العام
أوّلُ كتابٍ قرأتـُهُ
د. محمد بن ناصر المحروقي
في عمر العاشرة تقريباً، وفي عصر ذات يوم، وبحماس طفوليّ لبست ملابسي الرياضيّة، و”جوتي بوطابوقة” -حذاء أسود كان شائعاً قديماً-، وقبل خروجي من البيت ألقيت نظرة على سبلة أبي فرأيت في الروزنة – وهي كوّة في الجدار تُحفظ فيها الكتب وآنية الصيني- كتاباً جديداً أبيض اللون بالكامل. شدّني؛ فدخلت لألقي نظرة عليه قبل أن أخرج للعب كرة القدم مع أبناء حارتي. شدّني العنوان والمقدّمة فجلست على الدريشة الوسطى -النافذة-، وقرأت المقالة الأولى ثم الثانية والثالثة حتى تناهى إلى مسامعي صوت آذان المغرب في مسجد التل، يرفعه الوالد المرحوم سعيد بن أحمد المحمودي. وضاعت عليّ لعبة كرة القدم ذلك اليوم.!
بعد صلاة المغرب عدت للكتاب. وكذلك بعد صلاة العشاء، وفي كلّ وقت كنت أستطيع العودة أعود إلى هذا الكتاب الآسر، حتى أنهيته في أيام قليلة.
كانت مكتبة أبي في طفولتي موزّعة على ثلاثة أماكن رئيسة في البيت: روازن السبلة، وروزنة كبيرة طولها متران وارتفاعها متر على شكل قوس، والمكان الثالث أيادي طلبته وزملائه. الروزنة الكبيرة بها المخطوطات والموسوعات الدينية والعربية، وهي في الغرفة الرئيسة بالبيت. وتسكن في روازن المجلس الكتب التعليميّة ككتب الشيخ درويش بن جمعة المحروقي مثل: “الدلائل في اللوزام والوسائل”، ومؤلفات الإمام نورالدين السالمي، مثل: “تلقين الصبيان”، و”مدارج الكمال”، و”جوهر النظام” “ومشارق أنوار العقول”.
وكان أبي يهتم بي وأبناء عمّي فينظّم لنا درساً يوميّا بعد صلاة المغرب وتناول العشاء. نجلس في السبلة المذكورة ونقرأ ثلاثة أبيات من كتاب الشيخ السالمي “مدارج الكمال”، مع مراعاة التشكيل. ويشرح لنا أبي معنى الأبيات بشكل مبسّط، ثم يأمرنا أن نكتب “نظيرة” -محاكاة كتابة ما- لتلك الأبيات، أي أن نقوم بنقلها. ويستمر هذا البرنامج كلّ ليلة.
وعندما ينتهي درسنا يلتفت أبي لضيوفه وإخوانه الذين كانوا ينتظرونه. ونقوم نحن الأطفال بخدمتهم بتقديم السيويا -الشعيريّة بالسكّر- أو الدنجو -الحمص- أو الأناناس المعلّب وما تيسّر من فواكه محصودة من سناو أو مما جاورها من القرى، ثم التمر والقهوة. وهذه الخدمة تقدّم وفقاً لطريقة محدّدة صارمة، اكتسبت أهميتها من الأسلاف. وأقدّم مثالاً على “قوانين” تلك الطريقة مما يتصل بمغنّم القهوة -صبّاب القهوة- الذي يجب أن يراعي أموراً كثيرة، منها: أن يحمل دلّة القهوة باليسرى والفناجين باليمنى، وأن يكون عدد الفناجين ثلاثة فقط، وأن يصبّ أقل من ثلث الفنجان، وأن يوزّع الفناجين مراعيّا المقام والسن، وأن يتحرك بين المتقهوين في سرعة وسلاسة، وأن ينحني وهو يقدّم واقفاً الفناجين للجالسين، وهو إن أخطأ في شيء من ذلك فإنّ أحد الأعمام سينهره نهرة ترتعد لها فرائصه. وما كان أبي من الزاجرين، بل من المتغاضين. وإنما يزجر في مقال التعلّم فقط.
ولا يمكن لوم الآباء الكرام على شدّتهم تلك في الحفاظ على قوانين الأسلاف، فكلّ القبائل ترى هذه الأعراف ديناً يجب اتّباعه، وإلا لعيّرتهم القبائل المنافسة. وفي المجتمع يومذاك من الصلابة ما تستدعيه الظروف السياسيّة والاجتماعيّة، فقد كان المجتمع قائماً على الدفاع عن النفس. وكلّ شخص يحمل معه عند خروجه من البيت ثلاثة أسلحة على الأقل: العصى والخنجر والبندقيّة.
وقبل أيام، بينما كنت أنظّم مكتبة أبي وأخرج من الصناديق الكتب والوثائق القديمة وأنفض الغبار عنها، لأعيد عرضها بشكل جميل يسهل الوصول إلى الكتاب المقصود، انتبهت إلى صوت ابن أخي نصر بن أحمد يسألني: “عمّي، أين أضع هذا الكتاب وعنوانه “رجال حول الرسول” للكاتب خالد محمد خالد؟
قبضت الكتاب بكلتا يديّ متذكراً أول كتاب قرأته قبل أربعين سنة تقريباً، ومستعيداً شطراً جميلاً من طفولتي.