مقالات

زمن الكمامات

كتب: حسن المطروشي

ـ كيف حالك يا صديقي؟

ـ أنا بخير إلى الآن، والحمد لله .. ما زلت في الحجر العظيم، أختبيء بكل ذعر وبسالة، مثل بقية البشر والأرانب والثعالب والفئران والدببة، فرارا من زحف السفاح المدعو كورونا كوفيد التاسع عشر. أنظر إلى الشوارع من خلف نافذة مغلقة تطل على خواء هائل .. لا شيء يلوح سوى طيف ذلك الكائن الأخضر المستدير، بقرونه المدببة البشعة، يقلق راحة الوجود ويوصد بوابات العالم المرعوب.

لقد دخلنا في عصر الكمامات يا صديقي .. تخيل ذلك! لقد عبر الإنسان عصور الجليد والنحاس والكهوف والغابات، مرورا بأزمنة التكنولوجيا وسحرها العظيم، وظن أنه بات يتحكم في مصير الكون بضغطة زر مثبتة على طاولة حاكم أهوج أو مغرور وغبي .. لم نتخيل أن كل ذلك التاريخ والغرور والكبرياء والاكتشافات ستلوذ مذعورة إلى حجورها أمام كائن لا يزن مثقال ذرة!

نحن جيل النفط المبذر .. هل تخيلنا يوما أن يصبح ذهبنا الأسود زهيدا ليصل سعر برميل النفط أقل من سعر علبة كمامات الوجه؟! وفي الوقت الذي تجتمع فيه الدول المصنعة للنفط لعمل ما في وسعها من وسائل لإنقاذ هذه البضاعة المزجاة ورفع سعرها، يسلط العالم أنظاره على مصانع الكمامات، بل إن بعض مصانع الملابس غيرت وجهتها بين عشية وضحاها، واتجهت لصناعة الكمامات التي باتت مطلبا تجاريا ووجوديا للوقاية من جائحة العصر الكوروني. بكل تأكيد نحن بحاجة للكمام أكثر من حاجتنا “للوزار” والبنطال والقميص هذه الأيام .. الحياة أولى!

أنا يا صديقي أمارس عاداتي المعهودة كل يوم في هذا الحجر .. أتوضأ خمس مرات، ولكني أعقّم يدي خمسين مرة، وأغسل يدي بالماء والصابون مثل ذلك. لم أكن أهتم طيلة عمري بالكيفية الصحية والصحيحة لغسل اليدين .. فقط أغسلهما كيفما اتفق. لقد هالني أن أشاهد حفيدتي “يقين” ذات الأربعة أعوام، تغسل يديها بالطريقة المثلى للوقاية من كورونا .. حاولت تقليدها، رغم اقتناعي أنها تجيد ذلك أفضل مني. فأنا من أبناء الطبيعة والعناصر الأولى للوجود .. الماء والهواء والشمس والحقول والظلال. أتقن جيدا فرك حبات “القاشع” الجاف .. ألتقطها من مراويحها على الأرض لألتهمها ثم أمضي في سبيلي. ولكني في زمن الكمامات بات علي تعلم أشياء كانت بالنسبة لي يوما ما ترفا .. ولكني أشفق على جيل يبدأ حياته بتعلم كيفية غسل اليدين وارتداء القفازات والكمامات للوقاية من جوائح الفيروسات!

قرأت يوما في الأدبيات الدينينة أنه إذا تصافح المؤمنان تساقطت ذنوبهما .. ولكن المعادلة تغيرت في الزمن الكوروني، وأصبحت المصافحة من المحرمات التي ينبغي على المرء تركها، مؤمنا كان أو غير ذلك .. الأمر لا علاقة له بالتقوى والاحتراز للدين والفضيلة، ولكنها الإجراءات الاحترازية والوقائية من الهجوم المباغت للقاتل المرواغ كورنا كوفيد الذي قد يتسلل إليك من حيث لا تحتسب، ويقضي عليك بخطأ غير مقصود، وفقا لتقديره هو وليس الدين .. في عصر الكمامات عليك أن تتعلم أن لا تلامس الحياة بشكلها التلقائي المباشر، وإنما من وارء قناع، أو عن بعد، كما تفرض قوانين الحال .. كم هو قاسٍ أن لا تصافح جارك، ولا تمد يدك إلى صديقك،  ولا تقبّل طفلك، ولا تحتضن طفلتك، وأن تنظر للعالم عبر الكمامات، وأن تستنشق هواء الوجود من خلالها، وتتحدث للناس من خلفها؟

ها أنا، يا صديقي، بحسرة واستغراب شديدين، أنظر إلى صورنا معا في المقهى .. لم يمض عليها سوى أشهر معدودة، ولكنها تبدو لي كأنها من عصر آخر .. عصر كنا فيها أحرارا، نسافر ونتجول ونحيا حياة طبيعية .. عصر لم يعرف قوانين الكمامات والمطهرات المغشوشة .. وأتساء بألم شديد: ترى هل يسعفنا الزمن مرة أخرى بالتقاط مثل هذه الصور التي تذكرنا بالمدن والمقاهي والشوراع والمطارات والأصدقاء؟ 

إنني أواصل الحياة بذعرها وفنتازيتها وتقلباتها يا صيديقي .. وأحمد الله عندما أصحو في الصباح كل يوم، أنني نجوت من قائمة  ضحايا البارحة الذين فتك بهم السيء الذكر كورونا. 

ـ كيف حالك أنت يا صديقي؟!

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق