مقالات

“سوار زهر” على رُسْغِ الطفولة

حمود بن سالم السيابي

 

كان يفترض أن أطير فرحاً وأنا أتسلَّم في منتصف يوليو ٢٠٢٠ “بروفة” آخر هذيان لي أسميته “بروة استدعاء لمطرح”.
ولكن الفرح عاندني فخزانة الكتب في ردهة استقبال شيخنا محمد بن سيف الرحبي لضيوفه كانت تئنُّ بمئات العناوين ، وقد هجمت فجأة لتلتهمني بأسئلتها عما ستضيفه هذه الثرثرات وهذا الهذيان.
وكانت السلبية التي أثارتها عناوين المكتبة أمامنا تكفي لأن أعتزل الحرف والحبر.
ورغم أنني ترددت كثيرا على المكان وانتقيت الكثير من عناوين تلك المكتبة ، إلا إن “رُهاب” النشر ثار فجأة ليجعل هذه المكتبة الخصم الشرس.
وبين رطبة ورطبة من خلاص “الشويرة” كنت أتنقّل بين عنوان باهت لفصل من فصول ثرثراتي والعناوين الرنانة على خزانة الكتب قبالتي.
وكان أبو هشام بكرمه الزائد يبالغ في إطراء العمل لينتشلني من قصف العناوين الباذخة فانسحبتُ حزينا ومنكسرا.
ومن مكتبه في الدور الأخير إلى القاع كان المصعد يهوي بي ، بينما تتخلق في الذهن تغريدة مؤلمة
ولمجرد أن صفقت باب السيارة الساخنة كتبت :
“تسلمت من دار الغشام بروفة ثرثراتي ، فأعادتني للحظة الوقوف بباب مستشفى “خولة” حيث القابلة تناولني المولود الأول بقماطه اللبني.
وقد حملتني عناوين الكتب للتساؤل بحزن عما سيضيفه المولود الصيني لسكان الصين”.
وكنت أقارن ساعتها بين الطفل الخدّج الذي أسميته “بروة” وعشرات العناوين الذهبية الصحيحة والمعافاة في أرفف المكتبة.
وكانت “بروة” بهذا الفهم إضافة لا معنى لها ، فهي أشبه برقم صيني يضاف على بلد المليار شخص ، وعلى دولة تجرِّم تعدد الولادات لدرجة حرمان الطفل الثاني في العائلة الصينية من كافة الحقوق بما فيها الحقوق السياسية.
لأجل ذلك تركتُ بروفة “بروة” كما هي بأخطائي فيها وخطاياي.
ولقد تداعتْ هذه المشاعر وأنا أتسلَّم نسخة من كتاب “سوار زهر” للكاتبة الواعدة عهود الزيدي.
وكانت عهود بحكم الوظيفة في المكتبة تجلس أمام خزانة كتب تشبه الخزانة التي اختطفت فرحتي بكتيب “بروة استدعاء لمطرح”.
وهي تحت حصار ذات العناوين طوال النهار.
ومع ذلك أصرتْ على أن تُولد هنا ككاتبة ، وتكبر هنا كمؤلفة ، وتتألّق من هنا فتوقع أولى تسكُّبات اليراع.
وكانت عهود في تحديها لنفسها تراقب زوار المكتبة وهم يسألون عن ديوان فلان ورواية علان فاشتعلتْ أسئلة الحواس ، لماذا لا أكون غدا الإسم الذي تشدّ إليه الرحال ؟.
والعنوان الذي تطوى إليه الفلوات ؟ فكان “سوار زهر” الجواب الذي ادخرته لأسئلة الحواس.
وأقرأ “سوار زهر” فتدهشني أناقة الحرف ورشاقة اللغة ، والانتصار اللافت على رُهاب الكتابة رغم كل هذا الحصار.
وفي تقديم أستاذنا محمد بن سيف الرحبي لكتاب عهود الزيدي يرى أنها اختارت ل”سوار زهر” النصوص الأقرب إلى روحها”.
وأجدني أشاطره نفس الانطباع مع بعض الاستثناءات لبعض النصوص “الأبعد لروح قارئها” حدّ التمنِّي عليها لو أنها استبعدتْها ، ليبقى الكتاب في عوالمه الجميلة و”البريئة”
ولتبقى مناخاته بصفاء الكريستال ومرح قوس قزح وشقاوات تتبُّع ألوان الفقاعات وزنابير الماء.
ولقد كانت عهود رائعة وهي تستحضر من خربشات الطفولة مشاهد نبش تربة الحوش بحثا عن لبَّ النبق المتساقط من سدرة البيت للفوز بأكبر عدد من “الصلاليم” التي تمثل مكسرات زمن الطيبين.
وكانت موفقة في الحديث عن شك الزهور البيضاء لنبتة الحرمل على شكل سوار يليق بالرسغ ، لولا أن جوجل يكشف عن سُمِّيَّتها الآن ، ولكن بعد أن شرب الرسغ ما استطاع من فرحة الطفولة بالزهر.
وكانت عهود حالمة وهي تقتسم مع القراء مقاعد الحافلة في أول رحلة مدرسية إلى منجم “الراكي” لينزل الركاب عند شجرة “أكاسيا” خضبة الظل بانتظار أن يبرق التِّبْر بين ثنايا التراب.
وأختم بما ختمتْ به الواعدة عهود الزيدي آخر زهرة حرمل في سوار الزهر:
“كانت المرة الأولى التي تقطع فيها الشارع دون الإمساك بطرف ثوب أمها
أكلت الشمس وجهها
قبل أن تصل إلى وجهتها”

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق