الثقافي
تحت ديمة القصائد في أكناف بيت السبحية أشهد الولادة الرسمية لموسوعة أمير البيان
حمود بن سالم السيابي
ليس “يوديد” الفضة وحده الذي يحقن السحب الركامية لتمطر ، بل الشعر هو العنصر الثوري الأقدر على استثارة الغيم ، وهو المُركَّب الاستثنائي القادر على ترتيب المواعيد بين الديمة وعطش البساتين.
وليس التغيير الميكروفيزيائي للغيوم وحده الذي يمكن أن ينقل الأفق من حالة الصحو بوجه عام إلى القتامة الغائمة بوجه عام ، بل الشعر ذلك المزيج المدهش القادر على تحفيز الغيم العابر للأفق وتحويله إلى منخفضات جوية وأعاصير مزلزلة.
وفي أكناف بيت السبحية أمضيتُ أولى جمعات شهر رجب الأصب وعشت نهاراً ماطراً لم تتوقف فيه ديمة الشعر عن التسكب ، لدرجة أنَّ النخل كاد يجنُّ وهو يشربُ المطر ، والسواقي كادت أن تَشْرُقَ وهي تتضاحكُ بالماء.
وكنتُ أجلس بجوار شخص أقارب شبهه لرجل أعرفه ، فَدَقَّقْتُ في قسماته فإذا به أمير البيان الشيخ عبدالله بن علي الخليلي الذي ارتاد المكان مع ديمة القصيدة وضحك السواقي وجنون النخل.
نعم إنه هو بحضوره الذي يملأ المكان ، وبملامحه التي لا تخطئها الأعين.
وإنه هو بنظارته “البيرسول” التي يخفِّفُ بها وهج الشمس وسطوع الضوء ، وبخنجره التي كثيرا ما يريحُ على قرنها يده ، وبمصرِّه الأبيض الذي تنتهي حوافه بالأهداب كقوافي القصائد ، وبعطر فريخة الدشداشة الأقرب إلى عبق تجلياته في الوادي السمائلي.
جلستُ لأملأ عينيَّ منه ، والشعراء يتناوبون في المنصة إلقاء قصائدهم ليستذكروا شاعراً ظنوا أنه غاب ، وإذا به في نفس المجلس معهم يستمع لقصائد بعضهم ويبتسم ، وتصله مصاريع بعض الأبيات فيستبق قائلها بعجز أجمل للصدر ، بل ويصحح اعوجاج بعض الأبيات التي لا تقبل الضرورات الشعرية ، ويتدخل في بعض الزحافات التي تجري مجرى العلل.
أخرج من ديمة الشعر المتسكب لأرتعَ في جنائن بيت السبحية لعلي أتفلَّتُ من حصار ما يراه البعض وهما بوجود الشيخ الخليلي ، فتتصعَّد الحقائق حين أصادفه تحت تينة حزينة لم تثمر وهو يمسِّد وريقاتها ويتمتم بكلمات لتزهر في قابل المواسم.
وأحاول العودة بعقارب الزمن إلى بكائيات ومراثي عام ٢٠٠٠ م فأفتح حنفيات مسجد رجب على آخرها لأتوضأ ، فإذا بأمير البيان يتكئ على أريكة في صرح المسجد وتحت ديمة من ظلال نخلة فرض.