الثقافي
السعودية هدى الدغفق: خسرت كثيرا لأجل الكتابة
التكوين: الرياض
هي إحدى التجارب البارزة في المشهد الشعري السعودي. شقت طريقها بثقة وثبات، حتى باتت اسمها شعريا لافتا داخل السعودية وخارجها. تكتب بشراهة وتعمل على مشورعها الإبداعي وافعلامي دون كلل أو ملل. سجلت حضورها في المحافل السعودية والخليجية والعربية، بل والعالمية، وحظيت أعمالها بالترجمة إلى عدد من لغات العالم. إنها الشاعرة والإعلامية السعودية هدى الدغفق التي تطل علينا عبر مجاميعها الشعرية الهامة مثل(الظل إلى أعلى) و(لهفة جديدة) و(بلا طيره ألمي) و(أربي ظلي على العصيان). إلى جانب كتاب يشتمل على سيرة ثقافية فكرية بعنوان(أشق البرقع .. أرى)، وكتاب يحتوي على حوارات بعنوان (فلسفة المستقبل)، وكتاب (هيستيريا الافتراض) في الأدب التفاعلي الرقمي، وكتاب :(متطايرة حواسي)، وهو عبارة عن شذرات سيرية.
ترجم لهدى الدغفق مجموعة من الأعمال إلى لغات مختلفة مثل: (سهرت إلى قدري) المترجم إلى اللغتين الإنجليزية والإسبانية، و(امرأة لم تكن) وهو مترجم إلى الفرنسية، و(ريشة لا تطير) ومترجم إلى الإنجليزية، و(بحيرة وجهي) وهومترجم إلى الإسبانية، بالإضافة إلى مجموعة شعرية مترجمة للإيطالية بعنوان ( ِمثلُ نبض).
التكوين تبحر مع هدى الدغفق لتفتح قلبها للحديث عن هذه التحربة العميقة ورؤاها في الشعر والحياة والإبداع في آفاقها الواسعة.
ــ أنت من التجارب الشعرية النسائية السعودية التي واجهت تحديات التقاليد وعايشت تحولات اجتماعية كبيرة .. كيف تنظرين إلى هذه التجربة بين الأمس واليوم؟
** سأبدأ من المرحلة الشعرية التي انتميت إليها وهي مرحلة أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات حيث كانت تلك المرحلة غنية بتحولاتها الثقافية والاجتماعية والدينية، وهي مرحلة كانت قاسية على الإبداع كثيرا بسبب نشوط حركة التطرف التي اتخذت طابعا دينيا كانت له تبعاته المرهقة للمبدع والإبداع وصادمة لمشروع الحداثة في الشعر السعودي بشكل خاص. لقد اضطرت تلك المرحلة كثيرا من الشعراء أن يتنحوا عن النشر وإن لم يتنحوا عن الإنتاج الأدبي. تيار التطرف الموجع كان محبطا جدا للساحة الأدبية السعودية بشكل عام خاصة وأنه وجد مناخا صحيا من التبعية لدى العامة وهم من يعدون النسبة العظمى والنخبة هم المثقفون. تلك المرحلة المتقدة ثقافيا والمشحونة في الوقت ذاته بأشباح التطرف جعلت الصراع فيما بين تيارين حداثي وتقليدي يستفحل حيث تم استغلال التقاليد بشكل كبير للخلط فيما بينها وبين التطرف ايدلوجيا. في هذا المناخ من التناقض والتوتر كانت القصيدة تحاول أن ترسم معالمها دون الالتفات إلى ذلك الاحتقان يقينا من شعرائها بأن المستقبل سيفرض مناخه الصحي. وهو ماحدث بالفعل مع تأخره وبؤسنا بالتيار المتطرف الذي كان شديد الانتقاد للشعر. وكانت السلطة والمسؤولون الثقافيون والمنابر الإعلامية والأدبية تضع اعتبارا كبيرا لآراء من تنطعوا وبالغوا في إيذاء الأدب السعودي وأهله بل وتخشى مواجهتهم بسبب جماهيريتهم.
كانت مواجهة التقاليد التي التبس على العامة الربط المخادع لها بالمفاهيم المتطرفة وتعززت قوة كليهما بالآخر وبدت بعد ذلك صعوبة التحرر من ظلاميتها متضاعفة. إنني أقول وبكل ذاكرة وجع شكلتني آنذاك أن المواجهة لم تكن سهلة مطلقا ولم تزل بعض رواسبها في ذهني حتى اليوم ومازلت ناقمة على تناقضات تلك المرحلة. لقد كان خوض أي حوار مع العائلة حول الحداثة والكتابة شأنا لاتحمد عقباه وبخاصة لأنثى مثلي فما بالك بماعدا ذلك من انتماءات قبلية مفروضة وفي مرحلة كانت فيها المرأة تجد صعوبة في نشر كتاباتها باسمها الصريح؟. وهذا الشأن القبلي البحت الذي انحصر في انتمائي إلى أسرة نجدية محافظة ومتدينة في الوقت نفسه كان يثقل كاهلي كثيرا برقابة ضمنية وفردية بالإضافة إلى أشكال الرقابة التقليدية الأخرى التي تراكمت آنذاك حيث كانت وزارة الثقافة مثخنة بسطوة أصحاب الرقابة على ما نكتب وننشر ونطبع، وكنت آنذاك قد تخرجت من الجامعة لتواجهني تلميذاتي في المرحلة الثانوية بأنني من الحداثيات حيث لم تكن مفاهيمهن للحداثة واضحة فقد كن يرينها مضادة للعقيدة الإسلامية وذلك بفضل انتشار كتاب (الحداثة في ميزان الإسلام) الذي وضع كل من يكتب القصيدة الحديثة في خانة الملحدين وكتب اسمي من ضمن أولئك حاكما علي من تجربة نشري الأولى لنص (اشتعالات فرح مثقل) ودون خلفية معرفية محصنة قررت أولئك المراهقات بفضل معلمات الدين تبني ذلك الرأي بتهمة إلحادي كانت تلك التهمة تلاحقني في كل حصة مدرسية وعند باب كل فصل. وبشكل عام فذلك الخليط من التجارب المبكرة هو ما تخلق به ومنه تمردي وعقلانيتي معا.
ــ وكيف كنت تواجهين كل ذلك؟
** لا أبالغ إن ذكرت للقارئ الكريم بأنني استطعت أن أوحي للمتلقي السعودي بحلمي وطموحي بالتغيير فيه، كما أن مواصلة المضي في تحقيق الهدف، والإصرار على عدم التنازل عنه رفعت من شأني أدبيا واجتماعيا، بالإضافة إلى أنني لم أنسلخ من علاقتي الودود بذلك التلقي البسيط واستقبلت ردود فعله بالمحبة والروح المخلصة وكانت تلك الطريقة كفيلة بكسر الكثير من القيود وفقدان الثقة فيما بيننا، ذلك ما صنع لي قاعدة من القبول الاجتماعي وهو الأهم في نظري بغية التأثير الإيجابي فيه. وبمضي الوقت فأنا أراهن على أن الواقع والمجتمع بطرفيه الذكوري والنسوي يتحسَّس مدى جدية الكتابة ومضيها نحو هدفها؛ فيؤمن بإرادتها ويحترمها وإن لم يكن متقبلاً قناعاته وهو ماحصل وبه تحقق الهدف.
مواجهة النظام الأبوي القبلي
ـــ ما هي التبعات التي تتحملينها كامرأة شاعرة في محيط عربي ذكوري؟
** لست ممن يرين التصنيف على هذا النحو من التصور المحبط برغم أنني لاأنكر سلطته ومعاناتي منه، ولكنها معاناة تولدت من التربية التقليدية السائدة في مجتمعنا العربي السعودي بشكل خاص كونه مجتمعا يتبنى نظاما أبويا قبليا، فلا كيان مستقل ولارأي للمرأة فكيف بها شاعرة أو مفكرة؟. إنها مأساة أن تنمو البنت في بيئة تقليدية محافظة وهي حالة إيجابية في الوقت نفسه، كون ذلك الأمر يصنع منها امرأة ناضجة ومستقلة ومتمردة حيث انطلقت مواجهتها مع مجتمعها الصغير اولا وهو الأسرة بحيث تأكدت بذلك مراهنتها على التغيير والتأثير في الوعي الاجتماعي وعلاجه بالكتابة والمعرفة. لقد كنت ولم أزل أشعر بالعطف والشفقة بل وأرأف بعائلتي ومجتمعي الذي تلقى تربية وهي وان كانت صالحة فهي قاسية جدا على الأنثى والذكر معا وماهذا المجتمع إلا نموذج ملتزم بمبادئه التي تلقاها ونشأ عليها، انها رسالته الأهم في الواقع والحياة.
وفي ظل ذلك ساورتني ولم تزل وستظل تساورني رغبتي في عدم الكتابة ولكنني لاأستطيع أن أغالب رغبتي في الكتابة لقد أضحت مصيرا محتما بالنسبة لي. وهذا ماأدركه يوما عن يوم.
أشق البرقع أرى
ــ كتبت سيرتك الذاتية (أشق البرقع أرى ) 2011، في سن الأربعين وكتبت بعدها بأعوام سيرة ذاتية أخرى(متطايرة حواسي) 2017م. ما أهمية تلك الكتابة السيرية؟. وماذا استفدت من كتابتك السيرية خاصة وأنك امرأة سعودية ومن أسرة محافظة؟.
** كتاب (أشق البرقع أرى) عاش كثيرًا من أزماتي الخاصة مع المجتمع ومع ذاتي، حيث وضعت فكري ونفسي في مواجهة حقيقية مع أحوالها وظروفها العامة والخاصة الثقافية والفردية والاجتماعية والإبداعية، حيث طرحت على أدواتي السؤال: ما جدوى الكتابة إذا لم تكن شفاءً وعلاجًا ووقاية؟! واشتغلت على هذا الأساس. تُقِد كتابي في البدء؛ لأن فكرته كانت محض سيرة ثقافية أدبية، وزعم بعض المنتقدين بأن السيرة لابد أن تكتب في سن متأخرة قليلاً، وقيل ما الخبرة التي تمتلكينها لتكتبينها؟! إلا أنني أردت كسر “التابوه السّيريّ” مبكرًا، وسجلت صراحة مبكرة إلى حدٍّ ما بالنسبة لمرحلتي الأربعينية، ومن انتقد لم يكن يتقبل أن تكتب سيرة في الأربعين من العمر فما بالك بأن الكاتب أنثى، وأكثر من ذلك تعقيدًا في مجتمع خليجي سعودي، وأن تكون تلك المرأة المثقفة تنتمي إلى أسرة محافظة. كل تلك المراهنات والأحوال هي مادعتني إلى الانطلاق في تشريح الواقع الاجتماعي السعودي. وفي كتابي (أشق البرقع أرى) طورت قدرتي السردية إلى جانب المقدرة الشعرية، بالإضافة إلى أنني قطعت شوطًا كبيرا في محاولة مصالحة ذاتي، من خلال الصراحة والوضوح في مواجهتها بالآخرين. ولقد تعرضت بعد طباعة كتابي ذاك إلى بعض الصعوبات الاجتماعية، وشن بعض المتشددين والتقليديين الهجوم علي، حيث حاول أمثال أولئك الخلط والتشويش بغرض إساءة السمعة، والتقليل من قيمة ما تنشده تلك السيرة، وبدا استغلال سذاجة بعض التبعيين وهمجيتهم في الاجتهاد وترويج بعض الشائعات المغرضة للإساءة إلى سمعي ككاتبة، والتقليل من وطنيتي، والتشكيك في مدى إخلاصي لانتمائي حيث تناولت قضايا المرأة في بلادي مثل إعطاء المرأة حقوقها من حيث جنسية الأبناء وكذلك تصريح السفر والسياقة وبعض الشؤون القضائية وغيرها، ولقد كنت على استعداد تام للرد والمواجهة، ولربما كانت الحوارات الصحافية التي قمت بالرد عليها -والتي كانت قد نشرت في الصحافة السعودية خاصة- بمثابة اكتشاف لمدى نجاحي في صياغة طرق رد مناسبة للمواجهة مع ذوي العقول التقليدية، أو الأخرى المتطرفة والتي تتخذ من قضايا المرأة ملاذا للقدح في الكتابة والكاتبة.
واجهت صعوبة كبرى لأستطيع ان استقل وأقول وافعل وارى ما أرى واكتبه وكثيرا ماالتقطت أنفاسي وفررت من بوحي وكثيرا ماتلفت من حولي ورفعت رأسي لأتاكد بانه لا شبح رقيب هناك او هنا من حولي و كي أؤكد لراويتي انني اتنشق هواءا نقيا لاتتلصص عليه اية ذرات كربونية وربما اضطررت إلى السفر الى أماكن أخرى بعيدة عن حدودي لأكتب فقرات دقيقة وأعالج بعض مفاصل بوحي وأصفه بسكينة ودون تأثر نفسي وفكري بالرقيب الداخلي الخارجي حتى امتلا كتابي بنخاع احساسي وأحييت عظامه بدم هواجسي ويومياتي .
ولأنه لم يزل هم السيرة الذاتية يسطو على اهتماماتي كتبت كتابي الثاني في هذا المجال وهو كتاب (متطايرة حواسي) 2017 متناولة العلاقة الحميمة بين المرأة والموجودات وعلاقات أخرى تخص السفر والكتابة والعائلة والمكان والزمان والطبيعة وتحولاتها والفلسفة والشعر والموسيقى. كما طبعت في السنة نفسها ديواني الرابع بعنوان (أربي ظلي على العصيان) الذي أعده مهما بالنسبة لي حيث تتجه قصائده نحو معالجة علاقة الظل بي وكذلك علاقتي كامرأة بكل ماهو كوني اجتماعي وذاتي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحوار الكامل في العدد التاسع والعشرين، مارس 2018م.