وعن دروب الغاف التي تضج بأحاديث الموتى فتقشعر لها الخطوات وتُرَاع رابعةُ النهار.
وفتَّشْتُ في “نجار الكلمات” عن الخشب النَّخر لدرايش “بيوت طوي الحضارمة والصعبتين” وقد خذلته الأيدي التي لم تعد تستفز قتامته الباردة بزغاريد الحناء.
وساءلتُ “نجار الكلمات” عن “مسكد العودة” وعن صلابة خشب شجر البيذام الذي يرتوي بوضوء المصلين في مساجد “حلّة ميابين” وعن عنفوان خشب السدر في “حلة التكية” الذي يتغذى على الأجداث.
وعن أخشاب بوابات الرقعة المنقوعة في الرطوبة المالحة لمدينة تتنفس زرقة البحر لتصحو
وتقتات على رضاب الموج لتجر نعاس المساء.
ولأن المداد عصفنا الذهني الذي نحْذي به “فراريخ دشاديش” من يبشُّون دروبنا الصباحية بالابتسامات أو يشيحون بفراريخهم عنَّا لأجل عبق يحمل اسم “براند” يُشَمّ على بُعد قارات من الأمنيات ، فإن انزواء الأماكن لا يتقاطع و”العنونة” الحميمية لجغرافيتتا ، فنحن في “دولة الكون” وفي “جمهورية العالم” حيث تتشابه أوجاعنا وهمومنا وانفعالاتنا وقضايانا وأمانينا.
حتى النجَّار “فليت” الذي لم “تقضم روحه الزنازين” يتكرر في ألف “فليت” في هذا العالم.
وله مع الخشب ذات الرؤية بأن “الأشجار لا تموت بل نعيد ولادتها”.
وأنه “لا توجد شجرة تشبه الأخرى”.
وأن “كل قطعة ننحتها يجب أن تكون فنَّاً”.
وأن “بعض الخشب لا يتعفن ولا يموت عطره”و”الرُّمّة تخجل من أن تأكله”.
وبما أن النجار”فليت” يجلس الآن في أحد المقار الحكومية وخلفه طاولة رسمية من خشب معالج فعليه أن لا يتبرم من “التدوير” فنحن في دولة العالم ، حيث التدوير نمط حلولها الجاهزة.
وتتكشف لنا في “نجار الكلمات” حقائق أشخاص تخفر سكناتهم وحركاتهم” الدروع” فتتفسر تلك الدروع لاحقاً بأنها “لدواعي ضرورات مرض السكر” وقد تعطلت الحاجة لها بعد انتهاء التكليف الوظيفي.
وكان الكاتب الكبير الشيخ يوسف بن إبراهيم الكندي موجعاً وهو يسرد حكاية مستجوب الكائنات الذي مضى في استجواب عدد منها حتى وصل المستجوب عند “الدُّودْ” ليجيب الدُّود إن مهمته تتلخص “في تنظيف الفوضى”.
وتحت عنوان “الكلمات والقنوات الرسمية” ينبِّه الكاتب الكندي من الاتكاء على “ذاكرة الأسماك فهي للسذج فقط”.
أو على من يجعلون “الخبث شيخ طريقتهم فلا يسمحون للكلمات بالخروج إلا في الظلام الدامس.
ويدعو الشيخ يوسف الكندي “الحالمين بهطول المطر” ، أن يعرفوا بأن “الماء ربما يردع الكلاب التي تخاف من البلل”.
وفي “نجَّار الكلمات” نطالع مفردات إنسانية سحقتها الظروف فنشفق لرؤيتها على أنفسنا بما تمثله من تهديد موارب قد يتكرر فينا يوماً.
ويسرد الشيخ يوسف الكندي حكاية “حقيبة خليفة” الذي يمخر زحام سوق الداخل وهي متكومة على ظهره ، وقد جاهد الفضوليون لفتحها بأسئلتهم لتتكشف بعد رحيله بأنها كانت محرد مخزن أدوية يتنقل معه ، ليختم يوسف الكندي السطر الأخير للنص: “آه لو يعلم خليفة أن الضحك عليه قد توقف أخيرا”.
وتحت عنوان “أطفال الحياة” بدا الشيخ يوسف الكندي متفائلا وملهما ف”الحياة برمتها لعبة جميلة تستحق أن تعاش” ولذلك تخلَّص عامر من زجاجات الدواء وهو يقول: “إن الموت يبحث عن رجل مريض”.
ورغم الضربات الغائرة لمخارز قلمه وللكوميديا السوداء التي طبعت أغلب النصوص وللمكاشفة الجارحة أحيانا والمواربة في بعض الأحيان فإننا أمام كاتب كبير أمتعنا بأربعة وخمسين نصا من الجمال ، نثرها عبر ١١٩ صفحة من القطع الصغير لتضاف كواحدة من منجزات دار لبان الشامخة الناشرة لكتاب “نجار الكلمات”.
وكما بدأتُ أختم فإننا في “دولة الكون” و”جمهورية العالم” ومن الطبيعي أن نتشابه في الألم.