الثقافي
بتول حميد: أكتب بعد جرعات هائلة من الألم
بطفولة متناهية تحلم بقصيدة مفردة، لا لتعيد بناء خارطة الوجود وتشكل هيكل العالم من جديد مثلما يتوهم البعض. وإنما لتخترق هذه القصيدة/ الطقة قلبا واحدا فقط، وتستقر فيه إلى الأبد.
بهذ الحلم الشفيف تكتب قصيدتها التي تشبهها في كينونتها وتوقها ونزوعها وأحلامها وجنونها. شاعرة تؤمن بالحرية وترفض الوصايات من أي نوع كانت، في الكتابة والحياة معا. ولا ترى حياة أو إبداعا خارج ذلك. ومن أجل ذلك ترتكب الكثير من الحزن وتتماهى مع الألم الذي يمنحها نافذة أخرى تطل منها على مشهد آخر للوجود غير الذي يراه العابرون، لتنقله عبر قصيدتها الآسرة.
إنها الشاعرة البحرينية بتول حميد، التي فتحت للتكوين قلبها على أوسع مداه، وحدثتنا بصدق عميق عن الشعر والفن ومكابدات الكتابة ولذة الاحتراق في أتون القصيدة.
فتنة القطع الحادة
تحدثت في البدء عن مجموعتها الشعرية الجديدة (أتسوَّلُ الحياة بوجه مكشوف) وعن عن أصوات الألم الكامنة بين ثناياها فقالت: يستدعي حديثي ما قاله بورخيس: «الشعر هو أن نترجم حنق السنين إلى موسيقى وإشاعة ورمز.. أن نرى في الموت نومًا وفي الغروب ذهبًا حزينًا؛ فذلك هو الشعر خالدًا معوزًا»؛ أخال أن الحزن شريك وسيم للشعر وعريق في تاريخه. تربكني ثنائية الموت والحياة وحاولت ارتكاب ثيمة مفارقة لها عبر الديوان، بين ضجيج الحياة وصمت الجنائز، بين سكون الأيام الرتيبة ونحيب المكلومين بالفقْد مسافات هائلة يمكن تأثيثها بمعانٍ منفردة.
ورغم أنّ ثمة فخا وجوديا رائعا يدعوني دومًا للكتابة .. لكني أكتب غالبًا بطريقة مؤلمة.. أبتلع دمعي وأرش الليل على الكلمات، أدلق النبض بتأمل وكثافة شديدين.. تفتنني القطع الحادة وأرصها في النص وهي تدمي إصبعي لتنحت صداه وأحاول جاهدة أن تكون جدليّة اللغة بكامل موسيقاها التصويرية إلى الحدّ الذي يمكنني من لمس كينونته ووصفه في مشهد مرئي.
قصيدة بتول حميد تجسد نسيجا من كينونتها الخالصة، وهي تعكس عالما مشوبا بالأسئلة والحزن والطفولة معا .. ندلف معا إلى فضائها الشعري المحض الذي تقول عنه: دعنا نخوض هذه الأسئلة بمخيّلة شعرية.. ما طعم القبلة الحائرة وماذا ترتدي النجمات في ليلة ماطرة؟ أليس من حق الورقة الربيعية التي سقطت سهوًا ذاتَ خريف أن تجد حبرًا تسكب فيه غصتها..؟ ومن غير الشعر ينقل لأسماعنا نبرة الندم الخائنة في الأفراح المتأخرة.. ويصوّر لنا لعنة الذاكرة التي حرقوا قلبها ولمست بخاره على الوجنات! يرسم اللوحة الباهتة التي بكى أمامها يائسًا فان جوخ.. يبكي القصيدة الثكلى التي تركها لوركا بعد موته.. يقبض على الحجرة الغارقة في ثوب فيرجينيا وولف.. يستطعم النكهة السيريالية في حساء السجين السياسي.. ويتحسس الفكرة الغائرة في نصوص سيلفيا بلاث.
إنْ كانت كلماتنا كهلى فالشعر الذي يرتدينا لا بد وأن يعانق طفولة الفكرة.. يتلمس وخزة الشوك التي تجعلنا نتخيّل سكرة الموت ونحدق مليًا في السقف الأزرق الذي نتوهم منه هطولنا بغزارة ونتأمل مونولوجنا الخفيّ من الدمية التي لمسنا قطنها الأبيض لأول مرّة.
ليست ترفًا
ورغم المرارة ووخز الكلمات وألم المكابدة إلا أن الكتابة، لاسيما الشعرية، تمثل لبتول السلاح الأقوى في مواجهة العدم والعالم ووحشيته ودماره وكائناته الدموية. تقول صاحبة «أتسوَّلُ الحياة بوجه مكشوف»: في خضم الحرب والجفاء وقسوة العالم.. تمثل لي الكتابة طوْق نجاة؛ أعني الكتابة التي لا يخدشها الجنون ولا تتعلقن وتتماهى في برودة الجوامد وتجنح للفوضى والموسيقى.. الكتابة في نظري ليست ترفًا لغويًا أو لوحة سيريالية أو مشهدًا أثيرًا من مشاهد الحياة.
أكتب بعد جرعات هائلة من الألم ونوبات مطوّلة من الصمت. وحدهم الغرقى من يتمكنون من قياس ارتفاع الشهيق بدقة والهبوط بكامل مستويات الزفير. تحمل القصيدةُ المعاناة من أَول بريقٍ لها إلا أَن تُصبح مضاءة، أقول بثقة وتوجس؛ استقراء الحياة بتجلياتها العديدة يثري التجربة ويُغنيها؛ الألم الطافح يتوسط «عيْن» الشعر واللؤلؤ الذي يتألم بمخاض البحر ولطمات الموج هو ذاته الذي يتدلى على صدور الجميلات.
بتول حميد تكتب بأريحية متناهية بلا أي قيود أو وصاية وتبعية لأية رقابة أو سلطة سوى نزعات الروح الشاعرة. وفي هذا الشأن تقول بتول: يشغلني ألا أستقيل عن احتلال الحرف الحر لروحي وألا أفسد أحلامي وأخيلتي بتفسيرها. مؤمنة بأن الكتابة وجه من وجوه الحرية ولا ينبغي أن يخضع الشعر تحديدًا للقيود.. يقيس نبرته بالمسطرة وينصاع لأشكال هندسية مغلقة أو قوانين مجتمعية صارمة. الشعر كائن خلاّق ينبغي أن يمشي كما يحب ويتأفف ويهز كتفيه ويغني كما يحلو له.. يخطئ ويتعثر ويحلق نحو الجنون والفوضى واللامنطق.
القصيدة في قاموس شعوري مرادف للكثير من المعاني وأهمها الثورة؛ ولا يعوّل على الثورة مالم تؤنث.. مالم تستنهض نضالها الرهافة والرقة و القوة والتمرد، أليست المرأة هي الشريك الحي في ثالوث الحياة الأبدي (الشعر، الحب، الجمال)؟ أليس حريًا بها أن تتحرر من كل القيود المجتمعية والأصفاد الرجعية؟ ولماذا لا تخلق جماليتها الخاصة بفعل الحب لا بفعل المقاومة؟
تجاوز العادي والمكرس
وانطلاقا من ذلك فإن بتول حميد لها موقف واضح محسوم من تجنيس القصيدة بين الذكورة والأنوثة كوْنها كما تقول: أرفض تأطير صورة الشعر بحسب جنس الكاتب؛ وأومن بقدرة الخيال على فرض كينونته في تقمص الرجولة والأنوثة في نصوص شعرية كثيرة. أخال أن التأطير النمطي قد يحبس المواهب في تعريف غير مفيد، إذ ْعلينا دومًا أن ننحاز للنص بدلًا من كاتبه، أن تؤرقنا فكرة تجاوز العادي والمكرس المتكرر في الوقت نفسه أتباهى كوْن قصيدة الأنثى لها صوتها وعطرها ونفحة حنانها الخاصة التي تُفجّر المضامين والجماليات الجوانيّة وتُعطي محاور موضوعية بليغة تتعلق ببنية النص اللغوية وليس فقط مبررًا جنسانيًا لوجودها، فقد تملك تقنيات تعبيرية لا يملكها الرجل، تعطي الدفء والبعد من ناحية التكنيك والفعل الشعوري.
