العام
زيارة لبقايا أول مستشفى للولادة أقامته الحكومة عام ١٩٦٥ بالفيحاء
سمائل تدخل عصر الولادة على الأسرة البيضاء
- تداعت جدران أول مستشفى للولادة في الفيحاء إلا أن روائح الدواء ما تزال تكنس المكان. و «الدخترية» التي كانت هنا خلعت معطفها الأبيض لتسمح لألوان الساري لأن تتأنق. وأبعدت السماعة عن أذنيها ليسطع لمعان الحلق. ولربما عادت «الدخترية» ومعها «السسترات والبشكارات» إلى بلادهن ليمضين بقايا العمر على ضفاف نهر الجانج. ولربما نمن على تعريشة من حطب الساج فتولى أقرب المقربين إيقاد النار على الجثث المشبعة بالزيت. أدفعُ الباب الذي أغلقه الركام المتساقط من السقف والجدران فينفتح تاريخ من الأمصال والأدوية والوجع والبشارات بالولادات السليمة والأطفال الخُدَّج.
حمود بن سالم السيابي
أعالج الباب الغائر في الوحل ليعود بي الزمان إلى مطلع ستينيات القرن الماضي يوم وصلت إلى سمائل لجنة لمعاينة الأرض التي سيقام عليها أول مجمع للصحة العامة يضم مستشفى للولادة وآخر لمكافحة الملاريا والحميات وعلاج سائر الأمراض. يومها اختارت اللجنة هذه الأرض المملوكة لناصر بن سيف السيابي ومحمد بن سعود بن ناصر البوسعيدي لتوافر شروط المساحة المطلوبة فيها، ولوقوعها في منتصف البلدة فتخدم السفالة والعلاية. كان الاختيار مثاليا فاشترتها اللجنة دون تردد، فموقعها بمفهوم العصر يمثل «الداون تاون» للبلدة القديمة، وفيه يتكثف المكان بأهم مفردات البلدة من قربه للجامع ومعهد الجامع، إلى مجاورته لسوقي السفالة والعلاية، وفي منطقة يتفيأ حصن سمائل الشامخ بساريته المزدانة بالراية الحمراء.
كما يقع على مسافة أشبار من طريق السيارات القادمة من مسقط باتجاه ولايات الداخلية والظاهرة. ولم يستغرق الأمر وقتًا طويلا بين اختيار الأرض إلى استكمال إجراءات الشراء حتى شرعت حكومة جلالة السلطان سعيد بن تيمور في البناء. وفي منتصف ستينيات القرن الماضي كان المجمع الصحي على كبره بقياسات ذلك الزمان وصغره بقياسات اليوم قد استكملت مرافقه وهيئاته العلاجية وأصبح بمقدوره أن يعلن عن نفسه ببدء مزاولة تقديم الخدمة العلاجية لأهالي سمائل ومتعلقاتها. ولم تكن سمائل ببعيدة عن الطب الحديث بل بدأته قبل ذلك بسنوات حين استأجرت الحكومة بيتا طينيا من طابقين يقع داخل مقصورة للشيخ محمد بن راشد بن عزيز الخصيبي، واستقدمت له طبيبا عاما باكستانيا يسمى محمد رافع. وقد استعان الطبيب بشابين من البلدة هما محمد بن سيف الحضرمي وسعيد بن ثني السيابي فدربهما على التمريض بدءا بغلي الحقن في قدور التعقيم إلى غرز الحقن في الأيدي إلى اختبار قابلية الأجسام للبنسلين إلى صرف أقراص «الكنين» ومراهم التراخوما وزجاجات المكروكروم إلى جانب تضميد الجروح. إلا أن هذا المجمع هو أول مشروع صحي تبنيه الحكومة دون أن تضطر إلى استئجار بيوت الأهالي، بل أول مشروع تملكه الحكومة في سمائل بعد الحصن الذي ورثته عن الأسلاف. وقد انتقل الدختر محمد رافع ومساعداه للمجمع الجديد بعد أن انضم إليهم أطباء وطبيبات وممرضون وممرضات من الهند وباكستان.
أعود إلى مستشفى الولادة فقد دخلت «الدخترية» الهندية غرفة العمليات لأول مرة وهي تتأبط امرأة يتنازعها الحياء والألم، وخلال سويعات كانت الطبيبة تنتظر توقف النبض في الحبل السري لتفصل سرة الطفل عن المشيمة، وتبشر أباه المنتظر وراء باب العملية بفرحة أول مولود سمائلي يولد في مستشفيات «الإنجريز» دونما حاجة للقابلة التي تدخل مع المرأة في سديم من التعويذات والغموض لتعلن عن خروج الجنين حيا أو ميتا، وخروج أمه سليمة أو مفارقة للحياة. هنا كانت غرفة «الدخترية» التي تجلس وراء طاولة فخمة كطاولات الكبار في نظارة الداخلية بمسقط. وكانت طاولتها مزحومة دومًا بصندوق قياس الضغط والقوارير الملأى بسوائل التعقيم وقد غطست أنابيب قياس الحرارة في قعرها، إلى جانب المراجع الطبية، بينما تغلي الإبر بجوارها في قدور التعقيم. وهناك في الطرف الشمالي من المبنى كانت غرفة العمليات، وهنا كانت تصطف غرف الترقيد التي تنفذ إلى ممر مسقوف ينتهي بفناء مفتوح للشمس والهواء. وكانت معالجتي لفتح باب مستشفى الولادة صعبة لكثرة ما استقبل من مطر وشراج طوال أكثر من نصف قرن. وكانت أرض الفناء بيئة خصبة لولادة الكثير من الشجر والنباتات المعرشة، ولعلها الوحيدة التي تغذي ذاكرة المكان بالأمس المترع بالولادات والبشارات والزغاريد. أدخل بقايا مرافق المكان فأستذكر أبناء عائلات أعرفها وقد ولدوا هنا، ولعلهم اليوم يقفون على أبواب غرف عمليات مستشفيات الولادة في مختلف أرجاء البلاد ينتظرون ابتسامات الممرضات لتسطع ببشارات ولادة أحفاد الأحفاد.
هذا هو مستشفى الولادة إذن بسمائل كأول خطوة ثورية تنقل بها الحكومة المجتمع من الطبابة البيتية على أيدي القابلات إلى الطب العصري الذي يوفر بيئة علاجية نظيفة وآمنة، ويوفر التدخل الجراحي لما يعرف بالعمليات القيصرية التي تنقذ الجنين والأم معا إذا تطلب الأمر، بينما كانت تقف القابلة عاجزة عن إيجاد حلول لأي تعسر في الولادة. كما مثل المستشفى مرحلة جديدة نقلت الخدمة العلاجية من مستشفيات الإرساليات الأمريكية في مسقط ومطرح إلى مستشفيات حكومية تقدم خدماتها للمواطنين بالمجان. هذا هو المستشفى الذي استقبل بعد خمس سنوات على إنشائه بزوغ فجر النهضة الحديثة فظل يواصل تقديم الخدمة العلاجية طوال السنوات العشر الأولى من النهضة المباركة لينتقل فيما بعد إلى منطقة المدرة التي سحبت العمران من ضيق المكان إلى اتساعه، وتحولت المدرة إلى ثغر الولاية الباسم و «الداون تاون» الجديد لسمائل خاصة بعد تهدم سوقي السفالة والعلاية وقبلهما سوق الخوبار وانتقال الحركة التجارية إليها، إلى جانب المرافق الأخرى مثل جامع السلطان قابوس ومصلى العيد والمصارف والمطاعم والمولات وأسواق الخضروات والفواكه وبيع الأسماك.
وكان المستشفى في مقدمة المرافق التي تركت موقعها القديم وتعززت بكوادر طبية وفنية وإدارية. وأعود اليوم إلى أطلال مستشفى الولادة بسمائل شرق جامع الشراة وبحوار مجلس سمائل ومبنى الكاتب بالعدل لأستعيد الزمن الذي أقام سمائل قبل خمسة وخمسين عاما ولم يقعدها. لقد كانت «الدخترية» هنا تغلق غرف البيوت المظلمة وتعطل وظيفة القابلات لتدشن عصر الولادة على الأسرة البيضاء. وقبل أن أغادر المكان أغلق الباب الذي دفعته لأترك شجر الفناء يمتص بقايا المطر، والنباتات تتغذى على بقايا الأدوية والأمصال. وكان بودي أن أسأل «الدخترية» عن آخر مولود أطلق صرخة الحياة هنا. وكان بودي أن أسأل سارية العلم التي ما تزال منتصبة أمام مدخل المجمع عن اسم آخر طفل حمله أبوه بقماطه وهو «يتباعص» فجاوبتني شجيرة بالفناء أنا.. أنا .. أنا.
سمائل في الثاني من مارس ٢٠١٩م.