مقالات
دراما السَّطحْ دراما العُمقْ
أنور محمد
وأنت تقرأ الصورةَ «السينافيزيونية» العربية ولاشكّ في أنَّ بعضها يستوقفك وتكاد ترفع قبعتك لصانعها. أما بعضها الآخر وما أكثره، فيدفعكَ لأن ترميها وترميها أو تقطَع شعرك وتدق رأسك بالحيط. صورة مكرَّرة- متكرِّرة باردة خالية من الحزم والحيوية والشجاعة التي يفترض أن يتحلَى بها المُخرج أي مُخرج. صورة جامدة لا روح فيها ولا «روحانية» مع أنَّ الإخراج السينافيزيوني وكذا المسرحي والسينمائي هو عملية تفكيك للنص/ السيناريو والحوار ومن ثمَ إعادة بنائه بأعصابٍ بإرادة، على أن نقرأ في أحداثه؛ في الصورة عذابات روحه المُبدعة التي عاشها المُخرج وهو يصنعها.
طبعًا نحن لا نريدُ من المُخرج أن يوظِّف حسَه التاريخي في قراءة مسلسله قراءةً فلسفية ليكشف الحقيقي من الزائف، نحن نريده أن يذهب إلى القوَّة، وإلى النسبية في التأويلات, وإلى الاختلاف. ونحن كمتفرجين أظنُّ أنَنا نستطيع بعدها أن نميِّز بين الأصل والصورة، بين الرأس والذنب, ولسبب هو أنَنا نفكر بصفتنا سادة وليس عبيدًا، مع أنَّنا نقدِّر أنَّ الإخراج مهنةٌ صعبة، وأنَّ المُخرج هو من يداعبُ طفولتنا، يُوقظها فينا بعد أن كبرنا، يستخرجُ منها تلك الأفكارَ في خفَّتها ورشاقتها وربَما في سذاجتها وأيضًا عنفها الذي لا يمكن إخفاؤه- ولكن بعفوية وصدق.
غير أنَ ما يقتل المُخرج هو لحظة يتملَّكه الجُبن أي يصير جبانًا، في حين إنَّ الفنون عمومًا هي أعمالٌ جريئةٌ وشجاعةٌ وممتلئةٌ بالثقافة والحيوية، وليس بالجهل، أو منتفخة بالمعلومات الخشنة والفظَّة. إنَّ زادَ المُخرج هو الثقافة والشجاعة لكن من دون أن يتحوَّل إلى مستبد, مع أنَّ الاستبداد في مثل عمله -الإخراج- ضروري.
ولكن لفسح المجال للحرية كي تثأر لحريتها- حرية الفن حتى لو اضطر لشغل/ تصوير المشاهد بآلية بدائية، أي يستقي الحركة من الطبيعة البِكر، فكثيرًا ما تقتل الميكانيكية العمل الفني. ولو أخذنا بعض الأمثلة من الدراما السورية سنرى أنَّ حاتم علي وهيثم حقي يردَّان الكثير من المشاهد إلى طبيعتها كأنَّها الواقع ولكن مع شيء من إدهاش وإثارة. فيما نرى أعمال نجدت أنزور ورغم استخدامه خاصة في أعماله الفانتازية للمؤثرات الصناعية فإنَه سرعان ما تنطفئ لمعتها وينطفئ بريقها، فشخصياته مهما تكن بسيطة أو قوية نراها تنطق/ تلقي حوارها بكثير من التعالي والزهو والغرور، مع انَه كما نرى في ألوان المشهد -تلوينه لمشاهده، يذهبُ ويجنحُ نحو صناعة وتكوين صورة فيها شيء من البلاغة الشاعرية.
إلا أنَ نجدت دائمًا ولو كانت الشخصية عنده مثقَّفة وغنية فإنَها في أعماله الواقعية تعاني من خواء ثقافي خاصة بطله خالد طوبال بطل «ذاكرة الجسد» للروائية الجزائرية أحلام مستغانمي وهو المناضل والرسَّام. بل نراه يصرُّ على أن يفرجينا سطوتها وقسوتها وهذا ما يتصادم مع الفنون وهنا المصيبة، لأنَ المُخرج مثله مثل الصانع الخالق.. أبطاله سواء فرجانا الخير أو الشر فيهم فإنَه يفترض أن ينشر سأسأة، همهمة، رقرقة، هسهسة سلوكهم تحت تأثير الأسباب الاجتماعية والاقتصادية/ النفسية التي دفعتهم ليكونوا الذي يكونون.
ثمَ ما المانع في أن يكثر عدد مثل هؤلاء المُخرجين في الدراما العربية كحقي وفاضل؛ فيؤسِّسون لأدوار إنسانية تلعبها دراماهم في الحياة الاجتماعية العربية فنقول عنها دراما: حقية- نسبة إلى هيثم حقي، وفاضلية– نسبة إلى المخرج محمد فاضل، كما نقول في السينما: شخصيات إينشتاينية وبازولينية وفيللينية وغودارية!. أليس دور الفنون هو التطهير والسموُّ وبعث الأمل في النفوس اليائسة؟!.
في الموسم الرمضاني هذا العام 2019 شاهدنا أعمالًا مصرية وسورية وخليجية وعراقية، استوقفتنا بعضها مثل: العاصوف، حضن الشوك، هوى بغداد، الفندق، دقيقة صمت، مسافة أمان. لكن المفاجأة كانت من الجزائر مع مسلسل «أولاد الحلال»؛ ويروي ليس على الطريقة الهندية- قصة أخوين «زينو» و «مرزاق»، تربيا في دار للأيتام، كون أنَّ والدهما قتلَ أُمَّهُما بسبب الشكِّ في شرفها. وهو من إخراج نصر الدين السهيلي وتمثيل عبد القادر جريو وأحمد بن عيسى ومليكة بلباي وآخرين. المسلسل كشف كيف يمكن استخدام الطبيعة البكر بشقَّيْها المادي والروحي؛ لتكون مصدرًا ومسرحًا لدراما عربية تضعنا في عوالم أصلية وليس صناعية، وفي أوساط اجتماعية تبدو حقيقية، وقد صُوِّرَت بقوَّةٍ تمثيلية وإخراجية بالغة، فنرى الغرائز والسلوكات لناجين من الموت وقد اصطدموا مع أغلب الصيغ القانونية والسياسية والاقتصادية «الذئبية» التي تختار لهم مصائرهم فينقلبوا عليها بوعيهم الإنساني لأنَّهم ليسوا قطعان ماشية.
الدراما العربية لا نريد لها وهي في أغلبها مُنحازة لـ (العنف)، أكان أصليًا أو غريزيًا أن لا تنحط. وإذا صوَّرت خوفنا؛ فترينا كيف تتصاعدُ الشجاعةُ منه؛ من هذه التراجيديا التي لا ذنب لنا فيها سوى أنَّنا نتفرَّجُ عليها، وبصفتنا ضحايا لا مُجرمين.