الثقافي

“أحبائي” حكايات بغدادية بالحبر الأسود

عبدالرزاق الربيعي 

أكثر من لقاء جمعني بالكاتبة نيران السامرائي المقيمة بلندن، وجميع تلك اللقاءات جرت في «مسقط»، وقبل ذلك قرأت لها، وعرفت اهتماماتها بالمخطوطات الإسلاميّة،  وتصميم الأزياء، إذ درست ذلك في كلية الفنون الملكية البريطانية، وأسست دارا للأزياء في لندن عام 1985م، وقدّمت عروضا حول العالم، عرفتها كاتبة، وأعرف والدها الشاعر «نعمان ماهر الكنعاني»، وقد ورثت منه حبّ الشعر، والكتابة، فكان كتابها الأول « شهدت اختطاف وطن» الصادر عام 2011 الذي تحدّثت به عمّا جرى في العراق بعد2003م، منطلقة من حادث اختطاف زوجها «أحمد الحجية» رئيس اللجنة الأولمبية السابق، قبل عشر سنوات، خلال اجتماع للجنة، وانقطع خبره لليوم.
ويأتي كتابها  الجديد «أحبّائي» الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات، والنشر ببيروت،  لتواصل نبش ذاكرتها بمدونة تداخلت بها النصوص الشعريّة بالسرديّة، وفي تراثنا الكثير من الكتب التي حصل بها هذا التداخل، ولعل أشهرها «الف ليلة وليلة»، فقدّمت «نيران السامرائي»  صورة مشهدية لما كان، وما تتمناه أن يكون بقلم كاتبة تحمل في ذاكرتها، وطنها، وطفولتها، والأمكنة التي لاتزال تسكنها، والشخصيات التي تطوف في مخيلتها.
في قصة «حكاية من بغداد» تتحدث عن مرحلة مفصلية من تاريخ العراق تمثّل بسقوط الملكية في 1958 وتتطرّق إلى الظروف التي أعقبت ذلك، وتأتي على ذكر حكاية لقائها  بالزعيم عبدالكريم قاسم عندما كانت طالبة في ثانوية الحريري للبنات إذ «كان الزعيم يستقبل وفودا مختلفة من أبناء الشعب للتحاور معهم في ما يخص المرحلة الجديدة»، كما تقول، مضيفة «في شهر ديسمبر 1958 تم تحديد موعد لمدرستنا بعد توسط أبي الذي كان السكرتير الصحفي للزعيم» وتسرد انتظارها مع الطالبات والمعلمات لقاءها بالزعيم وتقول: « بعد حوالي نصف ساعة فتح الباب واقتحم الزعيم الغرفة كالزوبعة، وعيناه تدوران في محجريهما وهو ينظر إلينا كمن يفتش عن شيء ويلوح بيده بسرعة وعجالة ومرحّبا» وتقول: «بعد لحظات تفكير سريع رفعت يدي قائلة: أنا عندي سؤال، التفت نحوي مشجعا، ما  اسمك؟ -نيران
أهلا بنيران بنت أخي، بعدين ناخذ صورة سوا اسألي.
-سيادة الزعيم، ليش عبدالسلام عارف محبوس؟ وما جريمته؟
تضيف:» وكأنني فجّرت قنبلة مولوتوف اهتزت لها أركان القاعة بالصمت، أما الضباط الواقفون خلفه فصاروا يتلفتون بعضهم إلى بعض، وفغرت الدهشة أفواههم»
وكان جوابه: «راح نعلن وراح تشوفون بالتلفزيون ووسائل الإعلام ..» ثم وقف فجأة وأضاف» أهلا بيكم، آني أريد أن تهتموا بدراستكم فقط. وين المصور؟ خلي نأخذ صورة للذكرى».
ورغم هذه الصورة التي رسمتها للزعيم إلا أنها تقول عنه: «كان نزيها عازفا عن امتلاك أي شيء، فطوال فترة حكمه التي امتدت أربع سنوات عاش معظم الوقت في غرفة متواضعة ملحقة بمكتبه البسيط بوزارة الدفاع».
وتحرص في صفحات كتابها  على ذكر التواريخ، والتفاصيل الدقيقة، وكأنها تكتب سيرتها، وسير شخصيات عاشت معها، بكل أمانة، وتقدّم صورة عن المجتمع العراقي بمختلف أطيافه خلال النصف الثاني من القرن الماضي، والحياة في بغداد، والعادات اليومية، ولم تنس ذكر أنواع الأطعمة، والأماكن، وكلها مستلة من أحداث واقعية تذكر أبطالها بالأسماء، والتواريخ، فكأنها أرادت أن تدون تلك الحكايات الواقعية  بأسلوب قصصي شيق دون أي تدخل للخيال في ذلك مراعية البناء السردي التقليدي الذي  جاء متماسكا.
وتختتم كتابها بنصوص نثرية تتحدّث عن الفقد، تلك  النصوص أرادت من خلالها التعبير عن مشاعرها كتعليق على تلك الأحداث، ومن كلّ النصوص النثرية استوقفني نص «لحظات»، ففيه كثافة شعرية،  إذ تكتفي، في بعض الأحيان، بجملة واحدة، فكأنّها «توقيع» أرادت من خلاله تسجيل تداعيات شعورية للحظات خاطفة من زمن ممتد، ففي «لحظة هدوء» تكتب «سكون الليل أحاطني بجناحيه، أغمضت عيني ونمت»، وتحت عنوان «لحظة صمت «تقول» أنادي عليك بصوت هادر، كتمت أنفاسه غصتي»
وفي الصفحات الثلاث الأخيرة تفكّ رموز الشخصيات التي وردت في الكتاب مكتفية بذكر الحروف الأولى من أسمائها، فتخاطب أحباءها: «إليكم يا من يستوطن حضوركم الذاكرة، يشيع فيها فرحا أحيانا، وتنهيدة ألم أحيانا أخرى، أنتم حب مقيم تختزنه ذخيرة عمري».
ولو كنت مكانها لرفعت النصوص النثرية، وأبقيت السرديّة، التي قدّمت من خلالها شهادة عن زمن جميل، فكانت بمثابة شهرزاد عراقية تروي حكايات بغدادية دوّنتها بالحبر الأسود.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق