العام
علم السموم الطبية وارتباطه بطب الطوارئ
يختص علم السموم بوجه عام بدراسة تأثير المواد الكيميائية على أجسام الكائنات الحية وخصوصا تأثيرها على جسم الإنسان، وذلك بدارسة الأعراض التي تحدثها هذه المواد الكيميائية السامة والآليات التي سببت هذه الأعراض وطرق علاجها وكيفية الكشف عنها.
د. محمود بن ناصر الرحبي
استشاري أول طب الطوارئ
فهناك العديد من السموم الطبيعية والصناعية التي تشكل خطرًا على صحة الإنسان والنظام البيئي في ظل تزايد إنتاج المواد الكيميائية في الخمسين سنة المنصرمة كالمستحضرات الدوائية المصنعة والمواد الصناعية للطعام واللباس ومواد البضائع المتعددة التي أثبتت أن لها نتائج ضارة إذا تم التعرض لها في بعض المستويات، ولنأخذها قاعدةً عامة بأن كل المواد يمكن أن تكون سامة عند قدر معين، ولكي يحصل التسمم يجب حدوث تماس مباشر مع مادة كيميائية، فالأسبرين وحتى الأوكسجين مثلا ًيمكن أن يكونا سامين إذا تواجدا بمستويات عالية مع تواجد بعض المواد السامة مثل: المعادن الثقيلة من الكروم والنحاس والخارصين، ولكن يبقى التساؤل الرئيسي هنا: ما هو مدى الجرعة التي يمكن أن تحول مادة محدودة إلى مادة مسببة للضرر للكائن الحي مع احتمالية أن تكون التأثيرات السامة حادة، بحيث تحدث هذه التأثيرات في وقت قصير، أو نتيجة لتعرض طويل الأمد؟.
كما هو معلوم إن للمواد خصائص كيميائية مختلفة بشكل واسع الأمر الذي يحدد كيفية انتشارها في البيئة فالبعض يتبخر بسرعة ويسبب أذى قليلا، وهناك جزء آخر قابل للذوبان بدرجة عالية ولذلك ينخرط بسهولة في الأجسام المائية. وهناك بعض المواد الصلبة (العنيدة) التي لا تتحلل بسهولة في الطبيعة ولذلك يمكن أن تكون مضرة لحياة الطيور والحيوانات، وخصوصًا إذا ابتُلعَت، فإنها تغادر الجسم ببطء شديد فسُمِّيَّة المادة السامة ستتوقّف على كيفية دخولها للجسم(عبر جهاز الهضم, التنفُّس, الجلد), من خلال تركيز تلك المادة, عبر الزمن الذي نتعرض خلاله للمادة وكيفية استجابة الجسم لها ومزايا تلك المادة الكيميائية والفيزيائية, وفي النهاية حساسية الكائن الحيّ تجاهها.
وهناك العديد من التخصصات في مجال علم السموم التي تهتم بجوانب حيوية وكيميائية مختلفة مثل: تأثير السموم علي الجينات، وعلم السموم المائية، وعلم السموم الكيميائي (الصيدلاني)، وعلم السموم البيئي، وعلم السموم في الطب الشرعي، وعلم السموم الطبي .
ولعلم السموم تاريخٌ ضاربٌ في القدم وبرز به أطباء وعلماء قدامى منذ عصور ما قبل الميلاد كأمثال شن ننج والمعروف بأبو الطب الصيني، وهوميروس الذي كتب عن استخدام السهام المسمومة، وسقراط الذي مات بنبات الشوكران، وكذلك الطبيب اليوناني أبو قراط الذي كان يعتمد طريقة المراقبة بالمشاهدة للأمراض والعلاج، وميثريديتس السادس الذي جرب ترياقات السموم على نفسه واستخدم السجناء كحقول للتجارب وصنع خليطًا من الترياقات باسمه، وكليوبترا التي قامت بتجربة مادة ستركنين على السجناء والفقراء، ولا ننسى الطبيب والصيدلاني اليوناني دياسقوردوس الذي ألف كتاب De Materia Medica وهو الأساس في دستور الأدوية الحديث.
كما أن الحضارة الإسلامية قدمت الكثير من العلوم للبشرية ولا نبالغ القول إن قلنا إن الحضارة الحديثة قامت على أكتافها فهناك مجموعة من أشهر علماء العرب والمسلمين الذين كانوا سباقين في علم السموم والخوض فيه كأمثال: أبو عبدالله القزويني، وابن البيطار، وابن جلجل، وابن رشد، وابن الرومية، وابن سيناء، والبيروني، وجابر بن حيان، والرازي، والطبري، والزهراوي.
تصنيف حالات التسمم
تصنف حالات التسمم بأنواعها من الحالات الخطيرة الطارئة التي قد يتعرض لحدوثها أي إنسان والتي تزايدت بشكلٍ ملحوظ نتيجة الاستعمالات الخاطئة للعديد من المواد الكيميائية في البيوت بالإضافة إلى التلوث الذي يجعل الأطعمة والمشروبات عرضة للتسمم، مما تستدعي علاجًا سريعًا ودقيقًا بواسطة أخصائيين واستشاريين في هذا المجال حتى لا يتعرض المريض لأي مضاعفاتٍ ناتجةٍ عن تأخر تلقي العلاج المناسب أو نتيجة تقديم العلاج غير الصحيح وهو ما يعرض حياة المريض للخطر وربما الوفاة .
ولذلك يُعتبر علم السموم الإكلينيكية من أبرز العلوم الجديدة التخصصية جدا التي تخفى أسراره الغامضة والمعقدة على معظم الأطباء لقلة معرفتهم وإلمامهم به وكيفية التعامل مع هذه الحالات لذلك يُمثل وجود وحدة متخصصة في علاج التسمم من المتطلبات الضرورية ضمن قسم الطوارئ بالمستشفى لتقديمها خدماتٍ جليلة وفي غاية الأهمية والحساسية للمرضى خاصةً على مستوى المستشفيات الكبرى تحت إشراف نخبة من الأخصائيين والاستشاريين ويعاونهم في ذلك طاقم طبي مدرب وعلى درايةٍ تامة بكل ما يلزم حالات القسم من رعايةٍ طبية ونفسية طارئة ومستمرة .
ومن الحالات التي تختص بها وحدة السموم وتعالجها حالات السموم المختلفة كالجرعات الزائدة من الأدوية بجميع أنواعها إما عن طريق الخطأ أو عن طريق الانتحار، والحساسية الناتجة عن الأدوية، والتعرضِ لموادٍ كيماوية أو كاوية عن طريق الاستنشاق أو الفم، إضافةً إلى التعرض لغاز أول أكسيد الكربون (الخانق) في الحرائق أو التعرض لغاز الميثان أو غيرها من الغازات الضارة، وكذلك لدغات الحشرات السامة كالعقارب والعناكب والأفاعي، وأيضا التسمم عن طريق تناول الأسماك أو المأكولات البحرية أو تلوث الغذاء بالمبيدات الحشرية والمواد الحافظة السامة (النترات) .
وتكمن أهمية إنشاء وحدة للسموم بأقسام الطوارئ إلى تقديمها العلاج السريع والفعال لحالات التسمم المختلفة، والكشف عن جميع أنواع المخدرات، ومتابعة المريض من خلال وظائف جسمه المختلفة سواءً في قسم الطوارئ أو قسم العناية المركزة وحتى بعد العلاج من السموم. وتقديم خدماتٍ معملية كعمل التحاليل الخاصة بجميع حالات التسمم والكشف عنها، وقياس نسب الأدوية المختلفة (أدوية الصرع والحساسية……..). أضف إلى ذلك تقديم خدمة المعلومات الطبية وتوزيع المنشورات الدورية المطبوعة على توضح كيفية التعامل الصحيح مع حالات التسمم وطرق تجنبها مع توضيح المواد شديدة السمية والمواد غير السامة وكيفية عمل الإسعافات الأولية لها إلى أن يتم نقل الحالة إلى المستشفى.
وحتى يتم تفعيل وحدة السموم وتشغيلها على أكمل وجه يجب الاهتمام بأطباء الطوارئ والطاقم التمريضي حيث أثبتت العديد من الدراسات جهل الكثير من أطباء الطوارئ بالطرق الصحيحة لعلاج حالات التسمم حسب أنواعها وعدم معرفتهم بالأدوية المتوفرة في الصيدليات لعلاج هذه السموم، بحيث لا يباشر الطبيب علاج المريض المصاب بحالة تسمم إلا بعد انتظار نتيجة تحاليل الدم على الرغم من أن الصورة الاكلينيكية يمكن أن تساعد في عملية التشخيص السريع ومباشرة علاج المريض دون الانتظار لعمل تحاليل الدم، مما يستدعي الاهتمام الأكبر بالأطباء وإلقاء المزيد من الضوء على هذا الجانب المهم في الطب، فمن المفترض أن يكون الأطباء في أقسام الطوارئ ملمين باختصاصات وأساسيات علم السموم الطبية بحيث يباشرون معاينة المرضى وهم على معرفةٍ وثقةٍ تامتين للتعامل مع جميع حالات وأنواع التسمم إذا ما علمنا أن ما نسبته 7% من زيارات المرضى لأقسام الطوارئ ناتجة عن التعرض للسموم بمختلف أنواعها، وهذا ما أظهرته إحدى الدراسات العلمية. حفظ الله الجميع من شر السموم ومسبباتها .