراسيم من جلالة السلطان، … أما المادة (7) منه فقد قضت مذ ذاك الحين بأن: يكون هذا القانون (أي قانون تنظيم الجهاز الإداري للدولة) وأية قوانين أو مراسيم أخرى صادرة من جلالة السلطان هي المصدر الوحيد لاختصاصات وحدات الجهاز الإداري للدولة وسلطاتها التنفيذية، وكانت المادة 7 من قانون محكمة القضاء الإداري بالسلطنة قد نصت علی أنه: “لا تختص المحكمة بالنظر في الطلبات المتعلقة بعدم صحة المراسیم السلطانیة”، ومثال ذلك القوانین واللوائح الصادرة بالمراسیم، وإن الحكمة من عدم اختصاص المحكمة بنظرها هو علی أقل تقدیر أن تلك المراسیم تصدر باعتبار أن جلالة السلطان ووفقاً لما نص عليه النظام الأساسي للدولة في النصوص القانونية المشار إليها آنفاً هو المشرع والذي له حق إصدار القوانین والنظم في السلطنة، ومن جانب آخر فإن بعض المراسیم وإن كانت تصدر في حالات فردیة إلا أنه كونها صادرة من جلالة السلطان حفظه الله استناداً إلى سلطته التشريعية في البلاد فلا ريب أن لها سیادتها القانونية التي یجب ألا تمتد إلیها رقابة القضاء الإداري، وذلك للثقة الكبيرة التي یولیها الشعب العماني لسلطانه الحكيم هيثم بن طارق والذي حرص أبقاه الله منذ تولیه مقالید الحكم في البلاد علی إرساء دعائم دولة القانون والعدل سائرا في ذلك على ذات نهج السلطان الراحل قابوس بن سعيد طيب الله ثراه، ولما لهذه المراسیم من قوة قانونية نافذة باعتبارها الأداة الوحيدة التي ترى بها القوانين في السلطنة مكنة التشريع.
أما بالنسبة للأوامر السلطانية السامية فقد بینت المحكمة في العدید من أحكامها بأن تلك الأوامر قد تكون فردیة، إلا أنها قد تكون تشريعاً وذلك عندما تتضمن قواعد عامة مجردة، وهذه الأوامر في جمیع الأحوال، أي سواء كانت فردیة أو تنظیمیة، ملزمة وواجبة الطاعة طبقاً لنص المادة 41 من النظام الأساسي للدولة التي نصت على وجوب طاعة أوامر جلالته أعزه الله، كما أنها تخرج عن اختصاص محكمة القضاء الإداري بموجب نص المادة 7 من قانون المحكمة، وبالتالي فإن أي أمر سلطاني یقضي بعدم قيام المحكمة بنظر قضایا معینة أو قضایا تابعة لجهة ما، فإنه یعد من القوانین المعدلة لإختصاص المحكمة، ویسري بأثر مباشر علی ما لم یكن قد تم حجزه للحكم فیه من الدعاوی طبقاً للمادة الأولى من قانون الإجراءات المدنیة والتجاریة الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 29/2002.
وفي ذات النهج ومسايرة لما انتهى إليه رأي غالبية فقهاء القانون الإداري وأحكام القضاء الإداري، نلاحظ أنه تم غل يد القضاء الإداري في معظم تشريعات دول العالم عن التصدي للتظلمات والطعون والأعمال التي تدخل في نطاق أعمال السيادة وأعمال السلطتين التشريعية والقضائية، وهذا الأمر ينطبق في السلطنة الحبيبة على المراسیم والأوامر السلطانیة السامية، حيث نص المشرع العماني على عدم اختصاص محكمة القضاء الإداري بتلك المسائل السيادية، وقضت بذلك المحكمة بقولها: “المشرع قد حصر بنص المادة 7 من قانون المحكمة بعد تعديلها بالمرسوم السلطاني رقم (3/2009) الطلبات والدعاوى التي لا تختص بنظرها المحكمة ومنها الطلبات المتعلقة بأعمال السيادة أو بالمراسيم”، وعملاً بذلك تلقت المحكمة خطاب بتاریخ 16/10/2002م يتضمن أمراً سامیاً یقضي بأن لا تقوم المحكمة بالنظر في قضایا المنتسبین لعدد من الأجهزة الأمنیة وذلك فیما یتعلق بالقضایا المرتبطة بوحداتهم، وقد بینت المحكمة شروط تطبیق ذلك الأمر السامي بقولها “وحیث أن هذا یعد استثناء من الأصل العام ولا یجب التوسع فیه إذ الاستثناء یوجب التفسیر الضیق، وحیث یستفاد من الأمر السامي أعلاه أن تطبیقه یستوجب توافر شرطین متلازمین أولهما انتساب المدعي لإحدی الأجهزة الأمنیة، وثانیهما ارتباط موضوع القضیة بالوحدة التي یعمل بها. أنظر: مجموعة مبادئ محكمة القضاء الإداري العماني في العام القضائي 12، المكتب الفني، 2011-2012م، الاستئناف رقم (275) لسنة (12) ق.س، ص585، علما بأن هذا الأمر أصبح غير موجود بموجب تعديل قانون المحكمة بالمرسوم السلطاني رقم (3/2009).
وینبغي قبل الختام التفرقة بین الأوامر السلطانیة التي ترد علی مراكز فردیة والأوامر السلطانیة التنظیمیة، فالأوامر الفردية تعالج حالة معيّنة بذاتها، سواء تعلق الأمر بشخص أم بمجموعة محددة بالذات من الأشخاص، بشيء أو بمجموعة معينة من الأشياء، أما الأمر التنظيمي فهو ذلك الذي يتضمن قواعد عامة ملزمة تطبق على عدد غير محدد من الأفراد، ولا يهم في ذلك عدد الذين تنطبق عليهم، فكثرة الحالات وقلتها لا تغير من طبيعته ما دام الأمر قد احتوى على قاعدة عامة موضوعية تطبق على أشخاص معيّنين بأوصافهم لا بذواتهم، إذ أن المعمول به في تعیین بعض المناصب الإداریة أن یتم بمرسوم سلطاني إلا أن النقل أو إنهاء خدمة شاغل هذا المنصب یتم بأمر سلطاني، ومن المستقر عليه قانوناً أنه إذا تم التعیین بأداة معینة فإن إنهاء الخدمة لا یجوز إلا أن یكون بذات الأداة أو ما في مستواها، ومن ثم فإن الأوامر في هذه الحالة تكون في مستوی المرسوم، ولا ضیر من ذلك طالما أن تطبیقها یتم علی حالات محدودة، ومثالها إقالة وكيل وزارة ما بناء على قرار المجلس الخاص بمساءلته، كما أن الأوامر السلطانیة التنظیمیة التي تكون ناشئة عن ملاحظات جلالة السلطان علی مشاریع التنمیة، والأوامر السلطانیة التي تكون معدلة لاختصاص أو نص قانوني صدر بأداة قانونیة شأنها شأن أداة المراسيم السلطانية تعتبر محصنة من رقابة القضاء الإداري العُماني بموجب تعديل قانون المحكمة المشار إليه، وللمحافظة على ما لتلك الأوامر من آثار علی المراكز القانونیة والحقوق العامة التي كفلها النظام الأساسي للدولة، فإن المتتبع لنهج التشريع في السلطنة يلاحظ أنه يتبعها مباشرة تعدیل في القانون بموجب مرسوم سلطاني لاحق للتعديل الذي أشار إليه الأمر السامي، حفظ الله عمان العزة والشموخ تحت ظل القيادة الحكيمة لمولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق الشهم الهمام، وإلى لقاء…