السياحي
عند مدفع حصن السيب أستفزه لينفجر في سلبيتنا بقتل السوق
أقف أمام هذا المدفع الحزين فهو آخر ما تبقى من حصن السيب، فالبلدوزر سبقني ليأكل الجدران المتكلسة بالملح والزمن.
لقد تم نزع بوابات الحصن والنوافذ لتستقر في أقرب مردم ومعها كل الكراسي وكل الطاولات وكل الجذوع.
وولاة السيب وقضاتها طووا عمائمهم وحملوا قراطيسهم ومحابرهم وأقلامهم من حصن السيب لرباط آخر لا يصل إليه صوت الموج، ولا الرطوبة المشبعة بالملح.
وتحزم عسكر الحصن بالصمع وامتشقوا الأيام.
توقف عند باعة التتن وعطر راماج وريفدور
حمود بن سالم السيابي
أقف عند هذا المدفع الرابض على منصته البلهاء باتجاه البحر، أسائله عن أبي الذي جاء مطلع خمسينيات القرن الماضي ليتسلم مفاتيح الحصن من السيد محمد بن أحمد البوسعيدي ويضع توقيعه على عهدة الموجودات بالحصن ليجلس في الطابق الثاني من المبنى على منصة الولاية والقضاء بالسيب أحد أقدم الثغور الإسلامية في عمان، فلا يجيبني المدفع.
أجاهد في هزه لينطق فأتذكر أن المدافع تَهُزُّ ولا تُهَزَّ.
أحاول استنطاقه، ولكن هل ينطق من في فيه دمع ؟.
أربت على كتفه وأسأله عن أخي البدر الذي جلس حيث جلس أبوه في الطابق الثاني من حصن السيب على كرسي الولاية في سبعينيات نفس القرن فيواصل المدفع صمته المريب.
وأذكره بالسيب كرباط فلا يفهمني؟، والسيب كأحد ثغور الإسلام فلا يكترث ؟وعن «َدَمَا» المكان والتاريخ فلا ينبس؟، وعن أكبر الأساطيل التي اتخذت من السيب مراسي وأشرعة وربابنة وكأنَّ الحديث لا يعنيه ؟، وعن اتفاقية السيب وكأنه لم يسمع بها ؟ فأشفق عليه وأعذر انكساره فالعمائم التي كان يراها هنا عبرتْ الغيم.
والقامات التي كانت تدخل وتخرج من الحصن تفرقت أيدي سباء.
أترك المدفع المنكسر لأتسامى بنظري مع مئذنة أقدم جوامع السلطان وأمشي في ظلالها التي نسفها الغروب باتجاه الشرق نحو بغيتي لدخول سوق السيب التاريخي ورئة المدينة وروحها وجوهرها.
أستفتح التجوال بدكان أبناء حمود بن حمد العامري ولعله أحد أهم خمسة دكاكين يمارس فيها العماني التجارة «ثلث الملك» في ظل زحف آسيوي مجنون ومرعب أفقد سوق السيب اسمه ومذاقه وروائحه.
أدخل دكان أبناء حمود العامري لأبارك انتصاره لإرث الآباء ولأسائله عن حركة السوق والببع والشراء والمنافسة فأتلقف الإجابة من زرافات الداخلين والخارجين للدكان، ومن تكرار اسم حمود بن حمد العامري على أكثر من لافتة في سوق السيب وعلى أكثر من بضاعة، فهذا دكان أبناء حمود العامري للمواد الغذائية وبالجوار محلهم الخاص بالأدوات المنزلية فأكتفي بجمال هذا الحضور في سوق يحتضر.
أغمس يدي في عينة أرز معروضة بين أصناف الأرز فأسأل البائع عن نوع هذا الأرز فيرد بأن اسمه «أرز الزعيم»، وإنه يصدر خصيصا لأحد تجار سوق السيب وهو حبيب الرواحي.
إنه الاستهلال الأجمل ببدء الجولة بدكان عماني يجلس خلف طاولة البيع شاب عماني، ويحدثني عن براند عماني للأرز المستورد خصيصا لتاجر عماني وفق مواصفات خاصة تزرع له وتصدر إلى مخازنه.
أترك دكان العوامر الذين استفتحَ بهم السوق دكاكينه كما استفتحت بهم زيارتي لأزحف أشبارا باتجاه الشرق لأقرأ اسما تجاريا آخر تكررت فيه نفس بضاعة العامري ويحمل اسم هلال بن حمود الصابري، ويليه محل المكسرات الذي رفع لافتة باسم مؤسسة نجم الخويرات.
وعلى بعد خطوات ترتفع لافتة تحمل اسم الأعماق للتجارة وخصصه مالكه لبيع الأدوات المنزلية البلاستيكية.
أتعمق في السوق أكثر وسط زفة من عبق البحر وصوت الموج والغربان التي تعيد لي شجن مزارع السيب وأشواق الأمباء والبيذام لأبحث عن وكيل أرز الزعيم حبيب بن سعيد الرواحي.
هذا هو دكان وكيل أرز الزعيم وقد تدلت من اللافتة حبال طلوع النخل ففرحت بهذه البشارات، فأنا في دكان عماني استمسك بحبل طلوع مع الأمس فيجعل «الصوع» أجمل الدلايات، إلا ان الاقتراب يخيَّب الظن فصوع حبيب الرواحي كان للأسف من النايلون، وكان صناعة هندية أو صينية أو ولربما سيجتهد مصنع الفليج للبلاستيك فيشارك في المؤامرة فنستورد الصوع والمخرف والموراد والبيدار.
أدخل على مضض دكان وكيل أرز الزعيم لأصافح سعيد بن حبيب الرواحي أكبر أبناء حبيب الرواحي فأُكْبِرُ فيه جلوسه في دكانه رغم صوع النايلون الذي لا يسرُّ.
لقد حافظ أبناء حبيب الرواحي على الاسم التجاري لوالدهم منذ نزوحهم معه من وادي بني رواحة ليفتحوا متجرا في فنجا إن مجدها ثم يتركونها إلى السيب قبل أكثر من نصف قرن ليستأجروا دكان «سبيل حيميد» فيكبر الدكان ويكبروا بالإسم ويصبح لهم دكانهم وإسمهم، بل وينافسون البانيان في استيراد أجمل أصناف الأرز الفاخر ليحمل اسم الزعيم و كاسم تجاري مقرون باسم شركتهم وعنوانهم في السيب الممهور على كل جونية، ومن مخازنهم تنتقل جواني الزعيم إلى فنجا وسمائل وروي ومطرح وغيرها من منافذ التوزيع.
كان سعيد بن حبيب الرواحي يجلس في دكانه خلف صورة كبيرة للشاعر البهلاني الرواحي ابن عديم.
يسألني سعيد الرواحي عما إذا كنت أعرف أبا مسلم ففاجأته بفيديو في هاتفي وقد صورته ببيت أبي مسلم في وادي محرم قبل أقل من شهر، وأطلعته على ما كتبته عن الشاعر والمكان.
وعلى فنجان شايه الأخضر تحدثت وسعيد بن حبيب الرواحي عن السيب والسوق والتجارة والناس.
وكانت لافتة دكانه تحمل عبارة مواد غذائية وفواكه وخضروات ولكنني جلست وسط غابة من جواني الأرز والطحين والسكر والقهوة وغيرها إلا الفواكه والخضروات ولم أشأ إحراجه في دلالات اللافتة فكفاني حضوره في المكان.
تركتُ وكيل أرز الزعيم الرواحي شادا على يديه ومُكْبِرًا صموده وتحديه، فأخرج من دكانه لأمخر عباب سكة أخرى في السوق فأتوقف عند دكان يحمل اسم عبدالله بن ناصر الهطالي لبيع العطور فتستوقفني زجاجة عطر بين المعروض من البضاعة إنه عطر «راماج» وقد سبق ورأيت زجاجته ذات حلم في سوق «خور بمبه» والببغاوان على غصنهما في العلبة يغتابان العطر ويبوحان بأسرار المشترين.
لقد دخلت قارورة عطر «راماج» تاريخنا البنفسجي كما ذكرت يومًا في تغريدة لي، وكلما شممتها تداعى الزمان فعطر «راماج» كان بين صوغات العائدين من البندر كأجمل هدايا العشاق.
تحدثت مع البائع عن الزجاجة وما تعنيه لي علبتها من الخارج بغض النظر عن رائحة العطر بداخلها.
وكان البائع على نفس الموجة معي ليعبر لي عن افتتانه مثلي بالأمس فناولني زجاجة أخرى لها نفس الحكايات، وكانت عطر «ريفدور» ثم أضاف ثالثة وكانت هذه المرة عطر بنت السودان.
تركت محل عبد الله الهطالي وراماج ببغاويها يواصلان وشوشة الأمس، وعطر «ريفدور» كان وما يزال ديمة الزمان المتفلت وزجاجة عطر «بنت السودان» كانت وما زالت السمراء كالليل وكالكحل وكالجدائل.
يتواصل السوق بلافتات عمانية وهجمة آسيوية مرعبة تجعل سوق السيب لا صلة له بالسيب ولا بعمان، فالتاجر العماني فيه أصبح مجرد مالك للدكان واللافتة المسجلة بينما لا يعرف الباعة إلا كل شهر ليتحصل منهم على الإيجار، والمبيوعات لا علاقة له بها فيسومها كأي «هابط» للسوق.
وتنفرج الأسارير مجددا برؤية سليمان بن عبدالله بن علي الحضرمي كأحد المحاربين البارزين في السوق مع أبناء حمود العامري وأبناء حبيب الرواحي وأولاد فريش وقد اعتلى دكة ليجلس وسط زحام «طاقات الثياب» يستحث الأعياد والمناسبات والمشترين.
أدخل دكان الحضرمي بفرح لأجر أطراف الحديث معه عن السوق والمنافسة والسيب التي تكبر حاراتها الحديثة ويصغر ما يتصل بأمسها، وعلى رأسها السوق القديم الذي ابتلعته المولات الحديثة فأجد في أجوبته الكثير من المرارات والكثير من الصبر فقد جاء إلى المكان صغيرا وأصر على أن يواصل درب آبائه.
أقترب من دكان آخر على واجهته زجاجات صفراء اللون بحجم زجاجات الفيمتو فأدقق النظر في الكتابة لأقرأ عبارة «حل حليل» على الزجاجات فوددت لو يسمح البائع لأن أقتلع الأغطية وأتفحص هذا السائل اللزج القادم من الأمس والذي كان رفيق السطوح ليمنع البعوض عن اجسادنا صيفا، وليحارب معنا معركة «الجزم» في الشتاء.
وتشدني لافتة أخرى حملت اسم ثمال الجنة على دكان يبيع البخور والعطور القديمة وربطات جدائل الشعر.
وبجوار الاسم الفردوسي ترتفع لافتة أخرى باسم ضواحي مطرح على دكان يبيع المصار والكميم والأوزرة والعصي.
وقبالة الثمال والضواحي تتلألأ لافتة زعفرانية الطلاء والإضاءة وتحمل اسم الزعفران للملابس الجاهزة على دكان يعرض كل شيء الا ما يتعلق باسمه الزعفران.
وتسرع بي الخطى نحو محل يحمل اسم وضحة فلم أرها ولكن رأيت قمصان «أديداس ونايك وبوما» وبقية العلامات التجارية العالمية، إلا أن السعر الذي تعرض به وضحالة قمصانها لا صلة له بالعالمية سوى «اللوجو» المطبوع أعلى القمصان.
وبجوار دكان وضحة أطالع دكان مؤنس الهدابي وقد تدلت الشماغات من العلاقات لتحملني الذكرى إلى السيوح السلطانية فقد كانت اللباس الشائع في الجولات.
أمشي خطوات أخرى لأقف عند دكان خميس الحديدي الذي يعرض بضاعة حديدية كاسمه بدءًا بالقدور إلى «طوابج» الخبز إلى الطباخات الحديدية الإيرانية والهندية وانتهاء بدلال القهوة وبقية الأدوات المنزلية.
وأخرج من دكان خميس الحديدي لأتوقف عند دكان عامري آخر في سوق السيب هو دكان راشد العامري المفعم بالشباب والحيوية بما يبيع من ملابس رياضية شأنه شأن دكان وضحة فأبحث عن فانيللات منتخبنا ومنتخبات الخليج.
ويتكرر دكان الهطالي مجددا إلا انه مسبوق هذه المرة باسم خلفان بدلا من عبدالله ، وبالبخور كبديل للعطور.
وأقرأ لافتة كبيرة حملت اسم محلات سعود التجارية ليتخصص هذا الدكان في بيع التمور والعسل والسمن ويبدو من تحلق الناس حول البضاعة أنها صنعت اسما وسمعة.
وأجلس عند بائع سبعيني يعرض التتن ومتعلقات تدخين الغليون لأتخلص في دكانه من كل ما علق بأنفي من روائح «بيبي متوه وريفدور وبنت السودان».
قال لي البائع أنه يستجلب بضاعته من الشمال وأنه يبيعها بأوراقها الجافة كما هي، أو مسحوقة كهذه.
كان يتحدث وهو يطلعني على العينة، طفق البائع بعدها يستزيدني بشرح الأنواع والاستخدامات والأدوات وكأنه يقدم لي وصفة شعبية في علاج السرطان، لا كأنه يروج لبضاعة مسببة لأمراض القلب والشرايين والرئة والسل إلى جانب السرطان. قلت في نفسي وأنا أستمع لشرحه: لقد ترك أبي السيب قبل أن يجلس هذا البائع ليعرض الغليون، ورحل أبي عن الدنيا كلها قبل أن يكون الغليون مصدر فخر لهذا البائع ومورد رزق له ولعائلته.
أخرج من دكان الغليون إلى دكان الرجولة لأصافح بائعا عمانيا آخر يجلس في دكانه بسوق الخضار في هيبة من حمحمة بنادق الصمع والكند والخناجر التراثية القديمة والسيوف.
أتلصص بعيني في معروضاته وما يداريه في مخزنه الداخلي لأكتشف وجود أنواع مطورة لتفاق الكسر البلجيكية والتشيكية والسويدية والألمانية والتي تعمل بالضغط والمجهزة بدوربينات ذات تقنية عالية.
وبجوار المتجر الذي ترتعد فيه الفرائص يتراجع مؤشر الخوف برؤية بضاعة تتمثل في أكداس كالجبال من القاشع والعوال والصارف والروبيان المجفف، وفي الجوار تتعالى أصوات الدجاج الحي والطيور وهدير مطاحن الحبوب.
وأزحف قليلا فأشم العيد والمناسبات في دكان بائع الحلوى الذي يعيد لاسم السيب عراقته في هذه الحرفة.
وأقترب من دكان يبيع أصنافا من تبزيرة الشواء تحمل اسم هلال بن صالح الزدجالي وآخر يعرض خصاف الشواء وثالث يجمع الفرح بتفاصيله من مشاكيك وخصاف وحطب السمر وجرار التبزيرة وأوراق الموز.
إنها السيب الثغر الذي كان، والسوق الذي كان، والزمن الذي كان.
وبقدر ما تفاخر السيب بنهوضها المتفرد لاحتضانها أكبر الجوامع وأهم المطارات وأفضل الجامعات والكليات والمستشفيات وبها القصور السلطانية والإسطبلات السلطانية وقواعد الحرس والجيش والعديد من المولات وعشرات الأحياء الناهضة بقدر ما يسجل المواطن أعلى أمثلة السلبية وهو يسلم الخيط والمخيط للوافد ليتحول هو إلى قابض للثمن فيا رخص الثمن.
وللإنصاف فإن السيب ليست وحدها في ذلك بل كل الولايات.
وابن السيب ليس وحده بهذه السلبية بل كلنا ذلك السلبي بلا استثناء.
وأخرج من المكان لأردد و بحسرة: لقد كان هنا السوق، وكان هنا الحصن، وتحت ظل هذه الجذوع وقعت اتفاقية السيب، وهنا كان الثغر، وهنا كان مرسى الأسطول، وهنا كان أبي.