العام
إِذا سَيِّدٌ مِنّا خَلا قامَ سَيِّدٌ
من قصر الحصن في ٢٣ من يوليو ١٩٧٠ إلى خطاب ١١ فبراير بمجلس عمان
قاطرة النهضة تواصل السير على سكة المستقبل في نهضة متجددة
—————————
- سافر بين المحطتين: حمود بن سالم السيابي
منذ أول راية عمانية للإمام الجلندى بن مسعود والرسالة واحدة وإن اختلفت المقاسات والألوان.
وكل الذين افترشوا بسط الحصون أو تربعوا على عروش القصور تداولوا التكليف الروحي والوطني فقاذوا التاريخ ووضعوا بصماتهم كأزهى العناوين ، وإن تعددت الأسماء والمسميات والمواقع والألقاب.
وحين ارتضت بلاد العرب أن تقاد من دار الخلافة الأموية في دمشق ظلت رايات الجلندى على سواري حصون عمان بمعزل عن السفيانيين والمروانيين لأن عمان وجدت لتقود لا تقاد.
وجاء بنو العباس وبسطوا سيادتهم على جزيرة العرب فبذلت عمان الأرواح لتبقى على الدوام بمنأى عن الرايات السوداء والعمائم السوداء والهيمنة السوداء.
وجاء العثمانيون واقتربوا من مياه الخليج فظلت عمان كعهد التاريخ بها عصية على الإستانة ودمشق و”سرَّ من رأى” فلم تخضع عمان “لفرمانات”سلاطين بني عثمان ولا اعترفت بقرارات “الصدر الأعظم” ولا دخلت مواردها في سجلات “الدفتر دار”.
وكانت عمان الشوكة في حلق لشبونة فمرغت علم البرتغال بالتراب.
وكانت وما زالت وستظل مقبرة للغزاة والمستعمرين ، والصخرة الكأداء التي تتحطم على صلابتها قرون الطامعين.
ومنذ أن عرفت عمان المالك ونظم الحكم أصرت على أن تحكم نفسها بنفسها فلم تقبل بمركزية القرار ، ولا بالتوجيه عن بعد فلم يخضع الجلندى لبني أمية ولا ارتضت سواري الحصون رايات بني العباس.
ولم بهنأ البال لناصر بن مرشد إلا بعد أن أنزل عن سواري الجلالي والميراني أعلام البرتغال.
وبدأ أحمد بن سعيد عهده بإلحاق شر هزيمة بالفرس في صحار فمزق رايات الغزاة الأعاجم.
وجعل سلطان بن أحمد من ضفتي الخليج العربي بحيرة عربية.
وأقام سعيد بن سلطان أول امبراطورية عربية مدت السيادة العمانية إلى إفريقيا.
وسجل الثالث والعشرون من يوليو عام ١٩٧٠ محطة مضيئة في هذا التاريخ الراعف بالمجد وانتقالة كبرى نحو التقدم بمجيئ طيب الذكر السلطان المعظم قابوس بن سعيد فاتخذت عمان من يوم مجيئه الميمون تاريخا لنهضتها الحديثة ، ومن ذكرى مولده في الثامن عشر من نوفمبر عام ١٩٤٠ عيداً وطنياً للبلاد.
وفي زحمة الإعداد لليوبيل الذهبي والإحتفال بمرور نصف قرن على النهضة العمانية لبي سيد عمان قابوس بن سعيد نداء ربه في العاشر من يناير ٢٠٢٠ ليتولى حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم مقاليد الحكم خلفا له فاشرأب بالتاريخ العظيم كوريث لهاماته وأمجاده ومفاخره.
وبينما عمان غارقة في الأحزان لفقد أبيها وسيدها وباني نهضتها الحديثة كونه أول سلطان يتوفى وهو في سدة الحكم منذ السلطان فيصل بن تركي ، وكأول سلطان يوارى جسده الشريف الثرى العماني منذ السلطان فيصل بن تركي ، فلم يعرف ثلاثة أرباع العمانيين طوال نصف قرن راية غير رابته ، ولم يقفوا في طوابير الصباح إلا لينشدوا له وللوطن ، فنهض الخلف العظيم ليكفكف الأحزان ويربت على كتف الوطن ويرفع رأسه ليواصل أمجاد الآباء والأجداد متمثلا ببيت السموأل الأزدي :
إِذا سَيِّدٌ مِنّا خَلا قامَ سَيِّدٌ
قَؤُولٌ لِما قالَ الكِرامُ فَعُول
فجعل جلالة السلطان هيثم المعظم من زمن سلفه زمنا لا يطوى بالرحيل بل يبنى عليه ليمتد ويتعاظم فذلك هو استحقاق عمان العظيمة.
وما أن أقلعت آخر الطائرات بآخر وفد جاء لتقديم العزاء كان سيد عمان هيثم طارق بن يوجه ببقاء صور الأب الراحل قابوس بن سعيد على شموخها في حيطان مباني الحكومية ، فلربماغابت الأجساد إلا نها لم تغب الأمجاد ، فتجاورت صور السلطانين العظيمين قابوس وهيثم.
كما لم تغب صور الأب الراحل عن كتب المنهج الدراسي بل تجاورت الصورتان في مستفتتح كل كتاب مدرسي يعاد طبعه في لمسة نبل ووفاء.
ووجه جلالته حفظه الله بأن يستمر يوم الثامن عشر من نوفمبر عيدا وطنيا تحييه عمان كل عام ما يعني أن ١٨ نوفمبر ٢٠٢٠ سيكون يوبيلا ذهبيا للنهضة العمانية وستحييه عمان كعيد وطني في نسخته الخمسين.
ولأن قاطرة النهضة الحديثة انطلقت من محطتها الأولى في صلالة الوفية في الثالث والعشرين من يوليو عام ١٩٧٠ فإن عمان ستظل تتذكر بدء الانطلاقة كمولد لنهضة عمان الحديثة.
وستبقى كل الانجازات التي حملت شرف التسمية ب٢٣ يوليو من مدارس وطرق وكتائب ومعسكرات تستعيد في هذا اليوم دلالات التكريم السامي بهذه التسمية وتعيش الرسالة السامية في الأسماء ورونقها في ألوان الوطن.
وتكريما لحصاد نصف قرن ستحيي عمان هذا اليوم في قلبها ، وستلبس له حلل الفرح وستتبادل فيه التهاني وستستقبله وسائل الاعلام بالأغاني الوطنية والأفلام الوثائقية وستحييه الصحف والمجلات بالاصدارات التاريخية والملاحق.
ولأن الثالث والعشرون من يوليو هو مولد كل مشروع شمخ في السنوات الخمسين عبر الجغرافيا العمانية من أول موجة تتدافع في مضيق هرمز إلى آخر نبتة برية في منفذ المزيونة.
ويفخر الثالث والعشرون من يوليو كونه الأب والأم للجامعة والمعهد والمدرسة ، وللمستشفى والمستوصف والعيادة ، وللشارع السريع المضاء وللمعالجة السطحية لكل شبر إسفلت في سكيك القرى ومرتفعات الجبال.
ويتوهج الثالث والعشرون من يوليو وطوال نصف قرن كأزهى الأحبار على كل اسم في شهادات الدكتوراه والمداد الساطع في كل شهادة دراسية.
وتفخر قرارات تعيين الألوف المؤلفة لأرفع وظيفة في الدولة إلى أقل تكليف إداري بأنها كتبت بمداد ٢٣ يوليو وختمت بخاتمه.
وطوال نصف قرن كانت الثالث والعشرون من يوليو تأشيرة السفر والعودة في المطارات فحمل العمانيون الجواز الممهور بخنجر الوطن وسيفيه ومشوا برؤوس مرفوعة في شوارع العواصم والمدن ، وكانوا أينما حلوا وارتحلوا محل احتفاء ويشار عليهم بالبنان.
وتدين عمان لأولويات ٢٣ من فانصرفت للبناء فلم تدخل وهي القادرة في سباقات القوة ولا أثقلت كاهل الموازنة في الإنفاق على السلاح لأجل المباهاة فلبت تجهيزاتها التسليحية متطلبات الأرض وصون المترامية وحراسة الشواطئ الطويلة.
وطوال نصف قرن كان ٢٣ يوليو مظلة الأمان وسياج الحدود.
ورغم ماضينا الراعف بالبطولات كان فكر يوليو الصمام الذي يرشد استخدام السلاح فلم ندخل حروبا بدافع من جنون القوة بل لتبقى الأصابع على الزناد ونحن في تخوم الوطن ندافع عن ديننا وتاريخنا ومكتسباتنا.
وسجل ٢٣ يوليو لسلاحنا تاريخا ناصعا في عدم توجيهه لصدور الأشقاء فلم تتلطخ أيادينا بالدماء يوم رفضنا التوجيه بالريموت كنترول.
وسجل٢٣ بوليو والحمد لله “صفر إرهاب” حين نأينا بأنفسنا عن سياسة المحاور فلم نصطف مع هذا الطرف لنحصد عداواة ذلك الطرف فنجحنا بأن نكون أصدقاء للجميع وارتضانا الكل كوسطاء وكإطفائيين للحرائق السياسية.
وبينما السلاح المجنون يحصد أرواح العرب كانت مساعينا تنشط لإنقاذ من تقطعت بهم السبل فوجدوا أنفسهن ضحايا للتصفيات والحسابات.
وبينما كان البعض يتسابقون لتصدير الموت والدمار كنا ننتشل الجرحى من ميادين التقاتل المجنون فتحلق بهم طائراتنا لأقرب مستشفى.
وعلى صعيد القضية الأم لم نكن طرفا في تأليب الإخوة على الإخوة بل اخترنا البناء فشيدنا المدارس والمستشفيات في الضفة والقطاع ووظفنا علاقاتنا في الضغط على كف يد الأعداء قدر استطاعتنا حتى لا تطال العزَّل والأبرياء.
ولأن عمان واحدة منذ الجلندى إلى قابوس بن سعيد إلى هيثم بن طارق فقد حرص سيد عمان هيثم بن طارق على مد هذا الخط ليستمر وبنفس الزخم والنبل فكان خطابه في تأبين السلطان الراحل طيب الله ثراه قد خُطَّ بحبر الوفاء حين أكد جلالته حفظه الله على نفس المسار الذي اختطه الأب الراحل فجعل من يوم توليه لمقاليد الأمور في الحادي عشر من يناير ٢٠٢٠ امتدادا زمنيا ووطنيا للثالث والعشرين من يوليو ١٩٧٠ وفي نهضة ممتدة ومتجددة.
وقد أكد حفظه الله في خطاب العرش والعهد والبيعة بمجلس عمان :”بأن خير ما نخلد به إنجازات السلطان الراحل هو السير على نهجه القويم والتأسي بخطاه النيرة التي خطاها بثبات وعزم إلى المُستقبل والحفاظ على ما أنجزه والبناء عليه وهذا ما نحن عازمون بإذن الله وعونه وتوفيقه على السير فيه والبناء عليه لترقى عمان إلى المكانة المرموقة التي أرادها لها وسهر على تحقيقها فكتب الله له النجاح والتوفيق.
واستمرارا للخط التاريخي الذي طبع الحضور العماني عبر الأزمان جدد حفظه الله التأكيد بترسم خطى السلطان الراحل والسير بهدي من “الثوابت التي اختطها لسياسة بلادنا الخارجية القائمة على التعايش السلمي بين الأمم والشعوب وحسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير واحترام سيادة الدول وعلى التَّعاون الدولي في مختلف المجالات، كما سنبقى كما عهدنا العالم في عهد المغفور له بإذن الله تعالى حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور داعين ومساهمين في حل الخلافات بالطرق السلمية وباذلين الجهد لإيجاد حلول مرضية لها بروح من الوفاق والتفاهم”.
ولأن الثالث والعشرين من يوليو لم يكن مجرد يوم من أيام التقويم الميلادي بل محطة مضيئة في روزنامة الوطن انتظرتها عمان طويلا لتعبر بالحلم إلى مداه ، إذ لم يعرف ثلاثة أرباع العمانيين طوال نصف قرن عاشوه في كنف قابوس المعظم سلطانا غيره فأحبوه أبا والتفوا حول لوائه زعيما ومشوا خلفه قائدا ورائدا وقرأوا مشروعه منقذا ومصلحا وموجها وكأعظم صناع التاريخ الحديث.
ولعل خير ما يستحضر في ٢٣ يوليو هذا العام هو ما أكد عليه سيد عمان هيثم بن طارق في خطابه “إنَّ الكلمات لتعجز والعبارات لتقصر عن أن نؤبن سلطانًا عظيمًا مثله وأن تُسرد مناقبه وتُعدد إنجازاته، إن عزاءنا الوحيد وخير ما نخلد به إنجازاته هو السير على نهجه القويم والتأسي بخطاه النيرة التي خطاها بثبات وعزم إلى المُستقبل والحفاظ على ما أنجزه والبناء عليه؛ هذا ما نحن عازمون بإذن الله وعونه وتوفيقه على السير فيه والبناء عليه لترقى عمان إلى المكانة المرموقة التي أرادها لها وسهر على تحقيقها فكتب الله له النجاح والتوفيق.
وإذا كان قصر الحصن شارة انطلاق قاطرة النهضة في ٢٣ يوليو عام ١٩٧٠ فإن خطاب ١١ يناير ٢٠٢٠ بمجلس عمان محطة هامة للقاطرة العابرة لسكة المستقبل في نهضة موصوله ومتواصلة.
وخير ما يختتم به الحديث عن النهضة في انطلاقتها وتجددها ما أضاءه خطاب حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم: “بأن الأجيال تتناوب على إعلاء راية عمان.
وأن تظل رسالة عمان للسلام تجوب العالم حاملةً إرثًا عظيمًا وغايات سامية تبني ولا تهدم تقرّب ولا تبعد وهذا ما سنحرص على استمراره معكم وبكم لنؤدي جميعًا بكل عزم وإصرار دورنا الحضاري وأمانتنا التاريخية .
منوها جلالته بأن العقود الخمسة الماضية شهدت تحولًا كبيرًا في بناء الدولة العصرية وتهيئة البنى الأساسية الحديثة والمتطورة في كافة ربوع الوطن بقيادة باني عمان الحديثة المغفور له بإذن الله جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور طيب الله ثراه، وبجهود المخلصين من أبناء عمان الذين نسجل لهم كل التقدير والإجلال على ما بذلوا من أجل رفعة عمان وإعلاء شأنها وإننا ماضون بعون الله على طريق البناء والتنمية نواصل مسيرة النهضة المباركة كما أراد لها السلطان الراحل رحمه الله مستشعرين حجم الأمانة وعظمتها، مؤكدين على أن تظل عمان الغاية الأسمى في كل ما نقدم عليه وكل ما نسعى لتحقيقه داعين كافة أبناء الوطن دون استثناء إلى صون مكتسبات النهضة المباركة والمشاركة الفاعلة في إكمال المسيرة الظافرة متوكلين على الله عز وجل راجين عونه وتوفيقه .
————-
مسقط في الثالث من يونيو ٢٠٢٠