في قصيدة بتول حميد ثمة جنوح للوحدة والعزلة أو ما يشبه الانكسار. وهنا تقول بتول حميد عن ما الذي يجعل المبدع يجنح إلى خيار العزلة: يذهب الشاعر داخل مايجيش هناك في داخله من قلق وحفيف وهمس ووجع. إنه أمر شبيه بالعبور الصامت المأهول والإنصات للذات برحابة وحساسيّة عالية.. تأملها وهي تتهجى انبجاس الأسئلة، يتطلب هذا العبور سكونه الخالص كفضاء آمن لعملية خلْق النص الشعري. الشعر احتدام شاهق بحاجة ماسة لعزف خلجاته الخاصة وتفعيلها بأصابع تترفق بالمعنى وترافقه في رحلته الخبيئة في الروح حيث الأخيلة والرؤية والحدس والذاكرة.
ورغم صغر سنها إلا أن بتول حميد تتعامل مع اللغة بوعي عالٍ وتبتكر فضاءها الخاص عبر تقنيات التكثيف والاختزال والمفارقة وكسر المتوقع. تحدثت صاحبة «افتح أزرار صمتك» عن رؤيتها وتعاملها مع اللغة قائلة: مازلت في البداية، أحاول التقدم بخطى متأنية وواعية لتكوين هوّيتي الخاصة. أركن إلى تكوين عنصر كثيف سأطلق عليه مسمى «البساطة العميقة» في خلق إيقاع النصوص الداخلية.. أميل إلى الفكرة التي يخالها المتلقي مألوفة في بادئ الأمر ولا يملك بعد التقاطها إلا أن يغرق في دم دهشته. وفي النهاية الشعر اختراق إبداعي لا بد أن يتسم بالجدية والعمق.
إنكار شعور
للقصيدة سطوتها وأثرها على الروح، ورغم ذلك فهي كما ترى بتول أنها لا تستطيع القصيدة مهما كانت بلاغتها أَن تجمعَ أَشلاء طفلة صغيرة في مدينة منكوبة، ولا تستطيعُ مد منديل صغير لدمعة أم فاقدة تمسح به خدها المُتصدع. الشِّعرَ لا يستطيع أن يتحوّل بكل مفرداته الساحرة للأسف لبلدوزر يحطم آلات الحرب. لا أشكو عجز الشعر ولكن هذا السؤال يفتح شبابيك نظرية الفيلسوف الإيطالي غرامشي حول «المثقف العضوي».
قد تلحّ فروض مجتمعية على أن يلبس الشعر قماشها الشعبي ويجعله الغاية الوحيدة المقصودة في كل نص، فيما يغفل عن الاهتمام بمقومات القصيدة «بناء وهيكل وصورة». وبطبيعة الحال يأفل انفعاله المنفرد وموسيقاه وتأفل الفكرة بمكنوناتها الظاهرة والخفيّة، وهذا يناقض مفاهيم الشعر البديهية.
ثمة شعر في المشاكل القومية وفي غمار الحروب وثمة شعر أيضًا في الإناء التي تزيّنه بالورد ربة بيت بسيطة وفي ضحكة أرملة لم تألف عيناها هجران الدمع، ما أعنيه أن أسلوب الشعر في معالجة مواضيع نصوصه التي تتوهج في مناطق وتنطفئ في أخرى باختلاف الشعراء هي الأهم.
دعوة المجتمع أحيانًا تميل إلى أن يتجرد الشعر من عواطف إنسانية محددة فتسخط من نص بتهمة «الهرب من الواقع» أو بجناية «العزلة» ولو تأملنا هذه التعابير لوجدناها تنتهي كلها إلى إنكار شعور الفرد العادي من الناس كموضوع للشعر، فهل ينبغي أن يكون عملاقًا بلا مشاعر لكي ينال حق كتابة قصيدة؛ فلا يحب المطر مثلًا، ولا يسهم صامتًا في مشهد الغروب.. أو لا يتألم لهمومه الخاصة؟
ومهما يكن من الأمر فإن الإيمان بصوت القصيدة بمعناها وصداها، كما تؤكد بتول حميد، والجنوح إلى التحليق معها والكشف عن أسرارها إلى إحياء الإنسان داخل الإنسان، هو أحد أهم مطالب الشعر الحقيقية منذ ميلاده. الشعر الذي يؤمن بأن تراكم البشاعة لا يلغي الجمال والقنبلة لا تشطب القُبلة. ثمة متسع لصوت لقصيدة دومًا مهما تعالت السطحية وهيمنت الآلة وكلّما اشتقنا لذواتنا النابضة.
.. أيديهن على قلوبهن دائمًا
الحزيناتُ اللاتي يتجنبنَ الكحلَ
حتى لا تُفسدُهُ الدموع
لا يفوتُهن تمريرُ بعضَه في الحماماتِ العامة
يَغسلْن به فناجينَ الكلام..
يصمتْن وفي أعيُنِهن حناجرُ مجروحة
يحفُرنَ في صدورهن ثُقبين
واحدٌ للغدرِ وواحدٌ للفقْد..
الحزيناتُ اللاتي أيديهن على قلوبِهِن دائمًا
لا يملكنَ معاطفَ دافئةً في عزِ الصقيع
يُلبسن الليلَ قفطانَه الأسودَ الطويل
ويُعلنَ الحدادَ على موتِ النهار
يعيدُهن للحياةِ عناقٌ واحدٌ من الخلف!
وحيدة يا الله..
أنا وحيدةٌ يا الله
تبكي داخلي جثامينُ كثيرةٌ
حتى أنّي صِرتُ أتفقدُها..
كشبحٍ في المرآة..
أحاولُ أن أكمُشَ ظلي
علّه يخلصُني من هذا النحيب.. !
أنا وحيدةٌ يا الله..
صوتُها يُضجرُني
تنوحُ في صدري كحماماتٍ بريةٍ
ولا أستطيعُ فتحَ القفص..
كلُ الذين أحببتُهم
ذهبوا بأجزاءَ مني
أنا امرأةٌ مسكونةٌ بالفقْدِ
أتكئُ على عُكاز أملٍ هش
لم يَعُدْ يعنيني بقاءُ ظلي!
نجار أرعن
تورطتُ في حب نجارٍ أرعن
لم يعبُرْ قلبي
إلا بعد أن شطرَني نصفين..
نصفٌ لا يمثلُني
ونصفٌ يمثلُ عليّ!
ماذا كان سيضيرُهُ لو كبرتُ
ولَمَستُ وجهَ الريح؟
لو طَرَقتُ بأصابعي بابَ السماء
وتحنن عليّ صُنبورُ المطر؟
إنّ أحدًا لن يشعرَ
برُكامِ سفينةٍ خشبيّةٍ باكية
تنبُذُها النار
ويحتقرُها موجُ البحر..
الحزن.. شريكنا الوسيم
لا أنتَ تُبددُ ظلامي
لا أنا أحْجُبُ نورَك..
أقرأُ ملامحي على وجهِكَ..
كرسالةِ انتحار!
أقفُ على طرفِ عينيكَ..
كدمعةِ كبرياء!
الحزنُ شريكُنا الوسيم
لا يبحثُ عنا في مرايا الناس
يَحمينا من..
الفرحِ المبتذلِ
والأحاديثِ المكررة
ينقذُنًا من..
عناءِ نشرِ همومنا
على حبالِ الضحِك!