في الحياة نماذج متنوعة، نصادفها يومياً، وربما دون أن ننتبه لوجودها، أو بالأصح لا ننتبه لصفاتها وسلوكياتها؛ أي بما هو عائد إلى ثقافتها العميقة والمتجذرة بداخل اللاوعي، حيث التصرفات الفردية تكون نتيجة لا سبباً، فليس هناك فعل ابتداء، بل ردة فعل، تتلوها ردة فعل، تتلوها ردة فعل، وتستمر السلسلة إلى أن تصل الأحفادَ بالأجداد، وأول الآباء بآخر الأبناء.
لعل الأمثلة كثيرة على هذا التنوع، ومن الصعب حصر الحديث ضمن دائرة محددة، ولأجل عدم التوسع؛ سيكون حديثنا عن الثقافة وأهلها، الذين من المفترض أن يكونوا “واسعي أفق” و”غير محدودي التفكير”؛ بعائق من العوائق، بينما نشاهد على العكس من ذلك، الضيق والتحيز والمحدودية ورفض أي مقترحات تأتي بها شخصيات، من خارج إطار القبيلة أو الجماعة.
ليس هنالك أفضل من البدء بالسوق المالي، والانتقال بعدها إلى السوق الثقافي؛ حيث السوقان يتناوبان على فضح الداخل إليهما والخارج منهما، ولا يستطيع إنكار الفضيحة، بل غالباً سيُرى متفاخراً بها، ومتمسكاً بحيثياتها وأسبابها، ولن يتوانى عن الدفاع عنها إذا لزم الأمر، وكأنها أمور وأفكار مقدسة، لا يجوز تحريفها أو المساس بها.
السوق المالية أو “سوق البورصة” هي أساس تعامل يومي لدى البنوك، الأمر الذي يجعلها منتجاً حديثاً، يختلف عن منتجات العصور القديمة، حيث تقوم على امتلاك جزء من شركة أو مؤسسة والتصرف بذلك الجزء بيعاً وشراء، وهو ما يماثل مقتضيات السوق الخارجية؛ أي سوق التجار والباعة المنتجين، بينما الحقيقة مختلفة.
سوق الباعة والمنتجين تمارس البيع والشراء للسلع، أما البورصة فتمارس بيع جزء من قيمة الشركة أو المؤسسة؛ بمعنى أن الذي سيشتري غالبية الأسهم ستتحقق له ملكية الشركة، ويستطيع تشكيل مجلس إدارتها، وبالتالي يكون المتصرف الأول باعتبار عدد الأسهم، أما ما يُرى فهو نقيض ذلك؛ حيث تحولت البورصة إلى المضاربة.
الهدف من المضاربة بالأسهم هو الخروج بأقل الخسائر وبأفضل الأرباح، ومن غير المعتاد رؤية أحد المضاربين يكتفي بالشراء في شركة واحدة، فالنصائح التي تصدرها البنوك توصي بالتنوع في الشراء؛ من أجل اقتناص الفرص أو البعد عن الخسائر، فما يسبب حركية السوق ويتحكم فيه نزولاً وصعوداً؛ عمليات البيع والشراء، وبدونها سوف يُغلق ولن يكون لوجوده معنى.
هَمُّ “الباعة الجدد”، أو تجار الأسهم والمضاربين هو “تكثير رأس المال”؛ أي زيادته إلى الحد الأقصى، باعتباره طريقاً مشروعاً ومباحاً ولا مانع من ممارسته، وكذلك يتميز بالسهولة والسرعة في تحقيق الربح، وسيظل هذا الهمُّ مصاحباً للمضاربين طوال حياتهم؛ إذ إن السوق يغري بالدخول إليه وعدم الخروج منه.
لا فائدة من الأموال التي يمتلكها المضاربون والباعة الجدد؛ حيث ستظل حبيسة خزائن البنوك، ولا تخرج إلا بالتقطير وبحسب الحاجة، وربما يُشاهَد مُضارب لابساً ثيابا رثة وراكباً سيارة تالفة، بينما أمواله لا تحصى داخل البورصة، فبهذا يتحول السلوك الطارئ إلى أسلوب حياة وثقافة معيش، ويظل الهمُّ تجميع الأرباح وتكثير رأس المال.
حين تُعقد المقارنة بين المثقف وتاجر البورصة أو البائع الجديد؛ سيُلحظ التشابه بين سلوكيات الاثنين، فالمثقف من ناحية يهتم بـ”تكثير رأس المال” وكنزه ويهمل الاستفادة منه، فالحصول على الكتاب وقراءته لا ينتج لا مثقفاً ولا كاتباً ذا شأن، بل جامعاً للمعلومات وكلما تنوعت قراءاته؛ ازدادت معلوماته، ولكن هذه المعلومات ليس هناك ما يربط بينها، تماماً مثلما هو حاصل في البورصة؛ حيث الأسهم لا علاقة لها ببعضها البعض.
هذا النوع من الأشخاص يسعى ليكون؛ كاتباً أو شاعراً أو مسرحياً أو فناناً، وقد ينجح في ذلك، ولكنه يعجز أن يكون مثقفا، فالثقافة؛ تعني الاستفادة من الموارد المتاحة، بما فيها الكتاب والقراءة، فإن فشل في تحقيق الاستفادة من تلك الموارد فستكون النتيجة “ضيق الأفق” و”محدودية التفكير”، ولن ينظر أبعد من قدميه.
دفعاً لأي لبس قد يحصل فالعنوان “ضيقو الأفق ومحدودي التفكير” ليس به خطأ.