الثقافي

قيد الأرض سيف بن سلطان الأول

يمثل تولي الإمام ناصر بن مرشد(1) إمامًا على عُمان عام 1624م بداية حكم اليعاربة. وقد تمكن من خلال توحيد البلاد تحت قيادته للمرة الأولى منذ سنوات عديدة وعبر تجهيز أسطول بحري قوي من تقليص نفوذ البرتغاليين وتحرير بعض المدن الساحلية منهم. وتعد دولة اليعاربة في عُمان أولى الوحدات السياسية العربية في منطقة الخليج العربي عند مطلع العصر الحديث، إذ برزت ككيان سياسي مستقل نجح في توحيد أجزاء البلاد، كما نجحت في إخراج المستعمر الأوروبي مما مهد السبيل أمام عُمان لبسط سيطرتها على أجزاء مترامية في منطقة الخليج العربي وعلى امتداد الساحل الشرقي لأفريقيا بفضل القوة البحرية الكبيرة التي امتلكتها.

عماد بن جاسم البحراني
باحث وكاتب في التاريخ

وبفضل هذه المرحلة ًاصبحت عُمان أقوى دولة بحرية في المحيط الهندي، وبسطت نفوذها من الخليج إلى شرق أفريقيا. وعلى الرغم من النجاح الكبير الذي حققته دولة اليعاربة، إلا أنها واجهت مشكلة النزاع الأسري والصراع القبلي التي أخذ يفتك في عضد الدولة اليعربية منذ قيامها، وتواصل بعد ذلك حتى إنهارت الدولة اليعربية في عام 1744م.
قيد الأرض
هو لقب سيف بن سلطان بن سيف بن مالك اليعربي، الذي بويع بالإمامة في عمان بعد وفاة أخيه الإمام بلعرب بن سلطان(2)سنة 1692م. وقد لقب بقيد الأرض لأنه تمكن من ضبط الأمور والحفاظ على الدولة وأملاكها في الداخل والخارج ونشر العدل والإستقرار والرخاء في ربوع عُمان.

عارض سيف بن سلطان أخاه بلعرب بن سلطان في نهاية عهده وخرج عليه. ولم تحدد المصادر العمانية أسباب هذا الخلاف بين الأخوين، إلا أن الثابت تاريخيًا أن الخلاف بينهما حدث بعد إبرام الإمام بلعرب اتفاقًا مع البرتغاليين، وبموجبه سُمح لهم الحق في إنشاء وكالة لهم في مسقط، وبناء حصن لهم في خصب إذا رغبوا في ذلك. كما منح رئيس الوكالة في مسقط راتبًا من قبل الإمام. وذلك مقابل السماح للسفن العمانية بزيارة الموانئ البرتغالية في الهند والتزام البرتغاليين بدفع الرسوم الجمركية في مسقط.
أثارت هذه الاتفاقية غضب سيف بن سلطان وأعرب عن معارضته لها ولأي شكل من أشكال التعاون مع البرتغاليين. ثم أعلن خروجه على الإمام بلعرب وطالبه باعتزال الحكم.
حيث تمكن سيف بن سلطان من السيطرة على مسقط، ثم حاصر أخاه بلعرب في حصن جبرين، وفي عام 1692م توفي الإمام بلعرب فأصبحت السلطة بيد أخيه سيف وتم تجديد البيعة له بعد مبايعته للمرة الأولى أثناء صراعه مع أخيه بلعرب قبل وفاة الأخير.
وبعد توليه الإمامة، قام سيف بن سلطان بالاهتمام بالجيش والأسطول البحري وتطويرهما استعدادًا لمواجهة البرتغاليين في الهند وشرق أفريقيا ولاحقًا الهولنديين والانجليز؛ ولذلك لقب بقيد الأرض لضبطه البلاد وتقييدها بالعدل والمساواة.
ارتكزت سياسة قيد الأرض الخارجية على تجديد الصراع ضد البرتغاليين في الهند وشرق أفريقيا، حيث تعود جذور الصراع العماني البرتغالي إلى عام 1507م عندما غزا البرتغاليون عمان والخليج العربي واحتلوا المنطقة مدة قرن ونيف. حتى استطاع العمانيون بقيادة الإمام ناصر بن مرشد -مؤسس دولة اليعاربة- طردهم من كل مناطق عمان عدا مدينتي مطرح ومسقط، حيث وافته المنية قبل أن يتمكن من تحقيقه هدفه في عام 1649م.
وقد أكمل هذه المهمة الوطنية خليفته وساعده الأيمن سلطان بن سيف(3) الذي بويع بالإمامة خلفًا لناصر بن مرشد. وقد نجح الإمام سلطان في طرد البرتغاليين من مسقط -آخر معاقلهم في عمان- وذلك في 23 يناير 1650م، ثم واصل الكفاح ضدهم في الهند وساحل أفريقيا الشرقي، مما أضعف قوتهم في تلك المناطق.
مسقط قديمًا
أما فترة بلعرب بن سلطان الذي خلف أباه سلطان بن سيف الأول فقد شهدت هدوءًا في النزاع العماني البرتغالي، لميل الإمام بلعرب إلى السلام واهتمامه بنشر العلم والعمران في البلاد.
في عهد سيف بن سلطان الأول (قيد الأرض) أستؤنفت الحملات البحرية العمانية ضد البرتغاليين، ففي عام 1693م أرسل الإمام سيف الأول أسطوله لمهاجمة جزيرة سالسيت قرب بومباي ومدينتي بارسلور ومنجلور، وفي سنة 1694م هاجمت خمس سفن حربية عمانية على متنها 1500 مقاتل ميناء كنج الفارسي، واستطاعت السفن العمانية تدمير الوكالة البرتغالية في كنج والحصول على غنائم وفيرة أبرزها أسر سفينة تجارية محملة بالبضائع كانت موجودة بمرسى الميناء. وقد عبر المقيم السياسي البريطاني في بندر عباس عن مخاوفه من تنامي قوة عُمان في عهد «قيد الأرض» بقوله سنة 1694م: «إنهم سيثبتون أنهم كارثة كبرى في الهند كالجزائريين في أوروبا».
كما أشارت السلطات الفارسية إلى تفوق العُمانيين في تلك الفترة من خلال مذكرة رفعتها إلى الحكومة الفرنسية جاء فيها: «إن تمتعهم بموقع جغرافي مهم يتيح لهم الفرصة للسيطرة على الخليج وهذا يفسر قوة العُمانيين الذين تمكنوا بما يناهز الثلاثين قاربًا من الاستيلاء على الغنائم».
وفي عام 1696م أرسل الإمام «قيد الأرض» أسطولًا مكونًا من سبع سفن كبيرة تحمل 3000 مقاتل إلى ممباسا لتحريرها من يد البرتغاليين، واستمر حصار ممباسا مدة ثلاثة وثلاثين شهرًا، وقد تمكن العمانيون من السيطرة على قلعة ممباسا (يسوع) في ديسمبر 1698م. وفي فبراير1700م شن الأسطول العُماني هجومًا جديدًا على جزيرة سالسيت ثم على دامان في 1704م، مؤكدًا بذلك سيادته على المحيط الهندي.
الأسطول البحري العماني
وخلال هذا العهد بلغت البحرية العمانية أوج قوتها، وشكلت قوة هابها الأوروبيون. حيث هاجم الأسطول العماني السفن الهولندية في الخليج، واستطاع تحجيم الدور الهولندي المتنامي في المنطقة الذي كان يسعى لوراثة النفوذ البرتغالي في الخليج.
أبرز منجزات قيد الأرض الحضارية
على رغم من تركيزه على الجوانب السياسية والعسكرية إلا أن «قيد الأرض» لم يهمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، ومن أبرز أعماله الحضارية في عمان، قيامه بحفر أفلاج جديدة تزيد على خمسة عشر فلجًا كفلج البركة وفلج البزيلي في الظاهرة وفلج الحزم بالرستاق وأفلاج جعلان بني بوحسن.
كما اهتم الإمام سيف بن سلطان الأول اهتمامًا كبيرًا بالزراعة، حيث كان يشرف بنفسه على عملية الزراعة وسيرها. حيث توسع في زراعة المحاصيل كالقمح والشعير والحلبة والخضروات وقصب السكر. وغرس كذلك عددا كبيرا من أشجار النخيل والفواكه كالأنبا (المانجو). ونتيجة لذلك اتسعت الأراضي الزراعية المملوكة لبيت المال وزادت إيرادات الدولة. واستمر قيد الأرض في حكم عُمان حتى وافته المنية في عام 1711م بمدينة الرستاق.
الهوامش: (Endnotes)
1 . الإمام ناصر بن مرشد اليعربي (1624- 1649م): لا تحدد المصادر تاريخ مولده أو نشأته العلمية، وقد أجمع أهل الرأي على ضرورة تنصيب إمام جديد عقب حالة الفوضى التي شهدتها عُمان عقب الغزو البرتغالي، وقيام حكومات متفرقة على يد زعماء القبائل، فوقع الاختيار على ناصر بن مرشد بن مالك اليعربي في 1034هـ/ 1624م بالرستاق. سعى الإمام في بداية حكمه إلى توحيد البلاد، وبعد أن توطدت له الأمور الأمنية والسياسية بدأ يعد العدة لمواجهة البرتغاليين، فحاصرهم في صحار وطال الحصار حتى تمكن من إخضاعها في 1643م. ثم بعث جيشًا بقيادة مسعود بن رمضان لإسترداد مسقط ومطرح، فوصل الجيش إلى مطرح ومحاصرتها، وانتهى الحصار بعقد هدنة بين الطرفين. كما تحررت أيضًا صور وقريات. ولم يتبق للبرتغاليين عند وفاة الإمام سوى مسقط ومطرح وحصن في صحار. حقق الإمام ناصر بن مرشد خلال إمامته لعُمان إنجازين مهمين هما: توحيد البلاد وإنهاء النزاعات الداخلية، والثاني طرد البرتغاليين من أغلب عُمان.
2. بلعرب بن سلطان اليعربي (1680 – 1692م): نشأ وترعرع في كنف والده الإمام سلطان بن سيف، فكان لذلك أثر على ملازمته له فتعلم منه العلوم الشرعية إلى جانب الشؤون الإدارية.عينه والده واليًا على مسقط بعد تحريرها من البرتغاليين سنة 1649م ثم واليًا على الرستاق سنة 1675م. بويع بالإمامة بعد وفاة والده عام 1680م، وقد ركز الإمام بلعرب على النهوض بعُمان من الناحيتين الاقتصادية والعلمية، فأنشأ سوق منح وطور سوق مسقط، كما اهتم بالإعمار والبناء حيث عمر بلدة جبرين وعمق فلجها واستصلح أراضيها، وبنى حصن جبرين وأخذ مقامًا له وأنشأ فيه مدرسة.
3 . الإمام سلطان بن سيف اليعربي (1649 – 1680م): بعد وفاة ناصر بن مرشد بويع سلطان بن سيف اليعربي بالإمامة في 22 أبريل 1649م، وباشر الإمام الجديد بعد مبايعته العمل على تصفية الوجود البرتغالي، وأثناء الحصار الذي ضربه العمانيون على مطرح ومسقط، تلقى الإمام معلومات من نروتم البانياني مكنته من دخول مسقط في يناير 1650م بسبب انشغال البرتغاليين باحتفالات رأس السنة الميلادية، فحاصرت قوات الإمام قلة الجلالي مما اضطر البرتغاليين إلى الانسحاب وهذا ماحدث كذلك في مطرح فتحررت عُمان من السيطرة البرتغالية. ولم يكتف الإمام سلطان بن سيف بطرد البرتغاليين من عُمان، بل تتبعهم في المحيط الهندي، حيث هاجم الأسطول العُماني المواقع البرتغالية في مومباي وديو واستثمر الإمام الأموال التي غنمها من معركة ديو في بناء قلعة نزوى والتي استغرق بناؤها اثنتي عشرة سنة. وفي عهده أصبح ميناء مسقط محور التجارة عبر الساحل الغربي للمحيط الهندي، كما بلغ الإنتاج الزراعي المحلي مستويات كبيرة بسبب اتمام سلطان بن سيف الأول بإصلاح أنظمة الري التقليدية ( الأفلاج) وإليه يعود الفضل في إنشاء فلج البركة بين نزوى وإزكي.
المصادر والمراجع:
الأزكوي، سرحان بن سعيد. تاريخ عُمان المقتبس من كتاب كشف الغُمَّة الجامع لأخبار الأمة، تحقيق عبد المجيد حسيب القيسي، وزارة التراث القومي والثقافة، مسقط، 1980م.
السالمي، نور الدين. تحفة الأعيان في سيرة أهل عمان، ج2، مكتبة الإمام نور الدين السالمي، مسقط، 1995م.
السيابي، سالم بن حمود شامس. عُمان عبر التاريخ،ج 1، وزارة التراث القومي والثقافة، مسقط، 1986م.
السيار، عائشة علي. دولة اليعاربة في عمان وشرق أفريقيا، ط2، دار صحف الوحدة، أبو ظبي، 1992م.
المسكري، سيف بن عدي. الإمامة والصراع على السلطة في عمان أواخر دولة اليعاربة (1131ه/1719م-1162ه/1749م)، بيت الغشام للنشر والترجمة، مسقط، 2015م.
عاشور، سعيد عبد الفتاح. تاريخ أهل عُمان، وزارة التراث القومي والثقافة، ط 2، مسقط، 1986.
غباش، حسين عبيد غانم. عمان الديمقراطية الاسلامية: تقاليد الامامة والتاريخ السياسي الحديث (1500-1970)، ترجمة: انطوان حمصي، منشورات دار الجديد، ط1، بيروت، 1997م،
قيصر، عبد الله بن خلفان. سيرة الإمام ناصر بن مرشد، دار الحكمة، لندن.2002م.
وزارة الاعلام، عُمان في التاريخ، دار أميل للنشر، لندن،1994م.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق