لم يكن ذلك الخوف الذي أسميته محبةً عائقًا كبيرًا، ربما، أو سببًا للملمة الأحلام وترتيبها كقمصان نظيفة، داخل حقيبة سفري التي لم أجرؤ على فتحها، حتى هذه اللحظة، اليوم أستطيع مواجهته برقصة جديدة تملأ فم الحياة المفتوح بالسكاكر، وتكلِّمها عن خصرها النحيل ومزهريَّات الخزف المقلوبة، عن قوارب النجاة، والعناوين المؤقَّتة التي كسرت الأقفال، وأزاحت الأغطية عن وجه الشمس .
أعرف أنها متأخِّرة، لكنها ستسعيد تلك البهجات الصغيرة والقليلة، كلَّها دفعة واحدة، ستعمل كمكنسة أيضًا؛ لابتلاع الأوساخ التي خلَّفتها أقدامُ اللصوص وإخوانُ الشياطيين، ستسمح للهواء بالدخول واللعب بشعري المبلَّل، وصفحات دفتر مذكِّراتي المفتوح.
كان بإمكاني تجاهُل كلِّ شيء، بَدْءًا من ذلك الهمس الذي لا يهمله اثنان يتقابلان صدفة، أو بموعد، أمام اسمك المبارك، إلى حُسْن ظنِّك، و دأبك الدائم لتلطيف الأجواء وتهدئتها، برغم كلِّ تلك المخاطر التي كانت تحيط بنا كعائلة، والتي تظهر في ذاكرتي، مثل جرس إنذار يدوِّي في صالة مغلقة.
كنتَ جميًلا عاشقًا للحياة والألوان، مهتمًّا بالبهجة، وخلْق الأجواء المرِحة، كنتَ ضدَّ الأسود دائمًا، ضد التشدُّد، ودودًا كريمًا عطوفًا، كوَّنتَ صداقاتٍ كثيرةً مع عمانيين وعرب وأجانب، من مختلف الجنسيات، تتحدَّث الإنجليزية والهندية، بطلاقة، أتذكَّر أصدقاء العائلة جيِّدًا، تفاصيلَ الزيارات، ورحلات الاستكشاف في الطبيعة، أذكر منهم السيد براون الإنجليزي الجميل الذي قال مرَّة: أنْ تشتري ساعة بدولارين، أو ساعةً بألف دولار، ستعطيك نفس الوقت بالضبط، حالها حال السيارة العادية، والسيارة الفخمة، ستوصلانك للمكان نفسه
لا أنسى أيضًا مواقفه النبيلة، ومنها وقوفه مع العائلة في مرضك، حين أصرَّ على أن يأخذنا إلى المستشفى لزيارتك، قاطعًا المسافات، في ذلك اليوم، من تنوف إلى حارة العين، ببركة الموز إلى مستشفى نزوى، إلى منزلنا، مرَّة أخرى، ثم عائدًا إلى تنوف، حيث مسكنه وعمله.
السيد ماثيو الإنجليزي النبيل، واللطيف جدًّا، صديقك القديم الذي بعد أن غادر عمان، وانقطع التواصل بينكما، ظلَّ يبحث عنك، في كلِّ زيارة يقوم بها لعمان، ولم يستطع الوصول إلى عنوانك مجدَّدًا، عثر عليه في الوقت الذي لم تعد فيه موجودًا، بعد أن استدلَّ إلى فكرة إرسال خبر عن بحثه لجريدة (الأسبوع ) التي تصدر بالإنجليزية في مسقط.
عنوانه “البحث عن أصدقاء قدامى في عمان”، مصحوبًا بمجموعة من الصور القديمة، كان أمرًا مفاجئًا لي، حين اتصلَّ بي أحد الصحفيين في الجريدة؛ ليبلغني بذلك.تواصلنا مع السيد ماثيو، والتقى أفراد العائلة، في أحد الفنادق بمسقط، لم نكن نعرف عنه شيئًا، ولا بعلاقته بك، حكى لنا الكثير عن تلك الأيام التي جمعتكما معًا.ما زال السيد ماثيو وزوجته السيدة سوزان في تواصل دائم مع العائلة، حتى هذا اليوم.كنتَ مهتمًا بأخبار العالم، تستمع إلى إذاعة لندن، يوميًّا، الراديو لا يفارقك، تحبُّ الطبيعة، والجلوس في الهواء الطَّلْق.
ولحساسيِّتك المفرطة، كنتَ تبتلع كلَّ ألم، لا تفصح عن شيء، على الإطلاق، مررتَ بأيام صعبة تعبتَ كثيرًا، حملتك الأيام على كفِّها، إلى أن نمت، نمت طويلًا، ولم تستيقظ.. طيلة تلك السنوات، لم أكن أمشي باتجاه محدَّد، كنتُ أسير حول خط الدائرة المرسومة، تلك الدائرة التي لم يتعرَّف عليها أحد سواي، لم أصل إلى أيِّ مكان ،كلُّ شيء كان غائبًا وبعيدًا عنِّي، ولا يمكن اصطياده، أو الإمساك به، لكن الأحلام كانت تتدفَّق، مثل فلج نشِط، يعبُر المزارع ليلًا، أسمع صوتها الهادر بوضوح، ولا يمكنني لمسُها، أو رؤيتها مجسَّدة أمامي.
انظرْ، يا أبي، تلك الفتاة المشاغبة التي كنت تخاف عليها كثيرًا كثيرًا، لا تزال كما هي، يمكنها الركض في الشوارع الداخلية، دون أن تأبه لأحد، هذا ما يحدث فعلًا، لكن الطرق الداخلية في القرم محاطة بالأشجار والبيوت الجميلة التي تمنح الروح بهجة أكثر نضارة وصحَّة، كمن يوزِّع على المارَّة ابتساماتٍ مجانية، ليس ثمة أعين وقحة هنا .لكن هل يمكنها أن تضحك، مثل ذلك اليوم الذي كنتَ تطاردها فيه بسطلٍ مليء بالماء، عدتُ مجدَّدًا لفتح الألبومات، وتصفُّح الصور؛ ما الذي أعرفه عن هذا الرجل البسيط الحساس الممتلئ بالأسرار ؟
عليَّ أن أجري اتصالًا مع أمي؛ لأتعرَّف أكثر على ملامح تلك البدايات الصعبة التي واجهها هذا العماني الثوري الذي عاش حياة قصيرة تشبه اللغز، قبل أن يأكلها النسيان، وتفتِّتها أقدام الزمن الضخمة.
عرفتُ اليوم من أمي أنك بدأتَ حياتك من هنا، من هذا المكان القريب من سكني الجديد،لقد بدأتَ مكافحًا غير اتِّكالي، بدأت كعامل منزل، في بيوت الإنجليز بسيح المالح، أيام الاشتغال على الإنتاج النفطي، في عهد السلطان سعيد بن تيمور، نهاية الستينيَّات، لا أعرف كم استمرَّ عملُك، هناك، ومتى بالتحديد قرَّرتَ المشاركة في حرب ظفار، لكن مشهد نجاتك من موت محقَّق يعاود الحضور، كما لو أنه يحدث للتوّ، وأنت ترويه في إحدى الجلسات المسائية اليومية.
كدتَ تفقدُ حياتك، عندما تعرَّضت الشاحنة التي كنتَ تستقلُّها مع أحد رفاقك لإطلاق نار كثيف، نجوتَ منه بأعجوبة، حين استطعت الخروج من الشاحنة، والزحف خلف أحد الإطارات، في الاتجاه المعاكس لإطلاق النار.
بعدها سافرتَ سرًّا إلى العراق؛ لتنضمَّ للجيش العراقي، التقيتَ بالرئيس صدام حسين، بقيت هناك لعامين تقريبًا، انتقلت بعدها للسعودية، وعملت مسؤولًا عن صالة بولينج،وبعد أن سمعت عن الاعتقالات التي طالت عددًا من رفاقك في عُمان، قرَّرتَ الانتقال من السعودية إلى الإمارات.
لكن في هذه الأثناء، كان والدك يبحث عنك، بعد أن تحدَّث إليه والدُ أمي، في أمر غيابك الطويل، ومسألة الانفصال، في حال لم تعد، والدك طلب مهلة حينها، إلى أن يعود من رحلة الحج، إن لم يُحضرك معه، فسيكون لأمي ما طلَبَتْ.
ظلَّ والدك يبحث عنك في السعودية، ولم يجدك، ثم بطريقة ما عرف أنك في الإمارات، واصل بحثه، إلى أن استدلَّ على مكانك، وأقنعك بالعودة، ربما جاء ذلك الاطمئنان، بعد أن أطلق السلطان قابوس، رحمه الله، كلمته الشهيرة، في خطابه التاريخي الموجَّه للشعب، في 9/أغسطس عام 1970، بعد تولِّيه مقاليد الحكم في البلاد.
“إلى إخواننا الذين أجبرتهم ظروفُ الماضي التعس إلى النزوح إلى خارج الوطن، فـ لأولئك الذين بقوا على ولائهم لوطنهم، ولكنهم اختاروا البقاء في الخارج، نقول: سنتمكَّن في وقت قريب من دعوتكم لخدمة وطنكم، أما الذين لم يكونوا موالين لوالدي في الماضي، أقول : “عفا الله عمَّا سلف .. عفا الله عمَّا سلف”، اقتنعتَ بالعودة، أحرقتَ كلَّ ما لديك من صور ووثائق وحقائبك كاملة، وعدتَ مع والدك إلى عمان؛ لتبدأ حياة جديدة.
بعد عودتك كان عليك أن تبحث عن عمل، ووجدتَه في شركة سترابك التي أسندت إليها مجموعة من المشروعات في السبعينيَّات.
خرجتَ من حارة السيباني، من بيت والدك إلى منزلك الجديد، في حارة العين؛ لتبني لعائلتك حياة مستقلَّة ومستقرَّة.
انتقلت للعمل في شركة ويمبي، إلى جانب عملك الآخر، رئيسًا لنادي نزوى، ولا أفوِّت جزئية معسكرات التدريب التي حوَّلتَها لمعسكرات تدريب عسكرية؛ القفز، الزحف، والأسلاك الشائكة.. إلخ؛ لتنشئ جيلًا قويًّا، هذا ما كنتَ تؤمن به، في ذلك الوقت مواجهة الحياة بالقوة والشجاعة والصلابة، وأيضًا اهتمامك بالأسماء كان لافتًا؛ غيَّرتَ أسماء عددٍ غير قليل من لاعبي الفِرَق، وغيرهم.
عُرِضت عليك العديد من الوظائف القيادية، لكنك كنتَ ترفض ذلك؛ لخوفك ربما من تبعات الماضي، ولأسباب أخرى أيضًا، ثم عملتَ مديرًا للعلاقات العامة، بمصنع المياه، بتنوف الذي كان يديره السيد سامي بن حمد البوسعيدي – توفِّي السيد سامي في العام 1988، إثر حادث أليم.
لا أعرف لماذا إلى الآن، كلَّما أتى ذكر هذا الرجل أشعر بغُصَّة، ربما لعلاقته الجميلة بك -هذا ما تقوله الصور والروايات، ولنبله وكرمه المعروف عنه، أيضًا.
أخيرًا، أريد أن أخبرك عن تلك الالتقاطة الأخيرة لوجهك؛ وجهك المتناغم مع لون شراشف السرير الأبيض، والسكون، عن تلك الإشراقة وانبساط الملامح والعينين المغمَضتين، لوجه هادئ طبعتُ على جبينه قبلة، ظلَّت عيناي تصدِّقان لسنوات، وإلى هذه اللحظة، حتى بعد مرور ثمانية عشر عامًا أنهما التقطتا وجه رجل نائم؛ وجه رجل غارق في حلم طويل، ولا يريد أن يستيقظ.