العام
محمد الصـُوري.. وتاريخٌ لم يكتب عن الحلوىَ وفاجعةِ الابنِ القتيل
عاش في عَـــدَن أكثر من 40 عامًا
- شَخصياتٌ تأتي مُعَمرةٌ للزمَانِ وللمكانِ. يَذهبونَ وتبقىَ ريحُهم طيبة عَطِرَة وإنْ مَـرَّ الدهرُ وانقضتِ الأيامُ، لا نجد عُنوانًا لمسيرتِهم سوى الكفاحَ والجهد ولا نصِلُ الىَ وَصفٍ لمجرىَ حياتِهم سوى الطمأنينة والسعي في ملكوتِ اللهِ الواسعةِ. محمد بـن علي السليماني وشقيقُه عيسىَ. سَطَّراَ تاريخًا عبرَ البِحَارِ وتركاَ الوطنَ فترةً ليعوداَ لإعمارِهِ وتربيةِ أبنائِهم كي يكونوا مثلهم جُهْدًا وصَبرًا وكِفاحًا مُستمرًا وسيرة حسنةً طيبةً وحبًا وسَلامًا ينشرونَه في كلِ مكان.
- سعيد بن خلفان النعمَاني
أعرفُ العائلةَ وتاريخَها لأني أصبحتُ جزءًا منها في العام 1990م. حيث صَارَ محمد بن علي السليماني الصـُوري جَدًا لأبنائي. أمَلا في أن يكون كفاحُه وتاريخُه في الحياةِ حافزًا لهم لأن يأخذوا من سُلوكِهِ ويستفيدوا من فِكرهِ وأخلاقهِ.
من مزرعتهما المُسماة بالياسمينة في أحَدِ أريَافِ ولاية بركَاء حيث كانت النخيل وقتها الاقتصاد الأول وانطلقاَ إلى صـُور حيث تجَارتُها الواسِعةُ وحركتُها الدؤوبةُ بينَ المَوانئ والمُحيِطَاتِ رُسُوًا ومُغَادرةً، فيطيبُ له المكانُ ويفتحُ مَحلًا للحَلوىَ العُـمَـانيةِ زادًا للقادمينَ ومؤونةً وهدايًا راقيةً للعائدينَ إلىَ أوطَانِهم.
أشار إليهم تُجّارُ صـُور بالتوسعِ في نشاطِ الحلوىَ بالانتقالِ الى عَدَن حيث كانت تعيشُ فترةً زاهيةً ورخاءً ويسرَ عيشٍ، لتبدأ القصةُ الأطولُ من مشوارِ حياتهما الذي بدأ هناك في ثلاثينيات القرن الماضي حتى عودتهما الى الوطنِ في العام 1970م فعادا إلى عُـمَان بفكرٍ تجاريٍ وعَمَّرا مزرعتهما الياسمينة التي كانت مَضْرِبَ المثلِ في انتاجِ أجود أنواع التمور في قريتهما الجنينة حتى توفي محمد بن علي في العام 1983م وعيسى بن علي في العام 1988م.
ما دعاني للكتابة عن هذه الشخصية التقرير الصحفي الذي تم تداوله أخيرًا عن شخصية محمد الصـُوري (وسوق الزعفران، أشهر أسواق عَدَن، شهد ولادة حلوى الصـُوري إبان الاحتلال الإنجليزي، ومنه انتشرت حتى ملأت مدن اليَمَن. وأبرز حلويات الصـُوري هي الخلطة الحمراء الكثيفة القوام، والهريس الخشنة المليئة بالفول السوداني).
وجاء في التقرير الذي نشره موقع العربي الجديد، للكاتب عبد الإله تقي: (في أربعينيات القرن الماضي، افتتح رجل من مدينة صـُور بسلطنة عُـمَـان محلًا للحلاوة العُـمَـانية، يحمل اسمه الصـُوري في سوق الزعفران، حيث كانت تقيم مجموعات من جنسيات مختلفة بينها الهندية والصومالية. وكانت حلاوة ذلك المحل مميزة عن المحلات التي افتتحت بعده في عَدَن، برغم تشابه شكلها، لكنّ مكوّنات ومذاق حلاوة الصـُوري ظلت استثنائية حتى اليوم.)
وجاء في الموقع: (كان جميع عمال المحل من أقارب الصـُوري، باستثناء عبد ربه المطري، الذي قدم للعمل من مدينة البيضاء اليَمَنية نظرًا لمهارته وأمانته. وبعد تحسن الأوضاع الاقتصادية في عُـمَـان، عاد الصـُوري وعماله إلى بلدهم، وبقي عبدربه في المحل، بعد أن اشتراه وصارَ بابَ رزقٍ لأولادِه، وفي طليعتهم محمّد المطري، أو العمّ محمد.
ظل محل الصـُوري اسمًا تجاريًا بارزًا يتميّز بالجودة نفسها للحلاوة التقليدية، وبأسعار منافسة، إذ لم يغير أيًا من مكوّناتها الأصيلة. وكان ذلك سرّ حفاظ المحل على شهرته منذ أكثر من 70 عامًا.
ونشرت معشوقتي عَدَن، عبر صفحتها في الفيسبوك قصة قصيرة للكاتب اليَمَني محمد أحمد البيضاني بعنوان (حلاوة الصـُوري) ذكرت فيها الكثير من التفاصيل حول حياة محمد الصـُوري ومقتل ابن أخيه حمد بن عيسى، ومن ذلك: قصة الصـُوري الذي كان يعمل حلاوة الصـُوري انتهت بمأساة أليمة في حياة هذا الرجل الذي جاء إلى عَدَن وأدخل الحلاوة الصـُورية نسبة إلى ميناء صـُور في عُـمَـان، سكن هذا الصـُوري في عَدَن لأكثر من 40 سنة، كان محله في شارع الزعفران بجانب مكتب الشيخ عبد الله علوي القربي البيضاني. منذ طفولتنا ونحن نشتري بعد الغداء في الظهر حلاوة الصـُوري والبعض منا يأكلها في محله الصغير وكانت تقدم في صحون نحاسية وعليها نقوش جميلة. كانت المحلات الأخرى للحلويات في عَدَن تقدم كثيرا من أنواع الحلويات منها المُشبك والهريسة والحلوى الملونة وحلوى بيضاء بسكر. بعض هذه الحلويات تأتي من لحج وهناك حلوى مميزة داكنة اللون تسمى حلاوة الفيل.
كانت حلاوة الصـُوري تتميز برائحتها الجميلة ولا أحد يستطيع تقليدها ورأيت أماكن كثيرة من محلاتها في البحرين والكويت والخليج وتسمى أيضا الحلاوة العُـمَـانية. في عام 1964 قامت الجبهة القومية بعمليتها الإجرامية في عَدَن ونفذت بوحشية اغتيال ضباط بوليس عَدَن، وكان أول ضحية لهذا العمل الإجرامي ضابط البوليس العَدَني النقيب الشهيد فضل خليل. عند مدخل سوق الطويل كان هناك محل لبيع عصير الليمون وقد اعتاد المرحوم فضل خليل الوقوف بجانب سيارته أمام مدخل السوق عند محل صديقه بائع العصير. قبل المغرب والسوق في زحمة شديدة قاموا بإطلاق النار عليه من مدفعين رشاشين – رشاش مصري يعرف باسم رشاش بورسعيد، أطلقوا سيلا من الرصاص لا داعي له لقتل إنسان أعزل في شارع مكتظ بالناس، وقد أصيب الشهيد فضل خليل بكثير من تلك الطلقات الوحشية فمات في الحال، وتلك الطلقات قد كادت ستصيب كثيرا من الأبرياء في السوق الطويل وشارع الزعفران.
وأضاف: ومن غرائب القدر أصابت رصاصة طائشة واحدة فقط ابن الصـُوري حين كان يسير وسط شارع الزعفران بين كثير من الناس، استقرت الرصاصة مباشرة في القلب وسقط قتيلا ينزف دمه في الشارع فمات في الحال. ابن عَدَن الضابط الشهيد فضل خليل وهو من الضباط المتعلمين الذين انخرطوا في قوة بوليس عَدَن.
الضحية الأخرى ابن الصـُوري صاحب محل حلاوة الصـُوري الذي سكن في عَدَن لأكثر من 40 سنة – ابنه القتيل كان شابًا عمره حوالي 16 سنة طويل القامة جميل الملامح، رأيته في مشرحة مستشفى الملكة اليزابيث ينام على سرير المشرحة، كانت هناك مسحة ألم على وجهه الجميل وهو ميت. رأيت والده في المستشفى وهو يبكي بحرقة كان ابنه الوحيد، الصـُوري يعرفني في طفولتي وشبابي ويعرف الكثير من أبناء عَدَن، لم أستطع أن أنسى كلماته طوال هذه السنين الطويلة -قال: ليش هذه الرصاصة قد أخطأت كل الناس في شارع الزعفران وأصابت ابني.
وقال: غادر الصـُوري عَدَن بعد مقتل ابنه عاد إلى بلاده عُـمَـان وأحضر بعض أقربائه للعمل في المحل. وفي عام 2000 عدت إلى الخليج عودتي الثانية فوجدت مكانا لبيع الحلوى العُـمَانية في الشارقة في ميدان الرولة، في المحل سألت عن الصـُوري الذي كان في عَدَن وعرفتهم بنفسي وقصصت عليهم تلك القصة الدامية، قالوا لي نعم هو من أهلنا وبعد عودته إلى صـُور مرض فمات مقهورًا على ابنه القتيل في عَدَن. فرح أهل صـُور أصحاب المحل بي وتحدثت معهم طويلًا وحين مغادرتي محلهم أهدوني علبة حلوى عُـمَـانية خاصة، أخذتها إلى سكني في دبي ولم أستطع أن أذوقها – شعرت بالمرارة والألم فأعطيتها لصديق لأني لم أستطع أن أنسى منظر الشاب العُـمَـاني وهو مقتول – نائم على سرير مشرحة المستشفى وبقعة دم على كفنه الأبيض.
سليمان بن سيف .. يضع النقاط على الحروف
وحتى نستكمل فصول القصة، ذهبت الى سليمان بن سيف السليماني حيث يقيم بقرية الجنينة بولاية بركاء باعتباره أحد افراد العائلة الذين عملوا هناك، وهو أكبر الموجودين عُمرا ممن عايشوا تلك الاحداث، وباعتباره أيضا مؤرخا وأديبا ومطلعا على كثير من الثقافات العالمية لاسيما في تلك الفترة، فقال: ننحدر من عائلة كانت تسكن ولاية منح، حيث جاء جدي الثاني الذي استقر في مسقط واشترى أموالا في منطقة المزارع بولاية قريات وكانوا يقضون الصيف هناك في حصاد التمر والاهتمام بمزارعهم، ثم انتقل الجدان علي وسليمان أبنا سعيد بن سالم الى بركاء ثم قدم إخوته واستقروا جميعا في بركاء، وكانت الزراعة والأنشطة المرتبطة بها من أهم مصادر الرزق آنذاك .
والصدفة وحدها هي التي جعلت العم محمد بن علي يذهب الى عَدَن، فقد استقر في ثلاثينيات القرن الماضي في ولاية صـُور صانعًا للحلوى ومتاجرًا في هذه السلعة التي تلقى رواجا وطلبا، سيما وأن صـُور كانت ميناءً مقصودًا من كل مكان فكانت الحلوىَ العُـمَـانية من أهم (الصوغات) التي تشترىَ عند السفر والعودة الى الأوطان، وكان أكثر التجار يأتون من ولايات صـُور وجعلان والاشخرة وبقية ولايات الشرقية بشكل خاص، ونظرا لارتباطهم ومعرفتهم الجيدة بالوالد محمد بن علي ولأنه صار صديقًا ومقربا من الجميع، شجعوه على اكتشاف مكانٍ جديدٍ للرزق، وكانت عَدَن وشواطؤها الجميلة مهوى الافئدة وملتقىَ التجار، فذهب معهم في العام 1939 تقريبا وافتتح مصنعا للحلوى في حارة حسين ليتم بيعها في شارع الزعفران واستمر في عمله حتى العام 1975 .
وقال سليمان بن سيف: شجعت هذه التجارة ونجاحها المتواصل أخيه عيسى الذي أتى الى اليَمَن حيث اتفقا على التناوب السنوي بينهما في الإقامة والعمل واقتسام أرباح التجارة، فسنة لمحمد يشتري ويبيع وصافي الدخل له ولعائلتهما في عُـمَـان والمرافقين له هناك، وفي السنة التالية يذهب عيسى وأولاده يشترون ويبيعون ويتاجرون بنفس الطريقة حتى يأتي الموسم القادم، وهكذا.
