مقالات

قف معاليك إنها أمانة

يعقوب بن محمد الرحبي

يشير المنهج القرآني الكريم في أكثر من موضع ويصدقه التاريخ، بأن إصلاح الشعوب والأمم مرتبط ارتباطا وثيقا برؤسائها ووزرائها ومسؤوليها، وما لديهم من قوانين وأنظمة أساسها العدالة الاجتماعية والمساواة، وإن الملك لا يدوم لأحد، ومن حكمة الله ورحمته بالإنسانية والبشرية، يُرسل إليها من يجدد عهدها، ومسيرتها لإصلاحها، والنهوض بها وإنقاذها، فهذا نبي الله موسى علية الصلاة والسلام بُعث في بني إسرائيل مجددا ومصلحا لذلك العهد، فما كان من موسى عليه السلام إلا أن توجه إلى تلقاء مدينة مدين، يقول بعض المفسرين منطقة الأردن اليوم، وكان يُقيم فيها نبي الله شعيب عليه السلام، ووصل موسى عليه السلام بعد رحلة شاقة محفوفة بالمخاطر والصعاب إلى أرض مدين، وعند وصوله إلى ذلك البلد، قصد مكاناً يستقي الناس منه، وصادف أن وجد في ذلك المكان فتاتين كانتا تريدان سقاية أغنامهما والتزود بالماء، وكان الطلب على الماء شديداً، والناس يتدافعون للحصول عليه، لشح المياه في ذلك المكان والزمان، بيد أن تلك الفتاتين كانتا تقفان جانباً، تنتظران الوقت المناسب للتزود بالماء، فتقدم منهما موسى عليه السلام، وسألهما عن شأنهما: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِير ) القصصٌ (23) فأخبرتاه أنهما ليس بإمكانهما الوصول الى الماء حتى ينصرف الناس عنه، ويصبح الماء خالياً من قاصديه، وأخبرتاه أيضاً أنهما لا يليق بهما مزاحمة الرجال على الماء، وليس عندهما من يقوم بهذه المهمة بدلاً عنهما، وأن أباهما شيخ كبير لا يقوى على القيام بهذه المهمة الشاقة. وبعد أن سمع موسى عليه السلام منهما هذه الإجابة سارع إلى معاونتهما، فسقى لهما مواشيهما، ثم تنحى جانباً؛ ليستظل تحت شجرة تقيه حر الشمس الحارقة، لما رجعت الفتاتان سراعاً بالغنم إلى أبيهما، أنكر حالهما ومجيئهما سريعاً على غير المألوف من عادتهما، فسألهما عن خبرهما، فقصتا عليه خبر موسى عليه السلام وأخبرتاه أنه رجل قوي وأمين. فسألهما أبوهما: وكيف علمتما بذلك؟ فأجابته إحداهما: إنه رفع غطاء البئر، تلك الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال، وإنه لما جئتُ معه تقدمتُ أمامه، فقال لي: كوني من ورائي، فبعث الشيخ إحداهما إلى موسى لتدعوه إلى مقابلته فجاءته إحداهما وهي تمشي على إستحياء، وأخبرته أن أباها متشوق لرؤيته والتعرف عليه، ومكافأته على فعله. (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ۚ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) القصص(25) فذهب معها للقاء والدها، ولما وصل إلى بيت الشيخ الكبير والتقى به، وقص عليه ما كان من أمره وخروجه من مصر هربا من بطش فرعون، قال له الشيخ: لا تخف، فأنت في مأمن .ثم إن الفتاة طلبت من أبيها أن يستأجر موسى عليه السلام، وعللت طلبها بقوته وأمانته، (قالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ) القصص (26) وأخبرت والدها بأن في إستئجاره تخفيف لهم من تعب الرعي، ومشقة السقي، فاستجاب الشيخ لاقتراح إبنته، ثم إستدعى موسى وأخبره أنه راغب في مصاهرته، وتزويجه أي الفتاتين يرغب، وشرط عليه الزواج مقابل العمل عنده مدة ثمانية أعوام، وأنه سيعامله المعاملة التي تليق بمكانته، وإن رغب في إتمامها إلى عشر، فذلك فضل منه وكرم. (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) القصص (27) وأبدى موسى موافقته على هذا العرض النبيل، ومضت السنون التي قضاها موسى عليه السلام أجيراً عند الشيخ الكبير، ووفى كل واحد منهما بما وعد به صاحبه، وتزوج موسى بإحدى الفتاتين، ثم قرر الرجوع إلى مصر، و عندما شعر موسى بحجم المسؤولية الملقاه عليه والأمانة التي سيتحملها طلب من ربه قائلا (وَٱجۡعَل لِّی وَزِیرا مِّنۡ أَهۡلِی (٢٩) هَـٰرُونَ أَخِی (٣٠) ٱشۡدُدۡ بِهِۦۤ أَزۡرِی (٣١) وَأَشۡرِكۡهُ فِیۤ أَمۡرِی (٣٢) كَیۡ نُسَبِّحَكَ كَثِیرا (٣٣) وَنَذۡكُرَكَ كَثِیرًا (٣٤) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِیرا (٣٥) لم ينفرد موسى  بنفسه بالمسؤولية و إحتكارها، بل اختار أخيه هارون لما رأى فيه من قوة في شد الأزر، وفطانة الأمر، وقوة التقوى، لخير البلاد والعباد، فأجاب الله دعاءه، وقال( قَالَ قَدۡ أُوتِیتَ سُؤۡلَكَ یَـٰمُوسَىٰ )وقال في آية اخرى ﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِیكَ ﴾ القصص (٣٥). تٌلخص لنا واقعة موسى وقصته في المعايير والعناصر التي يجب أن تتوفر في إختيار الرجل المناسب لحمل الأمانة والزواج، بغض النظر عن القرابة، فموسى لو لم يرى توافر الشروط في أخيه هارون لما أختاره وزيرا له، والشيخ الكبير الذي تشير بعض الروايات بأنه نبي الله شعيب، لو لم يراى القوة والأمانة في موسى لما عرض علية العمل معه، ولم يزوجه إبنته، يركز المعيار هنا على المبادىء التي يُختار من أجلها الوزير والمستشار القادر على تقديم أفكار و إقتراحات و دراسات و مبادرات أو أساليب لعمل متميز، يٌساهم في تطوير الأداء أو تحسين الإنتاجية و الارتقاء بمستوى البلاد، الوزير أو المستشار الذي يعتبر مؤتمن على المسؤولية المناطة إليه والاستشارة التي يقدمها، وتقديم النصح لرئيسه. هنا تبادر إلى ذهني كثير من المواقف التي نسمع عنها ونراها في أوروبا، منها  الآلية التى يتم من خلالها اختيار مجلس الوزراء وتشكيل الحكومة، قصة رئيس الوزراء الجديد، عوضا عن الرئيس الذي قدم إستقالته نظرا لبعض الاحتجاجات ، وكذلك وزير المالية الذي أعلن استقالته لبعض الملاحظات والانتقادات، وتقديم محاكمة ومسائلة المستشار أو معالي الوزير لقبوله الهدية، وما آل إليه من أموال وتقصيره في المهام المناطة إليه، وكذلك رئيس الوزراء الذي يتسوق ويقف في الصف أمام المحاسب دون حراسة أمنية أو موكب مُهيب، كما نراه يتنقل على وسائل النقل العامة حاله كحال أي مواطن، هذا كله لم نسمع عنه أو نراه في وطننا العربي، ولذلك لن يصلح الحال إلا  بهذا  النهج العادل، و بالذي أشار إليه القرآن الكريم في المعايير لإختيار المسؤول القوي الأمين التقي، كما جاء على لسان موسى عليه السلام ، ولن يتحقق ذلك إلا بوجود دستورا أو نظاما عادلا يتم العمل بمقتضاه في الرقابة والمسائلة القانونية دون إستثناء، حفاظا على الوطن، وصونا لمكتسباته ومقدراته، وتحدد الصلاحيات والمسؤوليات التي يتم من خلالها الانتقاء والارتقاء، حفاظا على أمنه وإستقراره، ولن يكون النجاح حليفهُ، إلا بوجود الحاكم المصلح العادل الأمين الحريص على مصالح شعبه ووطنه، قبل أن يكون حريصا على منصبه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق