العام
الاحتراق النفسي المهني.. كيف ولماذا؟
أرسل لي أحد الأصدقاء تغريدة لكاتب خليجي يقول فيها: «يا صديقي، في وظيفتك لا تحاول أن تلعب دور البطولة وترهق نفسك وتصل بها إلى الاحتراق الوظيفي، فمعظم من حولك لا يهتمون بحقيقة أنك موظف مثالي أو كفاءة متميزة، وفي الغالب لن تحصل على تقدير معنوي أو مالي معتبر، بل يمكن الاستغناء عنك ببساطة، فخذ الأمر بروية وهدوء بلا ضرر ولا ضرار».
د. حمد بن ناصر السناوي
استشاري أول بقسم الطب السلوكي
استوقفتني هذه التغريدة للتأمل في معاناة الكثيرين من الموظفين الذين يقضي معظمهم سنوات الشباب في الدراسة واكتساب المعرفة والمهارات الضرورية التي تؤهله للانضمام إلى وظيفة معينة يقضي فيها معظم الوقت الذي قد يمتد إلى ما يقارب ١٢ ساعة في بعض الأحيان، يعود بعدها إلى منزله وأسرته منهكا ينتظر إجازة نهاية الأسبوع ليقضي بعض الوقت مع الأسرة والأصدقاء. أحيانا ومع مرور الوقت، تقتصر دائرة الصداقات والعلاقات الاجتماعية على زملاء العمل حيث الطموحات وأحيانا الهموم المشتركة تجعل من الزملاء أصدقاء، لكن البعض ليس محظوظا لهذه الدرجة، فبيئة العمل أحيانا تكون ساحة للتنافس غير الشريف والتسلق والتملق لأصحاب السلطة وصناع القرار، مما يسبب الكثير من الضغوطـات النفسية.
يعرف علماء النفس الضغوطـات بشكل عام بأنها عبـارة عـن اسـتجابة جسدية طبيعيـة لأي موقـف يجعلنـا نشـعر بالتهديـد، والشــعور بالخطــر مما يؤدي إلى استجابة دفاعاتنــا الجســدية تلقائيــاً عــن طريــق اتخــاذ حالــة اســتنفار تعرف بالاســتجابة للضغوطـات وتشـمل التسـارع فـي ضربـات القلـب والتنفــس وشــد فــي العضــلات وارتفــاع فــي ضغــط الــدم.
ليس كل الضغوطات سلبية، فأحيانا يصبح القليل منها شيئا إيجابيـا عندما تكون بمسـتويات معتدلـة وخلال فترة زمنية قصيرة تحفزنا على العمل وتعـزز مـن مسـتوى التركيـز وتدفعنا إلـى التغلـب علـى التحديـات التـي تواجهنـا فـي الحيـاة، كمـا يحـدث مثـلا عند التحضير لامتحان أو الالتـزام بمهلـة زمنيـة محـددة لإنجـاز عمـل مـا. فالقليل من القلق يجعل الطالب مثلا يقظا في ترتيب وقته والتركيز على مذاكرة الدروس وتأجيل المرح والخروج مع الأصدقاء إلى ما بعد فترة الامتحانات، لكن إذا ارتفع مستوى القلق وطالت فترة التعرض له فإن ذلك يؤثر سلبا على الاستيعاب والتركيز والأداء العام .
في مايو ٢٠١٩ أضافت منظمة الصحة العالمية مصطلح «الاحتراق النفسي المهني» إلى قائمة «التصنيف الإحصائي الدولي للأمراض»، وقد تم تعريف «الاحتراق النفسي المهني» بأنه «إجهاد مزمن في مكان العمل لم تتم إدارته بنجاح»، ويصاحب هذا الإجهاد ثلاثة أعراض محددة وهي شعور الفرد باستنزاف الطاقة أو الإرهاق، والمعاناة من الضغط الذهني وزيادة المشاعر السلبية أو السخرية المتعلقة بعمل الفرد، وانخفاض الكفاءة المهنية للموظف.
ويمكن التفريق بين مفهوم الاحتراق النفسي وارتباطه بالضغوط النفسية في ثلاث خصائص:
1 ـ ينتج الاحتراق النفسي من ضغوط العمل النفسية نتيجة تضارب الأدوار وازدياد حجم العمل.
2 ـ يحدث الاحتراق عادة للأشخاص الذين عادة ما يتبنون رؤية مثالية لأداء الأعمال والاضطلاع بالمسؤوليات المهنية.
3 ـ يرتبط الاحتراق عادة بالمهام التي يتعذر على الشخص تحقيقها خلال الفترة الزمنية المحددة لذلك.
ويرى باحثون في علم النفس أن الاحتراق النفسي يكون المحصلة النهائية لضغوطات العمل، أي أن الاحتراق هو عرض من أعراض الضغوط النفسية يحدث عندما لا يكون هناك توافق بين طبيعة العمل وطبيعة الإنسان الذي يقوم بأداء ذلك العمل. وكلما زاد التباين زاد الاحتراق النفسي الذي يواجهه الموظف. ويشير علماء النفس إلى أن الاحتراق النفسي يكمن في مجموعة عوامل تؤدي إلى زيادة احتمال إصابة الموظف بالاحتراق النفسي، والتي يمكن تقسيمها إلى عوامل داخلية تتعلق بالموظف وعوامل تنظيمية تتعلق بالوظيفة.
تشمل العوامل الداخلية السمات الشخصية للموظف وقدرته على تحمل الإحباطات التي لا تخلو منها أية وظيفة، كما أن العوامل الأخرى مثل الكفاءة ومستوى الطموح وتنظيم الوقت والقدرة على خلق التوازن بين الحياة الشخصية ومتطلبات العمل والمرونة في تقبل التغيير والتعامل مع الآخرين جميعها تؤثر على احتمالية التعرض للاحتراق الوظيفي. فالشخص الطموح والقادر على تحمّل المسؤولية يكون أقل عرضة للاحتراق مقارنة بالشخص القلق وغير الواثق من قدراته المهنية.
كما تشير بعض الدراسات إلى أنه كلما زادت نسبة ذكاء الفرد زادت قدرته على التحكم في الكثير من مصادر الضغوط النفسية، فالفرد الأعلى ذكاءً أكثر قدرة على التعامل مع المواقف الجديدة، والنجاح والتوافق الشخصي والاجتماعي. كما أن الخبرات في مجال العمل تجعل الفرد أقدر على التعامل مع الضغوطات والتحديات المرتبطة بالوظيفة.
العوامل التنظيمية المرتبطة ببيئة العمل :
1 ـ التوزيع غير العادل للمهام بين الموظفين، فيشعر البعض بأن لديه أعباء كثيرة يتطلب تحقيقها خلال فترة زمنية قصيرة جدا ومن خلال مصادر محدودة، فالظروف الاقتصادية الصعبة التي تواجه العديد من الشركات خلال السنوات الماضية أدت إلى الاستغناء عن أعداد كبيرة من الموظفين، مما أدى إلى زيادة الأعباء الوظيفية على الأشخاص الباقين في العمل، ومطالبتهم بتحسين أدائهم وزيادة إنتاجيتهم.
2 ـ البيروقراطية ومحدودية صلاحيات العمل من خلال وجود سياسات وأنظمة لا تعطي مساحة من حرية التصرف واتخاذ الإجراء المناسب من قبل الموظف دون اللجوء إلى مرؤسيه في كل صغيرة وكبيرة.
3 ـ قلة التحفيز والتعزيز الإيجابي للموظف الذي يعمل ساعات إضافية بدون مقابل مادي أو تقدير معنوي، ومحاربة الموظف المبدع والمثابر خوفا من أن يصبح منافسا للمدير في تولي مناصب عليا في المؤسسة مما يسبب له المعاناة والاحتراق.
4 ـ انعدام روح الفريق، فقد يحتاج الموظف أحيانا إلى مشاركة الآخرين في بعض الهموم والأفراح، لكن بعض الوظائف تتطلب عزلة اجتماعية عن الآخرين، ويقتصر تعامل الفرد مع الأجهزة والحاسبات وداخل المختبرات والمكاتب المغلقة.
5 ـ انعدام الإنصاف والعدل، أحيانا يتحمل الموظف مسؤوليات فوق طاقته وعند تقصيره تتم محاسبته. وقد يكون التقصير في أداء العمل ليس بسبب الموظف، ولكن بسبب رداءة الأجهزة وتواضع إمكانياتها ومحدودية برامجها، أو عدم وجود كفاءات فنية مقتدرة لأداء الواجبات المطلوبة.
6ـ صراع القيم والمبادئ، فأحيانا يجد الموظف نفسه أمام خيارات صعبة، فقد يتطلب منه العمل القيام بشيء ما لا يكون متوافقا مع قيمه ومبادئه، فمثلاً قد يضطر عامل المبيعات أن يكذب من أجل أن يروج المنتجات للعملاء ليتمكن من تحقيق المبيعات المطلوبة منه. وتكثر أعراض الاحتراق النفسي في المهن التي يكون فيها التعامل مع الجمهور، والتي عادة تتطلب مواجهة مباشرة واستيعابا دقيقا لآراء واتجاهات الناس، والتي تعد محكا أساسياً في تقييم أعمال المشتغلين بتلك المهن.
وختاما، فإن موضوع ضغوطات العمل موضوع شائك وحيوي ويؤثر سلبا في أداء الأفراد على المستوى الشخصي والوظيفي أيضا، ويحتاج إلى المزيد من الدراسات والمناقشات لتعزيز قدرة الفرد على التفاعل المهني واستمراريته في العطاء. وسنعرض في الجزء الثاني من هذا المقال كيفية التعامل مع ضغوطات العمل.
أدام الله علينا جميعا واسع فضله.