السياحي

باريس.. خطوات على ضفاف السين

من مطار شارل ديجول تعبر بنا الحافلة شوارع باريس متجهة إلى فندق أوكو حيث أقمنا عدة أيام، لحضور فعاليات معرض باريس الدولي للكتاب، الذي حلت عليه السلطنة ضيفا خاصا هذا العام.

حسن المطروشي

 

كان ذلك بداية ليل الثالث عشر من مارس، وباريس تخطو بخيلاء نحو نهاية فصل الشتاء. متعبين من الرحلة الطويلة التي قطعتها الطائرة في فضاء الله الواسع، تلفحنا نسمات باريس القارسة.
بينما غط البعض في نعاس عميق، ولزم البعض الآخر الصمت، بقي الصديق الروائي محمد بن سيف الرحبي، الذي يجلس بجواري في الحافلة، محتفظا بحيويته، متحفزا يقظا، ينظر عبر النافذة إلى مفاتن المدينة ومبانيها وأبراجها وألوانها وأضوائها ومعالمها التاريخة، مستعيدا كل ما شاهده وقرأه في التاريخ والأدب والرواية عن هذه المدينة الساحرة. يشير بإصبعه: «هذه كاتدرائية نوتردام باريس التي تدور فيها أحداث رواية (أحدب نوتردام) للروائي والشاعر الفرنسي فيكتور هوغو».
كان محمد الرحبي يسهب في الحديث عن باريس وثورتها العظيمة وأحداثها الكبرى وتحولاتها وأثرها العميق في الفلسفة والفن والأدب والشعر وقيم الحداثة ومبادئ التحرر التي نشرتها عبر صراعها مع الطبقية والفساد والاستبداد والظلم والقمع، وصولا إلى باريس الملهمة عاصمة «النور».
وبينما كان الرحبي يكمل حديثه الشائق كنت أستنطق ذاكرة المكان وأستعيد الخطوات التي قطعناها معا في باريس قبل عدة سنوات عندما جئنا ضمن قافلة السبلة الثقافية عام 2012م، ومكثنا في باريس عدة أيام قبل أن نواصل رحلتنا إلى بروكسل.
مدينة كونية
في باريس لا تشعر بالغربة، فهي مدينة كونية منفتحة على العالم بثقافاته ولغاته وأديانه ومعتقداته. ثمة سحر خفي يربط المرء روحيا بهذه المدينة النابضة بكل لغات العالم وعاداته وتقاليده وطقوسه المختلفة، بما في ذلك الحضارة العربية التي بدأت تماسها باكرا مع الحضارة الغربية. فهذا عالم اللغة الفرنسي جون بروفوست، البروفيسور في علم الألفاظ وتاريخ اللغة الفرنسية يؤكد في كتابه (أجدادنا العرب: ما تدين به لغتنا لهم)، وجود أربعمائة كلمة في الللغة الفرنسية ذات أصل عربي. وبناء على ذلك فإن التواصل العربي الفرنسي عميق جدا حتى إنه دخل في صميم اللغة وبنائها، رغم أن علاقة الأدب العربي بفرنسا حديث نسبيا. وهذه الحقيقة يؤكدها قبله جرجي زيدان في كتابه (الرحلات الثلاث: الآستانة، أوروبا، فلسطين) الذي يرى فيه أن فرنسا هي أكثر المدن الغربية احتكاكا بالشرق.
وقد شهدت باريس زيارة العديد من الرحالة والمفكرين العرب والمسلمين الذين أسهموا في فهم متبادل بين الحضارتين. ومن ذلك كتاب (البُرنُس في باريس: رحلة إلى فرنسا وسويسرا) 1913م، لمحمد المقداد الورتتاني، من القيروان. وكتاب (صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار)، للشيخ محمد بيرم الخامس التونسي (توفي 1307 ه 1889م) الذي يقول فيه: «باريس وما أدراك ما باريس. هي نزهة الدنيا وبستان العالم الأرضي وأعجوبة الزمان». وكتاب (أسبوع في باريس) 1922م، لمحمد بن عبدالسلام السائح، الذي يوثق فيه رحلته لتحقيق قبلة مسجد باريس، وقد وصف دهشته عند وصوله إلى باريس قائلا: (ما أدراك ما باريز، بهجة الدنيا ومنبت الحضارة، ومهد الرقي ومنبثق العلوم، ميدان سوابق الأفكار، ومجلى سوانح الأنظار، ديوان المبتدأ والخبر، ومرآة ما حضر وغبر».
ومن أبرز الكتب في هذا المجال كتاب (تخليص الإبريز في تلخيص باريس) لرفاعة الطهطاوي، الذي أرسل عام 1826م إمامًا لبعثة علمية مصرية لتلقي العلوم الحديثة في فرنسا، حيث مكث خمس سنوات وألف الكتاب بعد عودته. كما كتب زكي مبارك كتابه (ذكريات باريس)، وكتب توفيق الحكيم روايته (عصفور من الشرق) التي تدور أحداثها في أجواء باريس، وتعكس جوانب من مظاهر الحياة المادية فيها وعلاقة الشرق والغرب والواقع الاجتماعي إبان تلك الفترة. كما نذكر هنا أيضا رواية (الحي اللاتيني) للكاتب اللبناني سهيل إدريس.
وهناك الكثير من الكتب التي لا يتسع المجال هنا لذكرها، تجسد هذا التواصل الحضاري العميق والاحتكاك الخلاق بين الثقافتين العربية والفرنسية.
متعب في ليل المدينة
لم يدع لي الصديق الدكتور علي المالكي، نائب مندوب المملكة العربية السعودية في اليونسكو، مجالا للجلوس بعد أن وضعت حقائبي في الفندق. فما هي إلا لحظات حتى أبلغني بأنه في انتظاري في الخارج ليصطحبني في جولة باريسية مسائية طويلة!
الدكتور علي المالكي، رجل حيوي ومرح، ويعرف باريس وأحياءها كما يعرف أهلها أو أكثر، فهو خريج جامعة السوربون، وقد أمضى هناك فترة من الزمن، ويجيد التحدث باللغة الفرنسية بطلاقة متناهية. فأي رفيق بعد ذلك تريد في باريس؟!
انطلق بنا الدكتور علي المالكي بسيارته الدبلوماسية المريحة في شوارع باريس، بين تبادل التحايا والنكات واسترجاع الحكايات القديمة من القاهرة إلى الطائف. وبين ذلك كله لا ينسى المالكي التعريف بمعالم المدينة وأسماء الشوارع والميادين والمعالم التي نمر بها.
كنت متعبا جدا، وأشعر بنعاس هائل، بعد رحلة طيران طويلة من مسقط، إلا أن المالكي استطاع، بلطفه وحكاياته الشيقة ومعلوماته الثرية وأحاديثه التي لا تمل، أن يجعلني أنسى التعب والعناء وأنطلق معه بخفة وسعادة متناهية.
تقاطعات قوس النصر
ها نحن نقترب من شارع الشانزليزيه الشهير الذي يعد أحد أعظم معالم باريس، ويمتد قرابة كيلومترين من قوس النصر غربا إلى ساحة الكونكورد شرقا، حيث تنتصب المسلة الفرعونية العتيقة، وعلى مقربة منه نهر السين العظيم.
ونبدأ دخولنا إلى الشانزليزيه بالمرور بقوس النصر الذي يقع في ميدان شارل ديغول، القائد الفرنسي الذي قاد حروب بلاده في الحرب العالمية الثانية، وتولى منصب حكومة فرنسا الحرة. في هذا الميدان يلتقي اثنا عشر طريقا تأتي من جهات مختلفة من أنحاء باريس الشاسعة. وقد جرى تشييد هذا القوس بأمر من نابليون بونابرت الذي كان يهدف من خلاله إلى تخليد انتصاراته. ويقع تحت القوس قبر الجندي المجهول الذي تسطع شعلته الأبدية تخليدا لذكرى الجنود الفرنسيين الذين قضوا نحبهم في الحرب العالمية الأولى.
كل جزء من هذا القوس له قصة مختلفة، وكل ركن فيه ينطق بحكاية مغايرة، يطول الحديث عنها في هذا المرور العابر.
في زحام الشانزليزيه وحطامه
بتباطؤ وحذر شديدين شقت المركبة طريقها في زحام الشوارع المتقاطعة حيث تعبر عشرات المركبات في الثانية الواحدة، ثم دخلنا في أبهة الشانليزيه بأضوائه الساطعة وجادته الشاسعة. تعود بي الذاكرة عدة سنوات للوارء حين مررت هنا لأول مرة. الطريق هو الطريق. ذات المقاهي والضجيج والخطوات المسرعة والناس والمحلات والواجهات البديعة والمسارح والحياة الصاخبة. هنا بقعة لا تفتر ولو لبرهة من الزمن.
يقول لي الدكتور علي المالكي ونحن نعبر زحام الشانزليزيه: «لم يعد الشارع كما كان. مساء كل سبت تخرج مظاهرات أصحاب السترات الصفراء، ويملأون الشارع بالفوضى وأعمال الشغب. سأصطحبك إلى هنا مساء السبت بعد انتهاء الاحتجاجات، وسترى بأم عينك طبيعة الدمار وحجم الفوضى». وكما وعدني الدكتور علي المالكي، يأخذني في جولة أخرى مساء السبت، وأتي مجددا إلى الشانليزيه. لم أصدق ما شاهدت للوهلة الأولى. كان الشارع أشبه بجسد جندي جريح، خرج للتو من ساحة المعركة، ينزف من كل أعضائه. رائحة الأكشاك المحروقة. واجهات المحلات ذات العلامات التجارية الشهيرة، مهشمة وقد تم نهبها عن بكرة أبيها. ثمة تدمير ممنهج لمعالم الطريق السياحية والحضارية. الخوف سيد المكان، وعمال الإعمار يعيدون بناء الواجهات المهشمة، فيما تتناثر أشلاء الحطام في كل مكان!
وبينما كنا نكمل تجوالنا بالمركبة أو على الأقدام كان برج إيفل يلوح لنا بأضوائه الساطعة شاهدا على ليل باريس الهادر بالحياة.
الكونكورد والمسلة
بنهاية شارع الشانزليزيه من الجهة الشرقية يأتي ميدان الكونكورد الذي تنتصب في وسطه المسلة الفرعونية القادمة من الشرق، التي باتت جزءا من مكونات المكان وذاكرته. لست أدري لماذا يطل علي طيف نزار قباني وهو يقرأ قصيدته لفاطمة الحجازية في ساحة الكونكورد:
يُمْطِرُ عليَّ كُحْلُكِ الحجازيّْ
وأنا في وَسَط ساحة (الكونكوردْ)
فأَرْتَبكْ..
وترتبكُ معي باريسْ
تسقطُ حكومةٌ .. وتأتي حكومَة
وتطيرُ الجرائدُ الفرنسيّةُ من أكْشَاكِها
وتطيرُ الشراشفُ من فوق طاولات المقاهي،
وتطلبُ العصافيرُ اللجوءَ السياسيْ
إلى عَيْنَيْكِ العَربيَّتيْنْ!.
ويعد هذا الميدان أحد معالم باريس النابضة ومن أكبر ميادينها وأشهر ساحاتها، نظرا لتاريخه والتحولات التي شهدها منذ تأسيسه عام 1977م. كان في الأصل يحمل اسم لويس الخامس عشر، وبعد قيام الثورة الفرنسية وتحول فرنسا إلى النظام الجمهوري أطلق عليه «ميدان الثورة»، وفيه أعدم آخر ملوك فرنسا لويس السادس عشر، لينتهي بذلك فصل كبير من فصول التاريخ الفرنسي.
أما المسلة الفرعونية فقد جاءت من معبد الأقصر في مصر، وهي هدية من حاكم مصر محمد علي باشا إلى فرنسا، نظير ما قدمه الفرنسيون في الكشف عن الكثير من التراث الفرعوني.
وتنتشر في امتداد هذا الميدان المقاهي والمطاعم والمحلات المختلفة وتلك التي تلبي حاجات السياح في اقتناء التذكارات والهدايا ذات النهكة الباريسية الخاصة.
الحي اللاتيني
نتوقف في الحي اللاتيني. هذا الحي العتيق في مدينة باريس، وهو يشكل أولى بدايات الاستيطان الإنساني في هذه المنطقة، على يسار نهر السين. هذا الحي ذو الأزقة الحجرية مكتظ بالحركة، ومأهول بالمقاهي والمطاعم والمحلات المتنوعة. وهو حي طلابي بامتياز، نظرا لوجود الجامعات فيه ومن أبرزها جامعة السوربون وجامعة كوليج دو فرانس.
ذرعنا الأزقة بحثا عن مكان لإيقاف المركبة، ثم ترجلنا مشيا على الأقدام باتجاه المقهى الذي اقترحه الدكتور علي المالكي، حيث تناولنا القهوة وتجاذبنا الكثير من اللواعج لاسيما ما يتعلق بالشأن الثقافي وأحوال المثقفين في عالمنا العربي.
إلى هذا الحي سنعود بعد ثلاثة أيام لنكمل اكتشاف ما فاتنا في تفاصيله ودهشته. في الطريق مررنا على حديقة اللكسومبورج الهائلة التي تعد إحد معالم هذا الحي، وقد تزين سياجها المنيع بالأعمال التشكيلية والفوتوغرافية، لتتحول إلى معرض فني في الفضاء الطلق.
نمر في هذا الحي أيضا بمحاذاة مقبرة العظماء أو (البانثيون) كما يعرفها الفرنسيون، بمبناها المهيب الذي يطل على كافة أحياء باريس، وقد تم تشييده في الأساس أواسط القرن الثامن عشر ليكون كنيسة، قبل أن يتحول إلى صرح وطني يضم رفاة أهم الشخصيات التي عرفتها فرنسا، حيث يتطلب الدفن فيه موافقات وإجراءات رسمية عليا.
ندلف إلى ساحة سان ميشيل، نلتقط الصور بالقرب من نافورته الشهيرة، لنواصل الرحلة سيرا على الأقدام على ضفاف نهر السين، حتى ساعة متأخرة من الليل، والبرد يتسلل إلى عظامنا، وسماء باريس لا تكف عن هطول المطر. لم نترك شاردة أو واردة لم نتحدث فيها. كنا نسابق الوقت لاغتنام آخر ما تبقى من زمن لقائنا، قبل مغادرتي اليوم التالي عائدا إلى الوطن.  

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق