الثقافي

مأساة شاعر

أ.محمد الحميدي

 

   ثمة قصة قديمة تُروى من باب أخبار العرب وطرائفهم، فذات يوم نبغ شاعر في قبيلة مغمورة، واستطاع نطق بعض الأبيات، ولأن القبيلة لم تنجب قبله من شاعر، فإنها أقامت الولائم، وأسرفت في تقديم الذبائح إلى القدور، واجتمع الناس، من شتى القبائل، واحتفلوا بميلاد هذا الشاعر المستقبلي.

   حين وُضعت الأطباق على الموائد، وشمر المدعوون عن سواعدهم؛ استعداداً لالتهام الوليمة، إذا بالداعي إليها يطالبهم بالتريث، كي يتهيأ الشاعر، ويلقي على أسماعهم أبياتاً، تكون خير ختام لهذا المساء، إلا أن الشاعر الشاب، والذي لم تعركه السنون والأيام، ولا صقلته التجارب، تلجلج، وارتج، ولم يستطع!

نظر المدعوون ناحيته، وأخذوا يتهامسون، وأسقطوه من حسبانهم، فلا شاعر إلا صاعد منبر، ولا خطيب إلا ذو رأي سديد، أما أمثال المدَّعين بالعلم وهم ليسوا بعلماء، فكثيرون، ويعجز اللسان عن إحصاء أسمائهم، وبينما هم في وليمتهم الفارهة، كان الألم واليأس ينهش قلب الشاعر الشاب.

   اتخذ لنفسه زاوية، وأخذ يبكي، ويجهش، وينوح، ويتمنى لو ابتلعته الأرض وما تعرض لمثل الموقف الذي تعرض له اليوم، ولام نفسه كثيرا، وفقد ثقته بموهبته، واستبد به خوف شديد من عقاب ظالم قد يُقدم عليه زعيم القبيلة عقب انصراف الحضور، فقرر في داخله أمراً.

   حيث استل أنفاسه ونفسه من بين الحشد، وزعماء القبائل وسادتها، وأطلق رجليه للريح، هارباً من مصير مجهول، ومتجهاً إلى آخر لا يعلم عنه شيئاً، وهناك في الصحراء، نصب خيمته واستقر بداخلها، وظل يترقب المارة ويتساءل عن أخبار قبيلته وما الذي حل بها، فالدم لا يتحول إلى ماء، ولو بعُد الزمان.

   أما الأخبار الواردة فقد أكدت على أن زعيم قبيلته أخذ يبحث عن شاعر شاب هرب منها والتجأ إلى مكان غير معروف، وهو يريده بشدة، بل قد أجزل العطاء لعدد من الفرسان، وحثهم على الإسراع في العثور عليه، فلم يجد أمامه من خيار غير معاودة الهرب والابتعاد عن مضارب القبيلة أكثر.

وصل إلى منطقة نائية، وأرض قاحلة، وقبيلة غير مشهورة ولا تمر القوافل بجوارها، فقرر البقاء، وادعى الضياع وعدم معرفة الطريق، وحين سُئل عن أصله وفصله؛ انتسب لقبيلة وهمية لا وجود لها، فهناك سكن، وعاش بين ظهرانيهم، وتزوج من إحدى فتياتهم، ومارس الرعي وسوق الإبل.

   بمرور الوقت تفتحت قريحته الشعرية أكثر، وصادفت البرد القارس، والليل المزين بالنجوم، والرياح العاتية التي اقتلعت مضاربه ومضارب القبيلة، وقرر العودة للشعر، وعدم الركون إلى ضعفه، وقلة حيلته، وهنا أخذ يتأمل النباتات والكائنات والنجوم والقمر ويتخيلها حوريات تسبح في رمال الصحراء الحارقة.

   انجرف خلف تهيؤاته وتصوراته وبدأ في نطق الكلمات الأولى، بعد جفاف قاحل مر على قريحته وجفف ماءها وأشعارها، فبُهتت قبيلته الجديدة حينما سمعت أحاديثه، والتفَّت حوله وسألت عن أحواله ومقاماته، فما كان منه إلا قول الشعر في مديحها ومديح زعيمها.

   انطلق لسانه، واعتاد قول الشعر في كل مناسبة، وبات فخراً لقبيلته الجديدة، التي بلا فخر، ولم تعتد أن تكون في مرتبة عالية بين القبائل، وهنا حيث ارتفعت مكانتها، أصدر الزعيم قراره الحازم بحل خيامها ومضاربها والاستعداد للرحيل، فاستمعت النساء والرجال والأطفال وتهيأوا للسير ناحية المجهول.

   أما الشاعر الشاب فأخذ يترنم بأبياته ويستعيد حياته السابقة ويحن لمضارب قبيلته الأصلية، ولكنه خشي عقاب زعيمها وغضبه من هروبه، فما كان منه إلا الحذر والخشية، إنما القدر لا يتوقف عن ملاحقة المبدعين أمثاله، إذ سرعان ما انتشرت أخباره وشاعت بين القبائل، وحضرت الوفود لرؤيته والاستماع إليه.

   حضر وفد قبيلته وزعيمها، فاضطرب وخشي على نفسه وقبيلته الجديدة، لكنه لم يختبئ، واستقر رأيه على إعلان الحقيقة، وتحمل نتائجها، مهما كانت، وفي نهاية احتفالاته واحتفالات الحضور، أخبرهم بحقيقة هويته، وأنه الشاعر الهارب من قبيلته، فما كان من الحضور إلا الضحك.

   أخبروه بدورهم أنهم يعلمون ذلك، وما القبيلة الجديدة إلا فرع من القبيلة السابقة، قد أحكموا خططهم على إنضاج شعره وشخصه، وأرسلوا إليه من يهتم بأمره، فأدرك خطأه وأن الهروب ليس حلا مثاليا والمبدع والموهوب قد لا تهتم به قبيلته في الظاهر لكنه تحتفي به من وراء الستار.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق