مقالات
بين “أنت أسد” و”واحليلك الأسد” تشابه علينا الأسود
خليفة السعيدي
بين يوم وليلة يصبح هذا المخلوق الذي كان ملء الأفئدة والصدور، وملء الأسماع والأبصار، وملء الأرجاء والأجواء في أقفاص الحدائق والمنتزهات، ضامر البطن منكسر النظرات كث الفرو، يندب حظه الذي أقعده بين هوان نظرات البشر إليه وتلك النظرة المأتمية التي يركلونه بها بعد أن تغنى به الشعراء لهيبته ونازلوه لعظمته فكان رأسه مهراً للحسناوات، وأنيابه مصيراً للعصاة والطغاة، ونظراته جمراً للجبناء والبغاة..
لا تزال تلك المناورات التي لا ينساها كل منا في صغره عندما يُطلب منه القيام بشيء فوق طاقته، أو يذهب إلى مكان وحده في الظلام فكلمة (أنت أسد، يالله روح الأسد) هي من تكسر الخوف في قلبه وتمده بطاقه هائلة، كم يستلذ ولد عندما ينهمه أبوه (هينك الأسد) أو (تعال الأسد)، لكن تلك الموجة من الترهات وتلك الكمية من السخرية التي بطنتها كلمة (واحليلك الأسد) التي بالطبع لم تُفقِد الأسد من هيبته وجبروته بقدر ما أسقطته من عيون بعض المراهقين والأطفال الذين لم تعد تعني لهم كلمة (أنت أسد) إلا نظرة هوان، يعقبها موجة هستيرية من الضحك ولو رأوا الأسد حقيقةً لفعلوا الدنيئة في أثوابهم، بينما كانت العرب قبلئذ تُلهِب الشجاعة والحماسة في قلوب أبنائهم منذ الصغر بالليث والضرغام والغضنفر، والهصور والهِزبر والحيدر والقسورة، فهذا علي بن أبي طالب ( كرم الله وجهه) يقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة
ضـــــرغام آجـــام وليث قسورة
عـــــبل الذراعين شديد القصرة
كليث غابات كريه الـنظرة
على الأعادي مثل ريح صرصرة
وبالرغم من المبارزات التي اشتهر بها العرب ومصارعتهم للأسود، لكنهم لا ينقِصون من قدرهم، فإن لم يكن أعلاهم في البأس والشجاعة فأنه مساو لهم فيها، ولكن دائماً يكون متخضباً بدمائه في آخر المبارزة، فهذا الفاتك جحدر بن مالك عندما أمسك به الحجاج وربط يمينه في عنقه وأطلقه يَرسُف بأكباله لمبارزة الليث يقول:
ليث وليث في مجال ضنك
كلاهما ذو قوة وسفك
وصولة وبطشة وفتك
إن يكشف الله قناع الشك
فأنت لي في قبضتي وملكي
ثم دنا منه وضربه بسيفه ففلق هامته
وهذا بِشر بن عوانة العبدي خرج في الآكام والوديان طلباً لليث يقدمه مهراً لحبيبته، قتقدم إليه وقد أبدى الأسد نِصالاً ووجهاً مكفهِرا، وجبينه كأنه طَبقُ الرَّحى، يزفر وينفر يتطاير الشرر من عيناه (كَأَنَّهُۥ جِمَٰلَتٌ صُفْرٌ( تمضي اللحظات كالجمر يتقدم بِشر وهو يشد على سيفه ويقول للأسد:
وقلبي مثلُ قلبكَ لستُ أَخشى
مُصاولةً ولستُ أَخاف ذُعرا
نَصَحتُكَ فالتمس يا ليثُ غيري
طعاماً إِنَّ لحمي كان مُرّا
فتقدم الأسد وهو يكفكف إحدى يديه ويبسط الأخرى للوثوب على بِشر…
التقى الطرفان فضربه بِشر بالحسام وكأنه شق به الظلماء عن الفجر، فسقط الأسد مضرجاً بدمه، وبالرغم من تغلب بِشر على الليث إلا أنه لم ينقص من قدره فهو يقول :
وقلتُ له يَعِزُّ عليَّ أَنّي
قتلتُ مُناسِبي جَلَداً وَقَهرا
ولعل أفضل من وصف الأسد هو أبو زبيد الطائي عندما قَدم على عثمان بن عفان، لأنه رأى من الأسد منظراً، وشهد منه مشهداً لا يزال يتجدد في ذاكرته لهوله، ولعظيم الفزع الذي استطار بفؤاده وهو يقول:
” ثم نهم ففرفر، ثم زفر فبربر، ثم زأر فجرجر، ثم لحظ، فوالله لخلت البرق يتطاير من تحت جفونه، من عن شماله ويمينه، فأرعشت الأيدي، واصطكت الأرجل، وأطت الأضلاع، وارتجت الأسماع، وحَمَّجَتِ العيون، ولحقت البطون، وانخزلت المتون، وساءت الظنون.. فقال عثمان اسكت قطع الله لسانك فقد رَعَبت قلوب المؤمنين“.
وهو وصفٌ لفيفٌ عريضٌ، اختزلته في هذه الفقرة خوفاً على قلوبكم المرهفة، ومشاعركم الشفيفة، ففي مثل ذاك المشهد لا تنفعكم عبارة (وحليلك الأسد) ولات حين مناص .
ولعلك أيها القارئ الحائر تنتظر مني أبياتاً لماليئ الدنيا وشاغل الناس، نعم المتنبي يصف فيها مشية الأسد في وصف بديع تتلفع منه أعينكم بأردية من الدهشة وهو يقول :
يَطَءُ الثَرى مُتَرَفِّقاً مِن تيهِهِ
فَكَأَنَّهُ آسٍ يَجُسُّ عَليلا
وينفر في قلوبكم الذعر حينما يصف زئيره وهو يقول:
وَردٌ إِذا وَرَدَ البُحَيرَةَ شارِباً
وَرَدَ الفُراتَ زَئيرُهُ وَالنيلا
ويطفئ نور الإيمان الذي كان يضيء بواطنكم ، وشموع السكينة التي طالما آنست وحدتكم وهو يصفه قائلاً :
في وَحدَةِ الرُهبانِ إِلّا أَنَّهُ
لا يَعرِفُ التَحريمَ وَالتَحليلا
ولعل وقع تلك الكلمة باقية في مسامع طفل تُرددها عليه والدته وهي تقول (أنت أسد، يالله أريدك دختور، شد حيلك)، وأكليلاً على رأس طفل آخر يناديه والده وهو يقول (هينك خلا نصلي، باقلك جزء وبتختم القرآن) وتلذذاً على شخص آخر وهو يطالع الأدب ويحفظ من ضروب الشعر ومن فصاحة الخُطب، ووقاراً عليك سيدي القارئ بأن تكون أسداً في زمن تشابه علينا فيه الأسود…