العام
إن لم ننتبه أكثر لن تسير سلمى وحيدة في عالم الإدمان
والدتها تروي لـ «التكوين» ما حدث
لـ «فتاة تعيش في بلدةٍ نائية ووسط أسرةٍ متديّنة»
أحمد بن سيف الهنائي
قالت عنها والدتها بأنها كانت مصدر طمأنينةٍ للبيت كلّه، عُرِف عنها اهتماماتها بتعزيز الروابط الاجتماعية داخل نطاق العائلة، لا تنفكّ عن تحفيز المحيطين بها على القراءة، خصوصًا في الجوانب الأدبية والتاريخية، كانت قاب قوسين أو أدنى من نشر مذكراتها التي كثيرًا ما كانت تشاكس شقيقها الأكبر بتفاصيلها، لكنها اليوم أصبحت تميل للعزلة والاختلاء بنفسها طويلًا، فقدت حسّها الاجتماعي، وتخلصت من روابط الصداقة التي تجمعها بقريناتها إلا فيما ندر، تُطيل النوم وأحيانًا لا تستسلم له، دون وسطيّةٍ أو اعتدال؛ فهي على هذه الحال فترةً من الزمن، كما أن الحالة المزاجية متقلبة، لا ترغب في الحديث ولا يتسع صدرها لأحد.
تلكم الأعراض البادية على «سلمى» جعلت الشقيق الأكبر «سليمان» يَرتابُ في أمرها، حاول جاهدًا معرفة أسباب هذا التغير فلم يستطع، دلال والديها عطّل من سرعة اكتشاف الأمر، ما حدا به إلى تفتيش أغراضها مرةً تلو الأخرى، حيث كان «حدس» سليمان يقوده إلى وجود «مُغَيِّر» لا إرادي جعلها تبدو على هذا الوضع، حتى وقعت عيناه ذات ليلٍ على قطع شوكلاته لا تبدو مألوفة، وكأنها صُنعت محليًّا أو بطرقٍ بدائيّة، الأمر الذي قاده إلى معرفة الحقيقة بمعاونة «أحد نشطاء» التوعية في مجال المخدرات المعروفين، مكتشفًا على حين غفلة أن شقيقته ذات الــ 26 ربيعًا مدمنةٌ على «الحشيش» و»الأمفيتامينات» المخدرة، نزل هذا الخبر كالصاعقة على الأسرة المحافظة، والتي كانت مضرب المثل في الأخلاق والالتزام و «المكانة الاجتماعية».
والدة «سلمى» وهي تتحدث لــ «مجلة التكوين» وصفت الأمر بالفاجعة، وقد بدا عليها الارتباك الشديد وهي ترغب في إيصال رسالتها للمجتمع، لعلّها تسهم في نشر الوعي، فتقول: «لم يخطر لنا ببال أن نقع في هذا المأزق، بذلنا كل ما في وسعنا لتنشئة أولادنا تنشئة صالحة، لم ندّخر وسعًا في تربيتهم على القيم والمثل والمبادئ، وقد عُرف عن الأسرة ارتباطها الديني، حتى اللحظة فإني أشعر بالذهول، ليس «سلمى» من تسلك هذا الطريق، ولا أدري على من أُلقي باللائمة».
وتضيف: «كانت سلمى القلب النابض داخل هذا البيت، في داخلنا الكثير من الأمل لمستقبلٍ رائعٍ ينتظرها، لكن الآن ازداد حجم الألم وغاب الأمل، حالة الشرود الذهني التي رافقتها طيلة الفترة الماضية جعلتنا نشكُّ في أمرها، ساورتنا حولها الكثير من الشكوك، لكن لم يخطر لنا ببال أنها ستلجأ إلى هذا الطريق، وأعترف أننا لا نعرف شيئًا عن المخدرات، وكنت لا أصدق قبل هذا أن نسبة من فتياتنا قد سلكن هذا الطريق»..
تواصل تنهداتها، وتشعر أن العار قد لحق بها، إذ تقول: «يتنازعني الآن شعوران ممضّان؛ شعور الشفقة عليها والرغبة الكبيرة في إنقاذها، والشعور بالعار والخزي ومخافة أن يفتضح أمرها، وهو ما لا يحتمله والدها، ما جعل إخوتها يفكرون بالهجرة إلى بلدٍ آخر، سعيًا للعلاج وخشية الفضيحة، فنحن في مجتمعٍ لا يرحم، وما الإدمان إلا جرمٌ لا يغتفر، ولا أحد ينظر إليه على أنه مرضٌ وابتلاء، فكيف إذا اجتمع هذا كله في فتاةٍ تعيش في بلدةٍ نائية ووسط أسرةٍ متديّنة».
وتكمل: حياتنا تحولت إلى جحيم لا يطاق، لا تتسع الصدور لبعضها، أصبحت العصبية هي المسيطرة على أجواء الأسرة، في حين أن بعض إخوتها لم يتقبّلوا الأمر، وهذا ما يقلقني كثيرًا، إذ تتعرض سلمى للقسوة اللفظية من قبلهم، ما يزيد الطين بلة أن والدها يرفض فكرة معالجتها في السلطنة، خشية الفضيحة، ويبدو أن الهروب إلى أمريكا للعلاج هو الخيار الأقرب، ما يعني أننا مقبلون على أوضاعٍ ماليةٍ متعسرة، خصوصًا وأن فترة العلاج ستطول حسبما عرفنا، إضافة إلى أنها بحاجة إلى تهيئةٍ نفسيّةٍ مصاحبة لذلك، وهذا لا يتم إلا من خلال مصحّة نفسيّةٍ متخصصة».
الدخول إلى عالم الإدمان قرارٌ في بالغ الصعوبة، لا يأتي على عجل، بل تسبقه مؤثّرات ومغريات، وفي حالة «سلمى» فإن «الرفقة» المشؤومة كما تشير والدتها هي من جعلتها تدخل إلى هذا المغمار، مؤكدةً أن: «الأسرة لم تتمكن من استجوابها، لمعرفة الطريقة التي تم خداعها بها، ذلك أنها ظلت متكتمة على الموضوع، رافضة بأن تنبس ببنت شفة».
وبكثير من الألم تصف لنا لحظة مكاشفة ابنتها بالحقيقة، قائلةً: «اجتمعنا جميعًا بها، وهي كانت تشعر بغرابة التجمّع، وللأسف فإنه من النادر أن تجتمع الأسرة في صالة المنزل إلا لأمرٍ جلل، هنا كنت أرقبها، وأشعر بأن سكينًا مسنونةً تُقطّع كبدي، كانت لحظة موجعة، شعرت بضعفها، وقلة حيلتها، رأيت الشرر يتطاير من أعين إخوتها، فلم أستطع سوى احتضانها خشية أي تصرفٍ لا يحمد عقباه، قضت ليلتها تتقلب في بكاءٍ وعويل، وأنا واقعة بين نارين، والحال أصعب من أن تحويه كلمات، وأقول في نفسي إلى أين نرمي بفلذات أكبادنا بسبب إهمالنا وتقصيرنا في الاقتراب منهم ومتابعتهم؟!!، آمل أن تراجع كل أمٍّ سياستها في مراقبة أبنائها واحتضانهم ومصادقتهم، فأنا لا أبرّئ نفسي ولا أتنصّل من المسؤولية، فأنا المذنبة بتقصيري وليست هي».
خلال الفترة المنصرمة، تشعر الأمّ المكلومة بأن ابنتها تعيش مرحلة عمريةً قاسية، وهي على مفترق طرق، إما أن تستجيب للعلاج، وإما أن يزداد وضعها سوءًا، وفي كل الأحوال فإن الحالة النفسية لفتاةٍ في مثل عمرها، وعطفًا على ما تملكه من وعيٍ واطلاع، فإن خطر الإدمان يجب أن لا يستهان به، ما يعني أن ننتبه جيدًا لأبنائنا، دون أن تَعْصِبَ الثقة المفرطة أعيننا، ولنكن أكثر تأهّبًا لاتباع كل سبل الوقاية الممكنة.. بتلك الإيحاءات والدعوات ودّعتنا أم سلمى وهي ترجو الخلاص لنبض قلبها وماء عينها -ابنتها- التي تعيش أقسى لحظات الحياة.
حاولنا محاورة «سلمى» لكنها رفضت الحديث، في حين صبَّ «سليمان» جام غضبه على مؤسسات المجتمع المدني، في ظل تراجع دور التوعية الاجتماعية قائلًا: «من يستمع إلى الإعلام، يشعر وكأن السلطنة خالية من هذه الآفة، إذ لا يتم التطرّق إلى مثل هذه المواضيع إلا على استحياء، ولا أدري لماذا، هل بسبب تقاعس الإعلاميين أو عدم الشعور بانتشار هذه الظاهرة؟ في السابق كنا نسمع عن حراكٍ مجتمعي فاعل، سمعتُ أيضًا عن جمعيةٍ متخصّصة وعن فرقٍ تطوعيةٍ تعمل على التحذير من أضرارها، لكن اليوم الجمعية المتخصصة قد أغلقت، ولا نسمع ذِكرًا للمتطوعين والنشطاء في هذا المجال، هذا الغياب لا أجد له تفسيرًا».
ويكمل: «بحكم مصابنا مع سلمى، التقيت بعددٍ من المتخصصين والنشطاء في هذا المجال، وعرفت أن الإدمان منتشرٌ بين أوساط الشباب من الجنسين، وأن المحاكم ملأى بمحاسبة المتعاطين والمتاجرين، بيد أن المجتمع لا تصله هذه الأخبار، كيف للأسرة أن تنتبه لهذا التفشي إذا لم ترتفع أصواتنا جميعًا لمحاربته؟ أعرف أن هناك جهات متخصصة تعمل بكدٍّ لمحاربة هذه الآفة، لكنها تعمل بصمت، وهي بحاجة ماسّة إلى الآلة الإعلامية ونشر التوعية بأساليب متطوّرة، مع أهمية استغلال مواقع التواصل الاجتماعي بقوّة، فالشباب هم عماد الأمة، ولن تقوم أية أمة وشبابها مخدرٌ ومغيّب».
ينهي سليمان حواره قائلًا: «أشفق على سلمى كثيرًا، كانت زهرةً مضيئة، وما أخشاه أن اكتشافنا للأمر جاء متأخرًا، ولهول الصدمة أصبحت أراقب حتى أخواتها الصغيرات خشية أن تكون العدوى قد طالتهن، وبصدق، تعيش الأسرة معاناة كبيرة، ولا ندري كيف سنتجاوز الأمر، فهو في حقيقته كارثة وإن حاول البعض تقزيمه أو تهدئتنا بأنه مجرّد مرضٍ قد يتعرض له أيٌّ منا، لكن الحقيقة أننا جميعًا مقصّرون في حق أسرنا ومجتمعنا، وعلينا أن نعيد ترتيب أوراقنا، وهذه نصيحتي للجميع: علينا أن نقترب أكثر من أحبّتنا وأفراد أسرتنا، وإلا سننهار جميعًا».