مقالات
1970 ـ 2020: عُمان بين خطابين
رؤية: حسن المطروشي
رحلة هائلة عبرتها عُمان في مسيرتها الحضارية بين خطابين مفصليين في تاريخها المعاصر، أولهما الخطاب الأول لجلالة السلطان قابوس بن سعيد بين تيمور، طيب الله ثراه، وثانيهما الخطاب الأول لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله ورعاه. ورغم تباعد المسافة زمنيا بين الخطابين إلا أن كليهما اتسما بالحكمة والموضوعية والاتزان واللغة الهادئة والطرح الواقعي، الذي ينهل من تراث عُمان الضارب في القدم وثوابتها الحضارية العميقة الراسخة، بعيدا عن الشعارات البراقة واللغة الرنانة والتجييش واللعب على عواطف الجماهير. كما نلاحظ أن كلا العاهلين سعى لبسط رؤيته وطرح خطة عمله داخليا وخارجيا بوضوح تام، على نحو مجمل، دون دخول في التفاصيل التي لا داعي لها.
مشهدان مختلفان وعزيمة واحدة
ومن الطبيعي أن يعكس الخطابان المشهد الذي تعيشه البلاد في مختلف الأصعدة لحظة صدورهما. ففي المشهد الأول نحن أمام بلد فقير متخلف وممزق، غارق في ظلمات العصور الغابرة، ويعيش شعبه تحت نير الفقر والأوبئة والتخلف في أبشع صوره. شعب مشرد تتقاذفه المنافي بحثا عن لقمة العيش، ويرزح تحت وطأة القمع وفقدان أبسط الحقوق الإنسانية.
أما في المشهد الثاني فإننا إزاء بلد حديث، قطع شوطا كبيرا في سلم التطور والبناء وحقق قفزات هائلة في مسار التنمية، وبات ينعم بالخير والاستقرار، وأصبح الإنسان فيه معززا يحظى بالعيش الكريم، مصانة حقوقه، ومحفوظة كرامته. كما أصبح خارجيا يحظى باحترام العالم، بما اكتسبته بلاده من صيت طيب وسمعة كريمة، ترسخت عبر مواقف وممارسات سياسية ناضجة، اختطها جلالة السلطان قابوس، كسب من خلالها احترام العالم، وجعل بلاده مضرب المثل في الحكمة وسداد الرؤية، بل نظر إليها المجتمع الدولي كصمام أمام في محيط مضطرب، وباتت محط أنظار الجميع لحل الخلافات وفقا للمدرسة القابوسية التي اتخذت السلم منهجا واتبعت الحوار الحضاري مفتاحا لأصعب القضايا المعقدة.
ولئن تسلم جلالة السلطان هيثم بن طارق، حفظه الله ورعاه، بلدا راسخ الأركان مكتمل البناء، ويحظى ببنية أساسية جيدة، إلا أنه ليس من الصواب القول إن مهمته سهلة على الإطلاق. فقد ورث مسؤوليات جسيمة عليه أن يتولى معالجتها، فثمة الكثير من الملفات الداخلية التي تتطلب حلولا جوهرية، كما أن هناك العديد من التحديات الخارجية الحساسة التي تتطلب منه قيادة دقيقة في مرحلة مضطربة تتسم بالغليان، لاسيما في ظل الظروف التي تمر بها المنطقة وما يشهده العالم العربي من الثورات والاقتتال والفوضى.
الوفاء.. لغة المتحضرين
وحين نتأمل حديث السلطان الأسبق عن عهد والده نجد جلالة السلطان قابوس، تغمده الله بواسع رحمته، ينتقي من المفردات أدقها وأخلصها دون أن يلقي باللائمة على أحد أو يسيء إلى سلفه، إذ يقول: «كنت ألاحظ بخوف متزايد وسخط شديد عجز والدي عن تولي زمام الأمور». وأضاف جلالته: “إن عائلتي وقواتي المسلحة قد تعهدوا لي بالطاعة والإخلاص، مبينا أن السلطان السابق قد غادر السلطنة”.
وفي هذه العبارة الأخيرة تطمين كبير للشعب العماني الذي كان يعيش ويلات التخلف والفقر والجهل في ظل حكم السلطان سعيد بن تيمور، إذ جعل جلالته الناس يشعرون بأن الكابوس قد انقشع وأن الظلام قد رحل وولى إلى غير رجعة، وأن سماء عُمان قابلة لتشرق فيها شمس جديدة. لذا فإن جلالته يختتم خطابه التاريخي بقوله: “كان بالأمس ظلام ولكن بعون الله غدا سيشرق الفجر على مسقط وعُمان وعلى أهلها”.
النهج الحضاري الراقي ذاته نجده لدى جلالة السلطان هيثم بن طارق، حفظه الله ورعاه، عند ذكر سلفه الذي قال عنه: “فقدنا أعز الرجال وأنقاهم”. ويضيف جلالته معددا مناقب السلطان قابوس: “بنى دولة عصرية شهد لها القاصي قبل الداني”. وقال: “الكلمات تعجز والعبارات تقصر عن أن نؤبن سلطانا عظيما ونسرد مناقبه ونعدد إنجازاته”.
منجز وثبات على النهج
جلالة السلطان قابوس في خطابه الأول كان قد قطع على نفسه وعدا بأن يبدأ العمل سريعا من أجل رفعة عُمان وراحة شعبها، وأن يرفع عن كاهل الشعب المسحوق؟؟ كافة القوانين التي تحد من حريته وتعيقه عن ممارسة حقوقة والاستمتاع بحياة كريمة مثل باقي شعوب الأرض. يقول جلالته رحمه الله: “وإني أعدكم أول ما أفرضه على نفسي أن أبدأ بأسرع ما يمكن أن أجعل الحكومة عصرية وأول هدفي أن أزيل الأوامر غير الضرورية التي ترزحون تحت وطأتها”.
وبعد ما يقارب خمسين عاما من العمل أفناها جلالة السلطان الراحل في خدمة عُمان وشعبها، سهر خلالها الليالي الطوال، وتنكب فيها المشاق الجسيمة، من خلال العمل الدؤوب، إذ كانت سيرة الراحل مثلا في التفاني والإخلاص والصدق في أداء الواجب، وهو ما شهدت به إنجازاته الماثلة للعيان.. بعد هذه المسيرة التي تكللت بهذا المنجز الوطني والحضاري الضخم، يؤكد جلالة السلطان هيثم أن السلطان الراحل قد وعد فأوفى إذ شيد هذه النهضة الراسخة التي: “تجلَّت معالمها في منظومة القوانين والتشريعات التي ستحفظ البلاد وتُنظم مسيرتها نحو مُستقبل زاهر أراده لها وأقام بنية أساسية غدت محطَّ أنظار العالم وأسس منظومة اقتصادية واجتماعية قائمة على العدالة وتحقيق التنمية المستدامة وزيادة الإنتاج وتنويع مصادر الدخل، مما أدى إلى رفع مستوى معيشة المواطن العماني، وأقام هياكل ثابتة ودائمة للتعليم بجميع مستوياته وتخصصاته، فنهلت منه الأجيال وتشربت علمًا ومعرفة وخبرة”.
وقد وضح جلالة السلطان هيثم بن طارق رؤيته في التعامل مع الواقع على الصعيد الداخلي، مؤكدا على استمرار النهج القابوسي والحفاظ على المنجز الوطني والبناء عليه: “إن عزاءنا الوحيد وخير ما نخلد به إنجازاته هو السير على نهجه القويم والتأسي بخطاه النيرة التي خطاها بثبات وعزم إلى المُستقبل والحفاظ على ما أنجزه والبناء عليه؛ هذا ما نحن عازمون، بإذن الله وعونه وتوفيقه، على السير فيه والبناء عليه لترقى عمان إلى المكانة المرموقة التي أرادها لها وسهر على تحقيقها فكتب الله له النجاح والتوفيق”.
السلطان قابوس كان يسعى في بداية مسيرته إلى اعتراف العالم والدول الصديقة والشقيقة وتأييده لانطلاقة هذه النهضة المظفرة. وهي لا شك جهود مضنية بذلها جلالته، رحمه الله، من أجل تثبيت دعائم الدولة الجديدة خارجيا. يقول طيب الله ثراه: “وإني أتطلع إلى التأييد العاجل والتعاون الودي مع جميع الشعوب وخصوصا جيراننا وأن يَكُون مفعوله لزمن طويل والتشاور فيما بيننا لمستقبل منطقتنا”.
إن من أهم الأسباب في استمرار عملية البناء هو المحافظة على المنجز والبناء عليه، إذ لا يمكن لبناء أن يكتمل إذا كان النظام السابق يبني ثم يأتي نظام آخر فيهدم ما جرى بناؤه ليبدأ مسيرته بالهدم. أما في الحالة العمانية فإن عملية البناء مستمرة وتمضي في خطها المرسوم، يبدؤها سلطان ثم يكملها ويبني عليها سلطان آخر، ما يجعل لهذه النهضة مصداقية وأكسب هذا النهج ثباتا وديمومة لدى الشعوب. وهذا ما يؤكده خطاب جلالة السلطان هيثم بقوله: “وعلى الصعيد الخارجي فإننا سوف نرتسم خطى السلطان الراحل مُؤكدين على الثوابت التي اختطها لسياسة بلادنا الخارجية القائمة على التعايش السلمي بين الأمم والشعوب وحسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير واحترام سيادة الدول وعلى التَّعاون الدولي في مختلف المجالات، كما سنبقى كما عهدنا العالم في عهد المغفور له بإذن الله تعالى حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور داعين ومساهمين في حل الخلافات بالطرق السلمية وباذلين الجهد لإيجاد حلول مرضية لها بروح من الوفاق والتفاهم”.
الاستقرار ووحدة الصف
وإيمانا من حرص جلالة السلطان الراحل على حماية المكتساب وحفظ الأمن في البلاد واستقرار الوطن الذي كان يتطلع لبنائه، كان مسعاه واضحا في مطلع نهضته، طيب الله ثراه. يتجلى ذلك في قوله: “إن عائلتي وقواتي المسلحة قد تعهدوا لي بالطاعة والإخلاص”. وقد أولى جلالته، رحمه الله، عناية فائقة بقواته المسلحة والأجهزة الأمنية الأخرى، حتى أصبحت قوات السلطان المسلحة من أكثر الجيوش كفاءة وتدريبا وتسليحا.
ويتضح في خطاب جلالة السلطان هيثم تأكيده على هذا الجانب أيضا إذ يقول: “الأمن والأمان يتحققان في ربوع البلاد بفضل القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، مؤكدا: “ندعم ونعتز بدور القوات المسلحة والأجهزة الأمنية في ضمان منجزات ومكتسبات البلاد”.
جلالة السلطان قابوس، تغمده الله بواسع رحمته، أكد في خطابه الأول على ضرورة التكاتف والتعاون والتعاضد والالتفاف حول القيادة من أجل توحيد جهود البناء وتوجيه طاقات أبناء الوطن كافة نحو أهدافهم المنشودة. وهذا المبدأ ضروري لا غنى عنه في مسيرة أي حراك نهضوي ووطني سليم. وقد نجح جلالته، رحمه الله، في توطيد دعائم الدولة وتوحيد الصف وبناء لحمة وطنية صارت مضرب المثل في التعايش والوحدة الوطنية، بعيدا عن الطائفيات والمذهبيات والعرقيات والقبليات وغيرها. فالجميع يهتف باسم عُمان وقائدها، وينضوي تحت رايتها الخفاقة الشامخة. يقول جلالته في خطابه الذي يتذكره كل عماني: “سأعمل بأسرع ما يمكن لِجَعْلِكُمْ تعيشون سُعَدَاء لمستقبل أفضل.. وعلى كل واحد منكم المساعدة في هذا الواجب. كان وطننا في الماضي ذا شهرة وقوة وَإن عملنا باتحاد وتعاون فسنعيد ماضينا مرة أخرى وسيكون لنا المحل المرموق في العالم العربي”.
ولم تغب هذه الرؤية عن جلالة السلطان هيثم، حفظه الله ورعاه، إذ أكدها في خطابه التاريخي حين قال: “إنَّ الأمانة المُلقاة على عاتقنا عظيمة والمسؤوليات جسيمة وينبغي لنا جميعًا أن نعمل من أجل رفعة هذا البلد وإعلاء شأنه وأن نسير قدمًا نحو الارتقاء به إلى حياة أفضل، ولن يتأتى ذلك إلا بمُساندتكم وتعاونكم وتضافر جميع الجهود للوصول إلى هذه الغاية الوطنية العظمى، وأن تقدموا كل ما يسهم في إثراء جهود التطور والتقدم والنماء”.
وهكذا تتوحد الرؤى والمضامين والأهداف والمنطلقات، وتظل الغاية الأسمى رفعة عُمان وشعبها، لتبقى رايتها خفاقة عالية تعانق مواكب الأزمنة والأحقاب، يتسلمها جيل عن جيل، ليحملها بإخلاص ووفاء، ويمضي بها إلى مستقبل جديد، وفجر جديد يشرق على عُمان وشعبها.