أخبار اللبان

إسراء الحراصية تروي ما “لا يروى”

تقدم إسراء الحراصية في كتابها “لا يروى” معاناتها التي لا يمكنها أن تكون بين ضفتي عمل روائي، فالوجع الذي عانته أقسى من أن يروى، فجاءت الحكاية مفعمة بالألم، ولا يضاهيه إلا اللغة الأنيقة التي كتبت بها نزفها، وكأنها تخاطب قارئها بحجم ما عرفته من معاناة، ولكن تقدم نفسها على أنها روائية متمكنة.

ترصد إسراء الألم منذ ولادتها، فهي التي تفتتح كتابها الصادر عن مؤسسة اللبان للنشر بعنوان ولادة، وتروي جانبا من ذلك، وهي تخاطب قارئها: “مَرحبًا.. أُدعى إسْراء، أو كما يُنادوني”سرّوي”، أبلغُ من العُمرِ عِتيًّا، يُقال بأني محظوظة جدًّا لأني جئتُ إلى هذهِ الدُّنيا بعد طولِ انتظار، ولي نصِيب الأسد من الدلال كوْني الأنثى الأولى بين إخوتِي الذُّكور.

‏أُمي دائمًا تردد على مسامعِي “أنتِ فرحتي الأولى” وللأسف الشديد أني أكثر من آلامها من بين إخوتي، لأنَّ الألم وُلد معي، وفرحة أُمي وأبي بمقدمي لمْ تكتمل لهذا السبب، وبعد أربعة أشهر وأكثر من المكوث في المستشفى والأجهزة تستقر فوق جسدي الصغير، منَّ الله عليَّ بالشفاء، ووهبني حياةً جديدة لم يُبشِّر الأطباء بها والديَّ كثيرًا، لتعود بها البسمة على وجوههم.

‏ولكن الألم عاد بعد أنْ بلغتُ السادسة عشرة، الدُّموع عادت، والسهر كذلك، أُمِّي القوية لم تكُّف يومًا عن قول “حبيبتي غدًا أجمل والألم سيرحل”، لم تختفِ ضحكتها ولم أرَها عابسةً يومًا، تضحكُ بوجه كل من يراها، ولم تمتنع يومًا عن مُشاركة الأقارب والجيران أحزانهم قبل أفراحهم.

‏- أمي العظيمة تبكي لأنَّ ابن الجيران مريض وطريح الفراش، ولأنَّ جارتنا المُحببة إليها رحلت عن عالم الأحياء، وتبكي لأنَّ شابًّا لا تعرفه لقِيَ حتفه بحادث سيْر، ولأنَّ أخي لم يأتِ للمنزل في عطلة نهاية هذا الأسبوع، وتبكي لأنها شاهدت في نشرة الأخبار حال سوريا والعراق وفلسطين وغيرها، لكنَّها لمْ تبكِ أمامي يومًا لأنني أتألم، تداري دمعها كي لا يشقَّ طريقه على خدها؛ لأنها تُدرك بأنني أستمد قوتي منها، فإن اندثرت قوتها فبمن سأقوى أنا؟!”.

وتمضي إسراء الحراصية لتختار عناوينها بعناية، وبأسلوب أدبي رفيع، فهناك “أنَا ألمٌ تَسكنهُ المُقاومة” و”جُزءٌ من النص ابتلعهُ الألم” و”هذه الليلة ستمضي أيضًا”، و” نَهارٌ شُجَّ فيه قَلبي”، ووغيرها من العتبات العذبة لدخول كل جزء من أجزاء ما “لا يروى”، لكن المؤلفة قادرة على أن ترويه بعذوبة اللغة وتجلّيها، تقول في مقطع آخر: “أكتبُ بذلك الشُّعور المَمزُوج بالألَم والبُكاء وقلَّة الحِيلة، أكتب وأنا أحاوِل إزاحَة شَيء من هذا الألم العَالق بداخلي”، وتكمل الحراصية كتابتها اللألم بنص شعري تقول فيه:

أريدُ صباحًا هادئًا

لا تُكمِّمُ فاهه وَيْلات الوَجع

أريدُ خطوات ثابتة، مُتزِّنة

لا تتمايَل يُمنةً ويسرة

أريدُ أن أصعد من السُّلَّم المُؤدي

للقاعة الدراسية بلا استِناد

بجسدٍ مَرِن وخفيف

بأقدامٍ تستشيطُ قوة

أريدُ دِفئًا يُجنبني البَرد

ويُجنِّب من هُم حوله مرارة تحمُّل

الحرارة؛ خِشية أن أبرد

أريدُ جلوسًا متواصلًا دونَ اتَّكاءٍ

على الحائط

ولا يعقبهُ

تخشُّب في عظامي الرخوَة

أريدُ يدًا لا ترتعش

تكتب بتباهٍ ما تشاء

تكتب للحدِّ الذي يُصيِّرُ أحرفها

إلى أجنحة

أريدُ رأسًا يَقِظًا

وقلبًا متأهِّبًا لكل شيء

كنافذة لا تغفُو

ولا تسهُو.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق