الثقافي

قراءة في قصص “أحلام الإشارة الضوئية”

د. عزة القصابي 

    توالت إصدارات الكاتب الدكتور سعيد السيابي، الذي عرفه الوسط الثقافي والمسرحي من خلال مجموعاته القصصية، مثل: (المبراة والقلم 2017، ورغيف أسود 2015، وأحلام الإشارة الضوئية 2015، ومشاكيك 2019، جبرين وشاء الهوى 2016.  وللكاتب مؤلفات أخرى في مجال الدراسات النقدية .

ورغم ثقافة السيابي المسرحية إلا أن مشروع كتابة القصة استهواه، وهذا لا يتقاطع مع تخصصه في مجال المسرح، ولكنه يضيف إليه. فكلا المساقين الإبداعين يرتكزان على الحكاية والقصة، وكثيرا ما كُتبت مسرحيات مأخوذة عن أعمال قصصية وروائية.

وعن تجربة السيابي الكتابية في إصدار (أحلام الإشارة الضوئية)، فإنه استطاع أن ينقلنا إلى عالم القصة القصيرة.  هذا الفن الكتابي المختزل الذي يكتنز بكم من الأفكار والدلالات الفكرية والاجتماعية، لتضمنه لغة تحتمل التلميح والاقتضاب والاختزال، بالإضافة إلى الانزياح نحو المباشرة واللغة التقريرية التي تعبر مواقف الشخصيات.

     وسوف نتوقف عند المجموعة القصصية (أحلام الإشارة الضوئية) التي اختزل الكاتب فيها الحدث لسرد حياة الشخصيات المتأزمة بفعل ظروف الحياة الصعبة. مع التقليل من عدد الشخصيات، والاكتفاء بالشخصية المحورية التي تتمحور حولها القصة، كما قد نسمع لسان حال المؤلف يتحدث في خضم الاحداث القصصية.

تبرز الشخصية الرئيسية في معظم هذه القصص كعنصر فاعل لدفع الحدث وصولا إلى الذروة، كما أن هذه الشخصية، تصنع محيطها المكاني والزماني ذات الصلة بالواقع الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي الذي تعيش فيه. وتنتهي بخاتمة غير متوقعة.

 عنوان ومعنى

    تكتظ قصص السيابي بمجموعة من العناوين ذات الدلالات المرتبطة بوجع الإنسان من ظلم الآخرين لها، ومن جلدها لذاتها عندما يقحم المرء نفسه في مواقف اجتماعية خاسرة.

 وتضمنت المجموعة القصصية (أحلام الإشارة الضوئية) مئة وتسعة قصة، نسوق للقارئ عناوين بعضها: 

  (توقيت غير مناسب، ومنديل، كراسة رسم، جاري، الولد سر ابيه، مسمار، قرار أب، دلع شيطاني، مواساة من نوع آخر، حيرة، ميلاد رسامة مرفوض، صاحب الصدقات، ماركة العجوز، يسقط الشعر، الكاشف، ذباب، مركبات من الذهب في الجنة، داعية الملذات، لا يأكل الجزر، نصف المرجلة، مرفوض، زواج مسمار، قهوة جديدة، الفنان الكبير، صاحب الصدقات، وداعية الملذات)…وغيرها من العناوين المشوقة التي تثير فضول القارئ، وتحاول أن تبحث في  مضامين القصص بما فيها من أحداث وشخصيات…ومن الملاحظ أن هناك عناوين كتبت بالعامية، وكأن العنوان هو الجسر الواصل بالواقع الذي نعيش فيه.

   سوف نسبر في الأسطر القادمة مضامين قصص مختارة من المجموعة، لنتحدث عن   محتواها السردي الذي يمزج بين الواقع والخيال، وبين السرد المتنوع والناظم الخارجي وضمير المتحدث، الذي يُعد وسيلة ليتوارى السارد ضمنها، ويمرر من خلالها أيدولوجيات منبثقة من الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي في المجتمع الذي يعيش فيه.  وسوف نستعرض حكاية بعض هذه القصص حسب الموضوع، كالتالي:  

  • نضال الإنسان من أجل الحرية وقمع الفساد 

قصة (غبار الشعر): اختار السيابي شخصية الشاعر الذي يصدح بكلماته كشخصية محورية، تعاني من تضييق مساحة حرية التعبير لديها، لذا فإن هذا الشاعر لا يستطيع التعبير عن قضيته، ويكتشف أن أفكاره وتوجهاته مصادره حتى في أحلامه. وفي النهاية يفر هاربا ليتأمل السماء الصافية ويتنفس الصعداء.

قصة (حقنة): تضمنت مجاهرة واضحة وصرخة ضد الفساد وأشكاله! عندما جعل الكاتب شخصية المهندس المخلص لوطنه يتحدث عن تأثير الدخان المتصاعد على البيئة من المصنع الذي يعمل فيه. وبدلا من مكافأته، فإنه يقتاد إلى مستشفى المجانين بصورة مأساوية قسرية، لأخذ حقنه تسبب في جنونه حتى فارق الحياة. 

قصة (عذاب وعذب): يستغل الكاتب التضاد اللفظي في مفردات عنوان قصته، لفضح الفساد في الواقع الوظيفي الذي ينتشر في بيئات العمل الوظيفي، حيث ظهرت شخصية الموظف أو الشاعر الذي يتملق لأحد المسؤولين، والذي كتب قصيدة بعنوان “عذب الروح أنت” من أجل الترقي الوظيفي، وعندما لم يحقق مراده من المدح كتب قصيدة أخرى بعنوان “عذاب الروح أنت”؟! 

قصة (ابتسامات مزيفة) : تسرد هذه القصة مسلسل التملق والمجاملة والكذب والرياء  في واقع  العمل، من خلال  سرد حكاية  مسؤول  اعتاد الموظفين على مجاملته، وما أن يغادر أو يبتعد ذلك المسؤول عنهم،  حتى تخرج الألسن لتلعنه وتسبه وتغتابه؟!

قصة (مانشيت رسمي): يستكمل المؤلف مشروع تقويض وكشف النقاب عن أركان الفساد المتمثلة في شخصية (الوزير أو المسؤول) الذي ما أن يتولى المنصب حتى يأكل الأخضر واليابس، ويؤسس القصور داخل البلاد وخارجها. وينهي الكاتب قصته بحقيقة صادمة، مفادها أن المسؤول القادم الذي سيستلم الوزارة، سيسير على نهج الوزير السابق ليستمر مسلسل الفساد؟! إذن ليس هنالك حاجه لتغيير المسؤولين، إذا كان مسلسل الفساد ونهب المال العام سيدوم!

قصة (الميزان) : تحدث  الكاتب في هذه القصة عن عالم التجارة  حيث ضياع العدل، وتجاوز القوانين من أجل  الحصول على المال.  واصفا حال التاجر الذي كان يعيش أمينا في تجارته، وكان يرضى بالقليل كما فعل والده سابقا، ولكن ما أن جرب الميزان الحديث، حتى بدأ يكتال المثقال بالكذب والغش ويكسب الكثير! فاستساغ الطريقة الحديثة بدلا من الطريقة القديمة!

قصة(ذباب) : أثارت هذه القصة  تساؤلا حول مفهوم  التغيير الذي يبدأ بإصلاح الذات؟ عندما سردت قصة شاب يحوم حوله الذباب، وعندما اهتم بالنظافة وغسل انفه، فإن الذباب تلاشى!…ورغم قصر هذه القصة التي أوجزت احداثها في سطرين، إلا أنها اختزلت الكثير من نظريات تغيير الذات، والدعوة إلى الإصلاح  التي تنطلق من ذات الفرد!

ب. زيف الواقع الاجتماعي، وضياع المُثل والقيّم الإنسانية

قصة (أين أجد مثلها): يسرد الكاتب قصة زوجة عاشت مع زوجها البخيل، ولم تعرف في حياتها مفردات، مثل: السوق والنقود …وظلت صامتة، حتى فارقت الحياة. ذهب الزوج بعد وفاتها إلى الشيخ ليبحث عن زوجة له تشبه المرحومة، بحيث يمكن أن تتحمل بخله وتقتيره. فأجابه الشيخ بأنه يمكن أن يعثر على مثيلتها، ولكن في دنيا الفناء!

قصة (عيد زواج الصالة): يعرج الكاتب إلى عالم الحياة الزوجية في هذه القصة، واصفا جفاف العلاقة الزوجية وترهلها بين زوجين بفعل ضياع الحب والاحترام بمرور الزمن. واختزال ذلك من خلال سرد الحدث بعد عودة الزوج في ليلة الاحتفال بعيد زواجه الثالث، لينتهي المطاف به إلى صالة المنزل لينام وحيدا!

قصة (قرض):  تؤكد  هذه القصة فكرة ضياع الأمانة بين الناس، وإن ارجاع الأمانة أصبح في عصرنا الحالي شبه مستحيل، واصفا الناس بأنهم  لا يرجعون المال. وهذا فعل سلبي يدل على انعدام الثقة بين الناس، فلا نجد من يرحب بقرض المال للآخرين.

قصة (الجني الذي هز الأنسي): تناقش هذه القصة الخرافة والتقاليد البالية والبدع من خلال خرافة   تلبس الجن للبشر والرغبة في الزواج منهم. وذلك من خلال قصة الجني الذي يتلبس فتاة ويعشقها، ويتقدم لخطبتها بواسطة حوار افتراضي بين المعلم/الشيخ والجني. وتمكن السيابي من توظيف تيمة مترسخة في ذاكرة المجتمعات العربية، والتي تؤمن بها شريحة كبيرة من الناس، وخاصة في الأوساط الشعبية التي ينتشر فيها الجهل والدجل. 

وفي خاتمة القصة، يتبين للقارئ أن ما حدث كان مجرد حلم في اللاوعي لوالد الفتاة، الذي كان يرفض تزويجها للشخص الذي اختارته، لكن بعد هذا الكابوس المفزع، يضطر للخضوع لرغبة ابنته وتزويجها بالشخص الذي اختارته. 

قصة (انكشاف): يسبُر الكاتب في هذه القصة الذات البشرية المترفة التي تعيش عالة على الآخرين، ولا تحسب حساب الزمن. هذا كان واقع الفتاة التي كانت تعيش حياة مترفة، مدللة في كنف والديها، وعندما تزوجت وجدت نفسها غير قادرة على التكيف مع واقعها، الذي يلزمها أن تعتمد على نفسها. 

قصة (الولد سر ابيه): صاغ الكاتب تفاصيل قصته على غرار المثل الشعبي للتواصل مع المجتمع بأسلوب سردي اجتماعي، وهو يحكي قصة الأب الذي يعمل في تجارة المخدرات، والذي كانت نهايته السجن. ثم انتقل ساردا بأسلوب تقريري مصير ولده الذي لاقى نفس المصير بعد اتهامه بجريمة قتل. …وهذا يؤكد تأثير الأب على الأسرة، والذي يكون سببا في انحراف أفراد الأسرة أو سيرها على الصراط المستقيم.

قصة (كراسة رسم): انتقل الكاتب في هذه القصة إلى عالم الطفولة البريء من خلال فك شفرات رسومات، دأب طفل على رسمها في إحدى المدارس. وكان المعلم يستغرب من أمره عندما كان  يرسم صورا عنيفة، وبعد محاولة معرفة السبب ،  اتضح أن ما يدور في اللاوعي للطفل،  هو انعكاس للعلاقة العنيفة بين والديه!

قصة  (لا يأكل الجزر): الحكم المسبق على الأشخاص أو الأمور ورؤيتها من زاوية واحدة ، جاء  في قصة عدد من الشباب الذين زاروا حديقة الحيوان، وشاهدهم المشرف وهم يضحكون على الأرنب لأنه رفض  أن يأكل الجزر،  والذي أخبرهم  في النهاية أنه جرذ وليس أرنب! لذلك فهو لا يأكل الجزر!

قصة (خيلاء): يسعى السيابي إلى دحض بعض العادات السلبية لدى الناس، فنجد البعض يتشبث بالمظاهر الشكلية، وهذا تسبب في تكبل الديون والفقر الذي يحاصر بطلة قصته، والتي شبهها الكاتب ب(الطاؤوس) في كبريائها وفستانها الأنيق. ليتضح في النهاية؛ أنها كانت تعيش حياة زيف! وانكشفت حقيقتها عندما سرقت حقيبتها، ولم يجد السارق فيها شيئا سوى الهاتف المحمول وعلبة المكياج!

(قهوة جديدة): تثير هذه القصة تساؤلا حول أيهما أهم الشكل أم المضمون؟ .. من خلال سرد قصة قهوة قديمة هجرها مرتاديها، وعندما غير صاحبها اسمها بآخر جديد، فإن زوارها السابقين أقبلوا عليها، مع العلم أن القهوة الجديدة تقدم نفس محتوى القهوة سابقا. وهذا يؤكد فكرة اهتمام كثير من الناس بالشكليات دون الجوهر!

قصة (برتقالتان على قارعة الطريق): تظهر بطلة القصة نادمة على القرارات الأولى التي اتخذتها في بداية حياتها، وجعلتها تفرط في الفرص المتاحة لها، لذلك أسدل الستار على قصتها قائلة “لو أن الزمان يعود”!

قصة (البنطلون): أوجز الكاتب الصراع بين الأجيال حول مفهوم العادات والتقاليد، ومحاولة الآباء لأقناع الأجيال بضرورة التمسك بتراث الأجداد، وعدم التغيير والتمرد على هذا الكنز الخالد.  وظهرت في هذه القصة شخصية الابن الذي أصر على ارتداء البنطلون والقميص، واثناء جلوسه سقطت صورة الأب المعلقة في الحائط وهو يرتدي الدشداشة والمصر والخنجر! وبذلك تمكن المؤلف من اختزال ذلك الصراع، والتنديد بالفكر المتوارث عندما سقطت صورة الاب، وكأن ذلك الفعل يسجل حالة اعتراض على تمرد الابن، لأنه ترك تراث اجداده وقام بتقليد الآخرين!

ج. نهج تفكير القطيع 

يستطرد السيابي، واقعا اجتماعيا آخر، من خلال مضمون قصتين تؤكدان سيادة تفكير القطيع على الأفراد:

  1. قصة (سلسلة): لازم الخوف بطل القصة اثناء عودته لمنزله ذات مساء. وبالصدفة سمع صوتا، وفر هاربا وقفز من جدار المنزل خائفا ! وتبين للرجل لاحقا، إن ما سمعه كان مجرد صوت سلسة معلقة في عنق بقرة هاربة!  و بذلك يكون بطل القصة خضع لسياسة تفكير القطيع المترسخة في اللاوعي لديه، والذي يتمثل في فكرة الخوف من الأشباح ليلا، والذي تسبب في عدم قدرة الرجل على فهم وتفنيد الأصوات، لذلك كان حاله مثل حال البقرة !

  1. قصة (جمعية البيض) : تتحدث هذه القصة عن أصحاب شركات البيض الذين قاموا بتأسيس جمعية للبيض، ولكنهم سرعان ما دخلوا في صراع واختلاف في الآراء وعدم الاتفاق  حول من يرأس  هذه الجمعية، وتسبب ذلك في إغلاقها. وتُعد هذه الجمعية نموذج للعديد من الجمعيات التي تصف الصراع الذي ينشب من أجل من سيصبح الرئيس! وفي الغالب فإن المصلحة الذاتية تغلب على المصلحة العامة. ويتكرر هذا المشهد أو الحدث ليؤكد تفكير القطيع، ونجد الجميع يتشبثون بالمنصب أو السلطة.

    ويتضح من ذلك، أن قصص (أحلام اشارة المرور)، بمثابة مرور عابر على محطات على الحياة بأفراحها وأحزانها. وسعت إلى البوح عن ذوات الشخوص التي تقود الحدث السردي، وتأجيج صراع الشخصيات مع ذاتها أو صراعها مع الآخرين ” الشخصية في القصة بمثابة واسطة العقد بين جميع المشكلات، حيث أنها تصطنع اللغة، وهي تبث أو تستقبل الحوار، وهي التي تصطنع المناجاة وتصف معظم المناظر التي تستهويها، وتنجز الحدث. كما أنها تنهض بدور تضريم الصراع وتنشيطه من خلال سلوكها وأهوائها وعواطفها”

      وتعدد الموضوعات التي يطرحها المؤلف، فهناك طرح لحريات وحقوق الإنسان، قضية المرأة المظلومة اجتماعيا، العنف الأسري، الفساد الإداري، الاهتمام بالشكل على حساب المضمون، والبذخ والاهتمام بالمظاهر.  فضلا عن ذلك، فإن السيابي انتشل شخصياته من قعر الواقع الاجتماعي، الذي يعج بالكثير من القضايا الإنسانية من خلال اختيار المكان الذي يرتبط باللاوعي الجمعي للمجتمع وعاداته وأفكاره وقناعاته، ومسلماته الدينية والسياسية المتوارثة.  ويرتبط المجتمع بالمكان أو البيئة التي يحدث الفعل فيها، وهو بمثابة “البناء القصصي الذي تدور فيه الاحداث وتتحرك الشخصيات، والذي يحمل دلالة الزمان والإنسان أي أنه يكمل صناعة المشهد القصصي”.

     ختاما، هذه دعوة للقارئ للاطلاع على مجموعة (أحلام الإشارة الضوئية)، والتي تثير قصصها جدلا اجتماعيا وفكريا تتضارب فيه الاضداد:  الحق والباطل، الفساد، والعدالة، الجمال والقبح، الكرم والبخل، الجوهر والشكل، الجرأة، والجبن، الظلام والنور، الغنى والفقر، الجديد والقديم، الاصالة والمعاصرة…وغيرها من المفردات التي سردت  قصص أبطالها،  وعبرت عن الإنسان وقضاياها الأزلية.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق