مقالات

الحي يحييك والميت يزيدك (غَمْ)

حمود بن سالم السيابي
———————————

كان حلمنا أن نقرأ مجلة العربي لنطالع الدكتور أحمد زكي وهو يستشرف الحجب ليكتب “مع الله في السماء”.
وكنا نتعشق قوافي أحمد السقاف وهو يدلق مداده البنفسجي على صفحات أشهر مجلة عربية
وكان حلمنا أن نحزم الحقائب لنطوف العالم في رحلة شهرية مدفوعة التكاليف رفقة سليم زبال وأوسكار متري.

أما أستاذنا محمد بن سيف الرحبي فقد تجاوزنا كثيرا ، فانتقل بحلمه من قراءة مجلة العربي إلى الحضور اللافت كأحد كتابها ، بل وإلى استئناف أداء دور سليم زبال في الاستطلاعات الشهرية للمجلة ، وليجعل من المبدع عبدالله العبري النسخة العمانية لأوسكار متري فيطوفا العالم ونطوف مع استطلاعاتهما كلمة وصورة في سياحة أنيقة مدفوعة التكاليف.

وحتى آخر أعداد المجلة الصادرة بالأمس ما تزال التذكرة مفتوحة لمرافقة النسختين العمانيتين لسليم زبال وأوسكار متري والوجهة هذه المرة إلى البصرة الفيحاء. .
ولم تكن خطوة أستاذنا الرحبي مع مجلة العربي وليدة الصدفة بل هي صناعة ناجحة لقلم مثقل بالإنجاز.

 
ولعلكم تتذكرون جريدة الحياة اللندنية التي تصدرت “أكشاك” باعة الصحف في “الادجوار رود وكنسنجتون وكرومويل رود” ومقاهي “الشانزليزيه” وبقية الأحياء العربية في العواصم والمدن الأوروبية قبل اشتعال ثورة الإعلام الألكتروني فكان اسم أبي هشام دائم التكرار على صفحتها الأولى.
وكان ركاب الطائرات الخاصة من الساسة والأثرياء وركاب الدرجة الأولى في الطائرات يطالعون اسمه ويتوقفون عند موضوعاته وهم يقضمون البسكويت المشبع بطبقة من الكافيار.

وقبل العمل بجريدتي عمان والحياة ومساهماته اللافتة بجريدة الشبيبة كان للأستاذ الرحبي حضوره المتفرد في المشهد الثقافي وله نجاحاته الكبيرة في الكتابة الأدبية الرفيعة والمتمثلة في سبع روايات ومئات المقالات والأعمدة.
وتكفي زيارة واحدة لبيته لتعطي انطباعا بأنه أمام رجل حمل طفولته معه فكبرا معا.
واحتفظ بألعابه فشاختْ قبله.
وحافظ على تفاصيل التفاصيل من المتعلقات الشخصية لتكون نواة لمتحف شخصي وهي اليوم كذلك.

وكان الرحبي ضمن نسيج جيله وذوقه ومزاجه العام ، فأحب كما أحبوا اللون الشعبي الذي هيمن عليه ميحد حمد وعلي بن روغة وحمدان الوطني وسالم الصوري والمقيمي فاحتفظ بأشرطتهم وأسطواناتهم.
وكبر وكبر الذوق فانتقل إلى “ثومة” وفيروز والعندليب وتقاسيم الربيع.


حتى تفق والده الكند ومحزمه دخلا متحف البيت ليجاورا تفق الكسر بصيته العالي في الفوز بضرب أعواد الكبريت وبسمعته السيئة في اغتيال العقاعق وتعقُّب اللون السماوي للضاضو.
ومع ولوج الرحبي عوالم الكتابة احتفظ بأول قلم وأول محبرة وأول جهاز تسجيل وأول راديو وأول آلة طباعة وأول كاميرا شخصية وأول “بليب” وأول هاتف بل وأول كمبيوتر.

وكبر فكان السفر أغزر رافد لمتحف العمر فاغترف من أسواق المدن التي زارها أكوابا تحمل اسمها ومجسمات بأهم معالمها.
وعقب العودة من كل سفر كان ينفض جيوبه من بقايا العملات المعدنية لتتراكم في صندوق “بنكه المركزي”.

ولأنه أحد رهبان المشهد الثقافي وأحد أهم مخرجاته ومدخلاته فقد نالت حيطان بيته نصيبها من شغفه وأناقته فأفسحتْ مساحات للجداريات واللوحات العمانية والعربية والعالمية ، لدرجة أن زائره سيفكر بدفع تذكرة دخول لمتحف الفن.
وتمثل خلوته أهم أركان البيت رقم ١٥٥٩ في الأنصب حيث كتبه التي استسقاها ليكتب.
وحيث عمره الذي ذاب بين هذا الكتاب وذاك فتغير زجاج النظارات.

وفي آخر مراوداتنا لبيته بل لمتحفه مع الفيصل والهيثم كانت شجرة اللبان قد كبرت في حديقة البيت دون أن تستوحش البعد عن سمحان ، فالشيخ الرحبي غرس على بعد كيلومتر منها أكبر وأهم شجرة لبان في عمان وذلك بالدور الأول من أبراج الأنصب ، لتتداول الشجرتان العبق والتاريخ وحداء القوافل وطقوس المعابد.
فلا تضطر “اللبانتان” من سماع نشيج عبد الرحمن الداخل مع نخلة الأندلس:

نشأتِ بأرض أنتِ فيها غريبةٌ
فمثلُكِ في الإقصاءِ والمُنْتأى مثلي

سقتكِ غوادي المُزْن من صَوبها الذي
يسِحُّ وتستمري السِّماكَين بالوَبل

 

وتحت ظل شجرة لبان البيت ودعنا شيخنا وأستاذنا الرحبي ليكمل استعدادات سفره للمشاركة بمعرض طهران للكتاب.
وسيؤوب كالعادة بأكواب جديدة تضاف لمقتنياته.
وبمزيد من خردة “التُّومان” لينفضها في بنكه المركزي !! عند العودة.

إن شيخنا وأستاذنا محمد بن سيف الرحبي أحد أجمل الأمثلة التي ينطبق عليها تحفيز شيّابنا :
“الحي يحييك والميت يزيدك غم”
—————————
مسقط في العاشر من مايو ٢٠٢٣م

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق