مقالات
معوّقات الحوار الثّقافيّ وأثره داخل البيت الإسلاميّ
بدر العبري
يعيش العالم الإسلاميّ اليوم ضمن قرية واحدة متداخلة، وأصبح البيت الإسلاميّ مكشوفا على الجميع بأصل نصوصه وزيادات تراثه وتأريخه، بحسناته وسيئاته، لهذا أصبح هذا البيت ليس مفتوحا على العالم فحسب؛ بل على أفراده ومكوناته هو في الدّاخل، لهذا التّعددية داخل البيت الإسلاميّ حقيقة واقعيّة يجب أن تستثمر في بناء هذا البيت، وخدمة المجتمع الإنسانيّ الكبير.
وأسند الحوار إلى الثّقافة، والحوار مصطلح قديم في المنظومة الإسلاميّة خلاف الثّقافة الّتي استخدمت بكثرة في العصر الحديث خصوصا في نهاية القرن الثّامن عشر وبداية القرن التّاسع عشر، وظهرت بصورة أكبر في القرن العشرين مع علماء الأنثروبولوجيا.
وإسناد الحوار إلى الثّقافة إسناد إلى العموم، ليشمل أبعاد المجتمع الإسلاميّ سياسيّا ودينيّا وتربويّا واقتصاديّا وفنيّا ومجتمعيّا؛ لأنّ الحوار في ذاته يشمل العنصرين: عنصر التّلاقح والاستفادة من الآخر، وعنصر التّقويم والمراجعة، فلمّا أسند إلى الثّقافة كان الإسناد إلى الثّقافة لأنّها «تعتبر خيطا مشتركا بين المجتمع الإنسانيّ، فهي الخيط المرتبط ذات الإنسان كعقل مفكر، وجسدمتأثر بما حوله في الطّبيعة والكون وأخيه الإنسان، وبما ورثه من حضارة وفكر وتراث، وبما وصل إليه من معرفة واختراع وإنتاج، هذا الخيط الإنسان تتشكل به الحضارة الإنسانيّة المتعددة في طقوسها ومعارفها، والمتنوعة في نتاجها وآثارها، وعليه تتشكل ثقافات تحت الثّقافة الأم للإنسان، وحضارات تندرج تحت حضارة الإنسان» [الصغير: كاوجة محمد الصغير، وابتسام: كوشي، الحراك الاجتماعيّ وعلاقته بالمتغيرات المجتمعيّة للمجالات الاجتماعيّة في المدينة الجزائريّة، دراسة ميدانية لتراموايّ ورقلة – الجزائر، مجلة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، ص 338].
وفي نظري أهم المعوقات الفكريّة الّتي يعانيها مجتمع البيت الإسلاميّ من الدّاخل حاليا، والّتي يمكن النّظر حولها حواريّا التّالي:
أولا: التّأريخ السّلبيّ: حيث تشكلت فرق البيت الإسلاميّ نتيجة صراع سياسيّ بعد وفاة الرّسول الأكرم – صلّى الله عليه وسلّم – وهو صراع بشريّ كأيّ أمّة من الأمم، إلا أنّ هذا الصّراع انتهى بوفاة تلك النّفوس، ومع هذا نجد التّعصب للرّموز التّأريخيّة، أو محاكمة الشّخوص وفق روايات تأريخيّة، دونت في فترة التّعصب للحزب والمذهب، والأصل في الماضي قوله تعالى:}تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ { [البقرة/ 134].
كيف يتحقق الحوار هنا؟ يتحقق نظري من خلال مفاهيم ثلاثة: الأنسنة والظّنيّة النّسبيّة والحاكميّة، أمّا الأنسنة فتأريخ هذه الأمّة تأريخ بشريّ إنسانيّ يحوي النّجدين: الخير والشّر، الصّواب والخطأ، الإيجاب والسّلب، كتأريخ أيّ أمّة في الأرض، فليس ملائكيّا مميزا، وليس حيوانيّا شهوانيّا، وأنسنة التّأريخ أي رفع القداسة عنه، فليس نصّا تشريعيّا مغلقا ولا مفتوحا، بل هي تجربة بشريّة، تدرس بشكل أكاديميّ لا أكثر، فإذا جعلت التّأريخ مقدّسا، ارتفع الحوار هنا، فأصبحت تدافع عن مقدّس لديك، وتبذل كافة الحجج لتأليهه أو شيطنته.
وأمّا الظّنيّة النّسبيّة، فلأنّه كتب متأخرا من جهة، والقلم الكاتب في العادة إمّا محب مغال، أو حاقد كاره، فنسبة الخطأ والتّلاعب في الرّواية التّأريخيّة نسبة كبيرة جدّا، وهي ظنيّة بامتياز، فإذا كان كذلك وجب جعلها على مائدة الحوار الطّبيعيّ غير المقدس.
وأمّا الحاكميّة، فهي لله وحده، هو أعلم بعباده، وهو عدل، فهنا لا نطالب بديانة من حيث الولاء والبراء النّبش في الأموات، والصّراع حولهم، وليس لنا البحث عن نجاتهم أو هلاكهم، فهم بشر مثلنا، فالحوار في قضايا غيبيّة لا فائدة منها لمجتمع البيت الإسلاميّ، ولا لأجيال هذا المجتمع؛ لأنّهم يعيشون في صراع وهميّ لا فائدة منه، الأصل توجيهه نحو العلم والمعرفة والنّتاج والحاضر والمستقبل.
ثانيا: التّضخم العقديّ [الكلاميّ]: نجد القرآن يركز على الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصّالح، وهذه أركان ثلاثة يقوم عليه مجتمع البيت الإسلاميّ، فالكلّ يعظّم الله، وما أنزل من كتب، وما أرسل من أنبياء، فالجميع يؤمن باليوم الآخر، وبالعذاب والنّعيم، ويعملون صالحا ابتغاء ما عند الله من ثواب، إلا أنّ هذا الحدّ تضخم بشكل كبير، بعد الصّراع بين مدرستيّ الاعتزال وأهل الحديث، وكثرة الجدل أدى إلى تكوّن مدارس كلاميّة جميعها تعظّم ما أسلفنا بيانه.
كيف يتحقق الحوار هنا؟ يتحقق من خلال مفاهيم ثلاثة: الأنسنة، والتّعدديّة، والحاكميّة.
أمّا الأنسنة فطبيعيّ حدوث هذا الخلاف لأسباب ليس هنا محل ذكرها، وأهمها النّص القرآني بطبيعته نص مفتوح، ولكونه مفتوحا فهو قابل للتّأويل، فأنسنتها هنا أي جعلها في قدرها الإنسانيّ الطّبيعيّ، وهي حالة صحيّة، لا يترتب عليها تكفير ولا تفسيق.
فلمّا كان التّأويل واسعا كانت التّعدديّة حاضرة، وعليه يرتفع الحكم على المختلفين في البيت الإسلاميّ بالجنّة والنّار، وترك الحكم لله وحده.
فالحوار هنا دائرة المشترك حوله واسعة جدّا، وهي الدّوائر الثّلاث: الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصّالح، فيضيق ما دونه، على أن يكون الحوار حوله كتجربة بشريّة في التّأويل لا كنص آخر، فننطلق من المشترك لفهم الآخر لا لتكفيره وتضليله.
ثالثا: التّضخم الرّوائيّ: حدث تضخم بشكل كبير في الرّواية، وزاد معدلها، فضلا عن دخول الرّواية المذهبيّة والسّياسيّة والتّأريخيّة، وأصبحت محل جدل كبير داخل مجتمع البيت الإسلاميّ اليوم، وظهور تيارات جديدة تنظر إلى الرّواية بشكل سلبيّ بشكل كبير.
كيف يتحقق الحوار هنا؟ يتحقق من خلال العرض والنّسبيّة، أمّا العرض فيكون على الشّيء المتفق عليه في مجتمع البيت الإسلاميّ، وهو يحمل النّسبة الأكبر، سواء في العبادات أو المعاملات أو الأخلاق، ومن خلال العرض على كتاب الله لأنّه المتفق بين الجميع.
ثمّ النّسبيّة، أي أن هذه الرّوايات في الجملة نسبيّة، فهي أغلبها آحاد، فتقرأ في خطها النّسبيّ لا المطلق، والتّعامل معها بمرونة واسعة، على أن ينطلق الحوار من المشتركات الكبرى كما أسلفنا.
رابعا: تقديس وإطلاق التّراث، يعتبر التّراث بنصوصه وتطبيقاته، بأساطيره وواقعيته، الشفويّ منه والماديّ، ملكا للجميع، وتراث مجتمع البيت الإسلاميّ تراث إنسانيّ مفتوح، وهو تجربة بشريّة في مختلف فنون المعرفة الإنسانيّة والتّجريبيّة، إلا أنّ الإشكاليّة الّتي تؤثر على مجتمع البيت الإسلاميّ هو جعل التّراث جملة نصّا مطلقا، والتّعصب له، وحرمة نقده، والبحث في سوءات الآخرين عن طريق قصاصات الكتب الصّفراء.
كيف يتحقق الحوار هنا؟ يتحقق الحوار من خلال الأنسنة والظّرفيّة، أي قراءة التّراث قراءة إنسانيّة طبيعيّة، وهو ظرفيّ مرتبط بفترة زمنيّة، فقراءته لا تكون مطلقة، وإنّما يراعى الزّمان والمكان الّذي وضع فيه، فيستفاد من حسناته لينطلق منها في الحوار، وتنتقد سيئاته، ولا يتعصب لها.
خامسا: الألقاب والمصطلحات والأحكام المسبقة، فهي لا تخدم الحوار داخل المجتمع الإسلاميّ، فلا فائدة من إطلاق الأحكام، مثاله: الرّافضة والخوارج والنّواصب والحشويّة والمجسمة والزّنادقة.
كيف يتحقق الحوار هنا؟ يتحقق الحوار من خلال أسلمة المذاهب الّتي يسعها قوله تعالى: }هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ{ [الحج/ 78]، مع احترام الألقاب المدرسيّة.
سادسا: أسلمة السّياسة، وحياة النّاس، ومعاشهم ومعاملاتهم، وأقصد بالأسلمة التّوسع في إضافة المقدّس في حياة النّاس، وتضييق جانب البشريّة والحراك الطّبيعيّ فيها.
كيف يتحقق الحوار هنا؟ يتحقق الحوار من خلال الانطلاق من القيم الكبرى، والأخلاقيات الإنسانيّة، ثمّ ترك التّدافع الطّبيعيّ في حياة النّاس ومعاشهم وسياساتهم، لأنّ توسعة المقدّس يجعل الحوار ضيقا، والخلاف كبيرا.
وأمّا المعوّقات السّياسيّةوالاجتماعيّة والّتي تؤثر على الحوار فأهمها:
أولا: التّخوف من التّعدديّة والأبويّة الزّائدة، وذلك لطبيعة مجتمعاتنا أنّها أبويّة بشكل كبير، وتتكئ على اتجاه وفكر معين، فيحدث التّصادم نتيجة الانفتاح الكبير على الآخر في المجتمع من جهة في ظلّ أبويّة جامدة من جهة أخرى }مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ{[غافر/ 29].
كيف يتحقق الحوار هنا؟ يتحقق خلال إدراك أنّ التّعدديّة حالة صحية، وفتح المجال لأكبر درجة من الحريات المبنيّة على الحوار المطلق، والتّدافع الطّبيعيّ، واستثماره في خدمة المجتمع.
ثانيا: التّركيز على القضايا الهامشيّة، وتحويلها إلى قضايا رأي، فكثيرا ما يشغل المجتمع قضايا هامشيّة جدا، نتيجة جمود المجتمع على فكر معين، أو نتيجة الفجوة بين الأجيال.
كيف يتحقق الحوار هنا؟ يتحقق من خلال غرس التّركيز على الأساسيات، وهذا يتحقق من خلال الحرية في إقامة مؤسسات، والانطلاق من العمل الفرديّ إلى المؤسسيّ.
وأخيرا نشير إلى أهم المعوّقات الثّقافيّة والّتي تؤثر على الحوار داخل البيت الإسلاميّ:
أولا: النّظرة السّلبيّة إلى الشّرق وتراثه، من المثقفين من ينظر سلبيّا إلى الشّرق، ويعتبر تراثه مصدر التّخلف والرّجعيّة، وسبب تخلف المجتمع.
كيف يتحقق الحوار هنا؟ من خلال ما أسلفنا من الأنسنة والظّرفيّة، فتراث الأمّة كأي تراث إنسانيّ فيه ما ينفع، وفيه ما يضر، على أن يقرأ وفق ظرفيته.
ثانيا: اللّغة العلويّة المبالغ فيها، وعدم الاستماع للآخر، سواء في الكتابة أو الخطاب أو في النّظرة للآخر.
كيف يتحقق الحوار هنا؟ من خلال إدراك هدف الثّقافة وهو التّنوير والإصلاح، وهذا لا يتحقق إلا باحترام المختلف، والاستماع إليه، وإن رأيته متخلفا رجعيا ماضويا، فهذا إسقاطات علاجها باحترام ذاته ثمّ الحوار معه.
ثالثا: النّظرة المصالحيّة المبالغ حولها، فهو يقف مع المصلحة سياسيّا أو منصبيّا أو ماليا، فيكون الحوار بقدر ما يحقق مصلحته وغايته.
كيف يتحقق الحوار هنا؟ الحوار وسيلة لتنمية المجتمع بعيدا عن المصالح الذّاتيّة، فهو مرتبط بحق الإنسان كإنسان أولا، ثمّ كمواطن ثانيا في المجتمع.
———-
النّص جزء من ورقة مقدّمة للمنظمة الإسلاميّة للتّربيّة والعلوم الثّقافة – إيسسكو – واللّجنة الوطنيّة الكويتيّة للتّربيّة والعلوم والثّقافة ضمن حلقة عمل شبه إقليميّة حول تعزيز الحوار والتّماسك المجتمعيّ في إطار العمل الثّقافيّ الإسلاميّ المشترك بدولة الكويت، من 15 – 17 سبتمبر 2019م.