أشرِعَةُ الابحَارِ .. هَوىً لعَدَن
في كلِّ رحلةٍ من صـُور الىَ عَدَن وعودة منها هنالك حكايات كثيرة ومواقف صعبة نمر بها، هذا مما قاله سليمان بن سيف، ونحن في مجلسه نستمع اليه وكأنه يسمع صياحَ النوخذة للعودةِ سريعًا للسفينةِ بعد وقفاتِ المُؤنِ في محطاتٍ محددةٍ مُسبقًا، فقال: ركب معنا احدُ تجارِ اليَمَن في السفينة التي اذكر كل تفاصيلها، كانت السفينة ُ لسعود بن عبد الله بهوان والنوخذة أحمد بن عبد الله غبار – رحمهم الله تعالى جميعا -، هذا التاجر يسكن في قرية جميلة تسمى قفزان، وهي تقع في بحرِ القمر بأرضِ المهرة تحفها مرتفعاتٌ جبليةٌ وصخورٌ بركانيةٌ وبها حصن يشقوق التراثي، هذا التاجر أصر على أن نكون ضيوفه في بيته وقتما تتزود السفينةُ بالمؤن، فقد رست في ميناء خلفوت الذي يقع إلى الجنوب من مدينة الغيضة، ويبعد عنها نحو 38 كيلومترًا، كان رجلا كريما، وكانت بالنسبة لنا استراحة رائعة قبل أن ننضم الى السفينة مرة أخرى.
وقال: أذكر الكثير من التجار والنواخذة بولاية صـُور ممن كنا نرافقهم في رحلاتنا الى عَدَن التي استمرت أكثر من اربعين عاما، منهم خميس بن سالم السَّراي الذي كان يملك عددا من السفن التي تجوب سواحل المحيط الهندي، وكذلك حمد بن بلال واخوته سالم وناصر وغيرهم.
الفاجعة .. مقتل حمد
وتحدث سليمان بن سيف موضحا اللبس حول مقتل حمد بن عيسى فقال: كانت الحادثةُ في شهرِ ديسمبر من العام 1965 وحمدٌ الشابُّ اليافعُ المتزوجُ حديثًا من ابنةِ عمِّه جالسًا في المحل مرافقًا لوالدهِ حينَ طلبَ منهُ الذهابَ لشراءِ بعضِ البهاراتِ من سوقِ الطعامِ فوقعَ اطلاقُ النَّارِ المشار اليهِ في القصةِ التي رواها الكاتبُ اليَمَني محمد أحمد البيضاني ولكنه قالَ إنَّ الرصاصةَ أصابت ابنَ محمد الصـُوري ولكن الصحيح ابن أخيه عيسى، ذلك لأن المجتمعَ اليَمَنيَ أطلقَ عليهم أبناءَ محمد الصـُوري ولم يفرقوا بينَ الاخوين عيسىَ ومحمد، لقد كانتا رصَاصَتينِ قاتلتينِ وليسَت رصاصة واحدة كما أشارَ الكاتبُ ولم تنجح كلُّ الوسَائلِ لإنقاذِهِ فتوفيَ رحمه اللهُ تعالىَ في المستشفىَ ودفنَ هناكَ.
راشد يستكمل الحكاية
راشد بن محمد السليماني، أكبرُ أبناءِ محمد الصـُوري وقضىَ طفولتَهَ في أحياءِ عَدَن ودرسَ الابتدائيةَ هناك، أكملَ القصةَ فقال: تعلمتُ الصبرَ وعشتُ الغربةَ وانا طفلٌ صغيرٌ لم اتجاوز الخامسةَ، أرافقُ والدي في رحلتهِ السنويةِ الى عَدَن عبرَ البحرِ، وفي بعضِ المراتِ أعودُ جوًا، بل ومكثتُ سنواتٍ أطولَ حتىَ يعودُ عَميِّ عيسىَ ليستكملَ مسيرةَ والديِ في مَحلِ الحَلوىَ.
لقد درستُ القرآنَ الكريمِ قبلَ الدراسةِ المنتظمةِ بسنتين، ومن ثم دَخلتُ مدرسةَ بازرعة في حلةَ القطيعِ بمدينةِ عدن في العام 1964وهي مدرسةٌ خاصةٌ، ثم درستُ بالمعهدِ الإسلاميِ في حَيِّ حُقات ولم تكن الظروفُ مناسبةٌ لاستكمالِ الدراسةِ حينئذ، كانت المدينةُ تعيشُ حالةً من المواجَهاتِ العسكريةِ بين الثوارِ والحكومةِ، وكانت آخرُ يومٍ لي في ذلكَ المعهدِ عندماَ خرجتُ وزميلي بعدَ انتهاءِ اليومِ الدراسيِ واذا بالشوارعِ امتلأت بالمواجهاتِ الداميةِ والرصَاصُ الحيُّ يُطلق في كلِّ الاتجَاهاتِ غيرَ مفرق بين أحد، يبعدُ المعهدُ حوالي ثلاثة كيلو متراتٍ من محلِ الحلوىَ، وقطعتُ الطريقَ ركضًا بينَ وابلِ الرصَاصِ حتى وصَلت المحل، فتبعنا الجنودُ واقتادوا عبد الله ابن عمي رشيد الى السجنِ بعدما أن كسروا بابَ المحلِ واصابوه في ظهرهِ بجرحٍ غائرٍ، وبعد أن عرفوا انه عمانيا اطلقوا سراحه ورقدَ في المستشفىَ فترة طويلة حتى تعافى من جرحه.
وقال راشد: انا الان اقاربُ السبعينَ من العمر، وما زلتُ اتذكرُ أحياءَ عَدَن التي احتوت طفولتي وجزءًا من شبابي، وكانَ مقتلُ ابن عمي حمد فاجعة كبرى، حيث كان آخر لقاء لي معه ليلة الفاجعة، كنا في مطعمٍ صغيرٍ في نفسِ الحيِّ الذي نسكنه، تناولنا العَشَاء بعدَ صَلاةِ المغرب وتحدثنا طويلًا نستذكرُ مَربعَ الطفولةِ. قريتنا الجنينة والشبابَ الذين تركناهم هناك، تجاوزنا ذلك الى احلامِنا وآمالنا عندما نعود الى الوطن، حمد تزوج مبكرا من اختي التي تكبره قليلا، وأنا تزوجت اخته أيضًا، كنا توأمين مُضِيًا ورُواحًا بينَ شارع الزعفران وأسواقِ عَدَن وحاراتِها، كان عميِّ عيسى شديدًا معنا ولا يغفلُ عنا طرفة عين، ولابد من استئذانهِ واستعطافه لأي خروج من المحل، لقد غرسَ فينا الاخلاقَ الفاضلةَ والالتزامَ الدينيَ والاختلاطَ الحذرِ مع الاخرين.
ذهب حمد لشراء بعض مستلزماتِ المحل وعاد مُسْجىً والدماءُ تنزفُ منه، فقد اصابته رصاصتان اثناء تلك الاحداث في الجانب الأيمن فوق الخصر واستقرتا في بطنه وبذل عمي جهدا كبيرا في توفير الدم فقد ذهب الى ميناء المعلا بمدينة عدن وأتى بعدد كبير من عمال الميناء الاصحاء ليتبرعوا بدمائهم انقاذا له، فهو صديق للجميع يعرفه القريب والبعيد، ولكن باءت تلك الجهود بالفشل، نقلناه سريعًا الى المستشفىَ الذي خَلا من أغلبِ الاطباءِ بسببِ إجـَازةِ عيدِ الميلاد، وما زلتُ اتذكر وجهَ عميِّ والدموعُ تسيلُ منه عينيهِ حينما فارقت روحُ حمدٍ جسدَه بين ايدي الاطباء الذين فشلوا في اخراج الرصاصتين وانعاشهِ وانقاذهِ ليعودَ مجددا الى الحياةِ ويرافقني طريقَ عودتيِ الى محل الحلوىَ ومن ثم الى بركاء.
العائلة تعود الى عُـمَـان
داعبُ الحنينُ الى الوطنِ وُجدانَ محمد الصـُوري وأخيه عيسى بأن يكونا أول العائدين الى عُـمَـان في العهد الجديد والنهضة المتسارعة والاخبار المتواترة ببزوغ فجر جديد على عُـمَـان وأهلها في العام 1970م، فبدأ محمد يلملم حقائبه عائدا الى بركاء في العام 1972 حيث عهد بالمحل الى ابنه راشد وأبناء اخوته واعمامه لمواصلة العمل او العودة الى الوطن، فعاد راشد في العام 1974 والبقية في سنوات لاحقة، حيث ذهب بعضهم لممارسة نفس النشاط في امارة الشارقة واستمروا طويلا في محلهم بشارع العروبة حتى انهوا تجارتهم هناك واستقر الجميع في عُـمَان.
قال راشد: عدت الى ارض الوطن في العام 1974 وحصلت على وظيفة في العام التالي بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية آنذاك، ومكثت في العمل الحكومي 42 سنة حتى أحلت الى التقاعد في العام الماضي.