لطالما مررتُ ببلدة “فرْقْ” نديمة “الحوراء” وجارة “الحَلَاة” وبشارة نزوى.
وفي كل مرة يأخذني فيها الممر الترابي القديم بين الفيحاء ونزوى نحو “جديل” ساقية فلج “بو حمار” حيث تصطف “خروس النيل” فتصطبغ السواقي والقناطر بهذا السائل الساحر الأشبه بلون الفجر ونعاس المساء.
وفي كل مرة أرتاد فيها بلدة فرق تتراءى لي الشَّعْثاء وهي تخرج من تحفة الأعيان لنور الدين السالمي فيزهر مضجعها حقل ريحان وأقحوان.
وأتخيل الرضي جابر بن زيد يطل من صفحات كتاب أبي عمان عبر التاريخ فارعاً كجبل رضوى ومتعكزا بركن علعلان من ذرى الحوراء فينهض معه المكان.
ويوم ساقتْني الأقدار إلى العراق في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي ، كان أبو الشعثاء في المرَّتين بين الهامات التي أسائل عنها مآذن ومسلات وأواوين ونخيل العراق.
وفي المرتين كنت أستقبح مسلك ابن زياد لتجرُّئه على سجن الشامخ العماني الأزدي رغم إكباري للعنفوان الأموي ولبيرقهم المرفوع في حركة التاريخ.
ويوم جلستُ في الروضة النبوية الشريفة وعلى بعد أشبار من غرفة الرضية عائشة ، تفيَّأْتُ أساطين المسجد النبوي ورحت أعددها من أسطوانة “المصحف” حيث كان يتنفَّل الرسول الأكرم صلوات ربي وسلامه عليه فتنفَّلْت ، وحيث كان يحنُّ الجذع اشتياقاً لمن ارتقاه فتزلزلت ، إلى أسطوانة عائشة وأبي لبابة والأسطوانة المخلقة وأسطوانة السرير وأسطوانة الوفود.
وفي ظلال تلك الأساطين أغمضتُ عيني لأستعيد سيد الخلق وصحابته والتابعين.
وأجلس على السجادة الخضراء وأكاد أصيخ السمع لحوار أم المؤمنين رضوان الله عليها والشيخ العماني الأزدي العابر لبراري وقفار الغبيراء حتى الحجاز للقاء الصديقة بنت الصديق بعد أن فوَّت عليه الزمان مكرمة أن يكتحل بمرأى من يُستسقى الغمام بوجهه ، ويتشرف بلقاء أول من أسلم من الرجال وصاحب الرسول في الغار.
وجئتُ أم القرى أكثر من مرة لأسائل مكة عن ابن عباس “كهل الفتيان وفتى الكهول” فرأيت حبر الأمة وترجمان القرآن قد اعتزل الساسة والسياسة ليتفرغ في تبصير الأمة بكتاب الله فكان الشامخ العماني الأزدي بين تلاميذ مدرسة ربيب النبوة ليتضلع العلم فيتقلد من شيخه ابن عباس وسام “لو نزل أهل البصرة عند قول جابر بن زيد لأوسعهم عما في كتاب الله علما”.
وما أكثر من كتبوا عن الرضي جابر بن زيد ، وما أقل من انشغل بالقيافة وتقصِّى أثر جابر الطفل وجابر الذي اشتكاه معلمه لأبيه لأنه لم يتهجَّى مع نابتة المكان سورة الرحمن فقد كان يحفظها عن ظهر قلب ومعها نصف المصحف ولم يعد بحاجة للتهجِّي بعد أن تجاوز أقرانه بمراحل.
وما أكثر من تتبعوا فقه الرجل وما تفرَّد به من أقوال وأحكام.
وما أقل من رصد حكايات جابر الطفل وأبيه.
وحلم سفر جابر إلى منابع النور.
وحلم رؤيته لنخيل البصرة التي تمتص رحيق شط العرب.
والأستاذ الدكتور سعيد بن محمد السيابي بين أولئك القلة الذين هندموا جغرافية نشأة الطفل جابر بن زيد في بلدة فرق.
وبين الندرة الذين حملوا كاميراتهم ليصوروا زيدا يتلقى بشارة القابلة بولادة جابر وهي تردد “نزوى اليوم في عرس يا زيد”.
واقتربّ الدكتور السيابي من الطفل المتشح كتف جمل ليتعلم القراءة والكتابة في مدرسة أبي عبدالله.
وكان السيابي في حلقة الدرس وهو يتابع باندهاش أسئلة طفل يستزيد معلمه عما يعرفه عن مكة والكعبة والحجر الأسود ، وعن سر سواد في الحجر المبارك الذي أهدته الجنة.
والروائي الدكتور السيابي أحد الذين واكبوا حلم الترحال إلى بصرة الفيحاء ليصور الفارق بين خلاص البصرة وخلاص بلدة فرق.
وبين مساجد الحاضرة الإسلامية التي شيدها عتبة بن غزوان في عهد الفاروق ومسجد الشواذنة.
وكان الروائي السيابي في مجلس حبر الأمة وهو يتلقف بشرى اعتزام جابر بن زيد كتابة “الديوان” الحاوي لأحاديث من أوتي جوامع الكلم.
ولم يكن الدكتور السيابي ببعيد عن مخاض ولادة أهل الاستقامة فنقل بعين الشاهد الحاضر لدقائق الأمور والملم بتفاصيل التفاصيل نشأة الحركة الأباضية في البصرة وعمقها الروحي عُمان.
وحضر الروائي السيابي تفاصيل ماجرى بين الشامخ الأزدي وعبدالله بن أباض ومسلم بن أبي كريمة وابن حطان وضمام بن السائب.
ودخل السيابي زنزانات بن زياد ليرى المحاهد العماني الغيور على الإسلام مكبلا بالأغلال ويرى الرضي أنس بن مالك يكشف لبن زياد مدى حاجة الأمة للشامخ الأزدي ليكون ببنهم معلما ومربيا ومصلحاً.
واقتربَ الدكتور سعيد السيابي من رقدة الرضي جابر بن زيد وهو على فراش الموت يحتضر وأمنيته بأن يغمض عينيه على وجه أبي الحسن البصري المتواري عن أنظار الحجاج بن يوسف الثقفي ، فيلبي البصري الأمنية الأخيرة لرفيق الجهاد فيسرع مخترقاً أستار الليل وذارَّاً الرماد في عيون زبانية الحجاج ليجلس بجوار جابر بن زيد وهو يطبق شفتيه على شهادة لا إله إلا الله.
ولعل الفارق بين المؤرخ والراوي أن الأول يكتب نصَّا لفيلم وثائقي سيشاهده القارئ ، بينما الراوي يتيح للقارئ فرصة لأن يكون هو ضمن شخوص الفيلم وضمن المساحة المتاحة لبقية الأبطال.
وفي روايته “جابر الوصية الأخيرة” كان لكل قارئ دوره في الحكاية والحبكة والمعالجة والسيناريو والتصوير والإخراج.
وبهذه المساحة قرأتُ النص ، وبهذه المسافة اقتربتُ من جابر الطفل والطالب والعالم والمجاهد والصابر والأب لحركة أهل الاستقامة.
وبهذه الأناقة التي صنعها المؤلف والمصور والمخرج قرأتُ “جابر الوصية الأخيرة” وتنقلتُ بين أفلاج وأودية نزوى وأنهار وأهوار البصرة.
وصليتُ الجمعة خلف جابر بن زيد في جامع البصرة.
ودخلتُ الروضة الشريفة.
وتفيأتُ الأساطين الثمان.
وافترشتُ إحرام الحاج لأجلس مناجيا خلف المقام وأنا أقرأ ديوان جابر والوصية.
وأختمُ بأن المؤرخ يكتبُ تأريخاً بينما الراوي يدخلنا معه في التاريخ.