يبدو اننا امام مرحلة فاصلة في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي، مرحلة تتشكل فيها قناعات وثوابت أخرى غير التي عهدناها سابقا، مرحلة ربما تكون الاخطر في هذا الصراع الوجودي، تيار جارف يفكّك الثوابت والمسلمات التي عايشناها وعشنا من اجلها.
إن مسالة التسابق واللهاث للفوز برضا أمريكا واحتضان إسرائيل، لعمري أنها مرحلة يوشك العرب أن يسلموا أنفسهم ورقابهم طواعية لمصيرمجهول. إن أغلب المتشائمين لم يكن ليتوقع معايشة هذا الواقع الأليم في يوم من الأيام.
إن الخلل الذي تكشّف لنا ولجميع المراقبين تلك الحماسة غير المسبوقة التي يتحدث بها الساسة وكذلك البطانة التابعة لهم لنيل ود اسرائيل. بل وصل الأمر الى مشايخ عهدناهم منبرا للخير والصلاح تطوعوا لتبرير هذا الأمر المخزي، والأدهى من ذلك كله هو تلك النغمة التصالحية المهادنة التي تسود وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك التفسير المعيب لأحداث تمسّ مصير أمة العروبة والاسلام، قبل ان تؤطر بدول وزعامات أو مشيخات.
التصالح، أو مايسمى التطبيع مع اسرائيل، هو خيانة لكل العهود والمواثيق العربية التي شكلت الجبهة العربية منذ نشأتها والتزام دولها وحكامها مع الشعوب العربية أجمع من الخليج إلى المحيط.
التصالح معها، أو ما يسمى السلام، هو خرافة لم يستوعبها بعض الساسة بكل أسف حتى الآن. بل هي خدعة كبرى تنطلي علينا اليوم بعد ان خطط لها ورسم لها ساسة الغرب المتصهين، وثابرت عليها قيادات وعصابات من الصهاينة الاسرائيليين ومن المتصهينيين العرب أبناء جلدتنا ممن تطوّع للتآمر على إخوانه من العرب والمسلمين. وممن روّج ولهم وسهّل عملهم وأدخلهم علينا وفتح لهم منافذ يلجون من خلالها بدعوات إنسانية ودينية وثقافية شتى.
إن هذا السلام المنشود لن يصنع لنا حماية ولا دفاعا ولا رفاهية ولا تنمية ولا تقنية ولا ثورة معلومات نبتغيها منهم، ولا تسامح وحب الآخر كما نسميها، وأقنعنا بها انفسنا. ولن يوصلنا لمصاف الدول الصناعية المتقدمة التي ننشد. ولن نقود العالم كما نحلم، بل سيقودنا عالمنا الضعيف الهش بنا.
ما نشهده اليوم في منطقتنا العربية هي عربدة سياسية بكل ما تحمله الكلمة من معنى سيكون لها أول ولن يكون لها أخر. سيكون لها أطر وقوانيين نتدافع من اجلها لاسترضاء امريكا ولن يكون لها نهايات لتبعات هذا السيل الجارف الذي رسم وخطط له لتغيير ايدلوجيات وثقافات رضعتها شعوب المنطقة منذ سنوات نزول الوحي وحتى يومنا هذا.
لذا ينبغي أن يكون هناك تدارس لهذا الامر الجلل قبل فوات الاوان. كما إن ثوابت وقناعات الشعوب المترسخة يجب أن تحظى بشيء من التبجيل والاحترام فهي ثوابت تربيت ونشأت عليها أجيال تلو أجيال، وأن يكون هناك جهد وآراء وشفافية لتبرير كل فعل أو عمل يتعارض مع الثوابت والرواسخ الأيدلوجية، وأن يكون هناك تفهم ومن ثم اقتناع لما نحن ماضون لأجله، وأن يكون للنخب السياسية والثقافية في المنطقة دور وإسهام.
إن مصير شعوب المنطقة على المحك، فإما أن تدخل الى جحر ينفذ لعوالم ودروب ومسارات لاترتجيها، ولا تبتغي النفع منها، لما لها من تبعات مدمرة وويلات ربما ستكون قد ضيّعت بوصلتها وحادت عن طريقها إن هي استفاقت من النشوة ورجعت الى عالمها. وإما أن تسلك طريق يوصلها أو يحملها إلى مسارات يكبدها ويلات الغضب والوعيد العالمي الصهيوني.
لذا فإننا أمام لحظة تاريخية فاصلة ماحقة. تكمن خطورتها في التهاوي والتنازل لهذه النخب مصحوبا بتيار جارف نحو تكتلات واصطفافات جديدة غير مسبوقة ولا مدروسة في المنطقة. تهاو ربما سيكون الأقسى والأعنف لها إن هي تطوعت وتقدمت لهذا الاختبار التاريخي والمصيري لها. وربما ستتجنب الويلات إن هي تداركت ذلك وأفاقت وتدارست الامر بروح الدول الراسخة الواثقة الحريصة على قيادة عالمها العربي ومحيطها الاسلامي.. وأن تكون قضاياها في طليعة الأولويات.