اعتاد الجاهليون على الاحتفال بالشاعر الصاعد وتنصيبه أميرا على عرش الكلام البليغ وإفراد المساحات الواسعة له داخل المجالس والمنتديات وأمام رؤساء القبائل والملوك؛ كما هو الحال مع المناذرة والغساسنة، فما الذي دفع هؤلاء الجاهليين إلى الاعتناء والاحتفاء بالشعر إلى هذه الدرجة؟
نموذج الشاعر الجاهلي ينطبق وإن بدرجات متفاوتة على واقعنا الثقافي حيث الغلبة للإبداع والكتابات الجمالية والاهتمام بأصحابها ورعايتهم وعمل المسابقات والجوائز وتكريم المتفوقين من المبدعين، فالعقلية الجاهلية ونسقها استمرَّا إلى زماننا الحالي وإن بدا ذلك بصورة لا واعية.
ما معنى الاحتفاء بالجمال؟
ولماذا كل هذه الرعاية للإبداع؟
وأي دلالات تحملها؟
وأين نشاهد نتائجها؟
أسئلة مركزية ولا شك، وهي تغوص بعيداً إلى عمق ثقافتنا الممتدة منذ الجاهلية إلى اليوم ولا يمكن الفصل بين المراحل مهما اختلفت الدول وقامت أو سقطت فالإبداع سيرورة حضارية مستمرة ونامية.
لو رجعنا إلى العصر العباسي في نهاياته ووجدنا هجوم هولاكو على بغداد وقتل وتشريد أهلها لدرجة أن مياه دجلة اصطبغت بالأحمر القاني من كثرة سفك الدماء، لأدركنا أننا أمام لحظة فاصلة في تاريخنا الثقافي، وكان يمكن لهذه اللحظة أن تقتل الروح الإبداعية بداخل الإنسان العربي إذا ما استسلم لها، العكس هو الذي حدث.
بعد سقوط بغداد أخذ الشعراء البكاؤون بالنياحة عليها وعلى الخلافة الإسلامية المتمثلة في حاكمها وقتله على يد الجيش الغازي، وانطلقوا في نياحتهم نحو تذكر ماضيها المشرق واحتضانها لجميع الأجناس والأعراق، والأهم من ذلك أنها كانت قبلة المبدعين من الكتاب والشعراء، فمع هذا الألم العظيم بالفقد جاء الحنين بعودتها ذات يوم إلى سابق عهدها.
الملاحظة التي يمكن رؤيتها هنا هي في احتفاء الأقطار الأخرى كمصر والشام والحجاز والمغرب العربي والأندلس بهؤلاء الشعراء واستقبالهم والاستماع لقصائدهم في المدينة المنكوبة، وهذا الاحتفاء وإن حضر بدرجات متفاوتة إلا أنه مؤشر جيد على صدق ما نذهب إليه.
أما لماذا كل هذه الرعاية للإبداع واحتضان المبدعين؛ فهي تأتي من باب الاهتمام بالشأن الثقافي وإدراك أن المبدع هو صورة الدولة أو المدينة أو المنطقة التي يسكنها، فامرؤ القيس يمثل صورة الحياة البدوية الجاهلية والمتنبي يمثل صورة الدولة العباسية، وعلى هذا الأساس يمكن قياس الشعراء والكتاب.
أكبر فائدة تحصل عليها المدينة المستضيفة للإبداع والمبدعين تتمثل في خلودها وارتفاع اسمها وأسهمها بين بقية المدن والبلدان، حيث تتشكل في أذهان الجماهير صورتها الحسنة وأنها متطورة وراقية وتسير بخطى واثقة نحو الأمام، فالإبداع مرحلة تالية للعمران والسكن.
حين نبحث حول الدلالات التي يمثلها الاهتمام بالمبدع والإبداع فإننا نقف أمام وجهين متناقضين، إذ لو عدنا إلى المأساة التي حلت ببغداد لوجدنا آثارها المدمرة متجاورة مع اهتمام البلدان التي حولها بالمبدعين، وهذا ما يزيد السؤال اشتعالا، فكيف لفرد أو لحاكم أن يحتفي بسقوط دولة ومدينة وهلاك ملايين البشر!
أمام الفرح والبهجة ثمة وجهة مظلم وقاتم لا يمكن رؤيته بسهولة، فالخراب والدمار والحطام الكبير في العالم وفي داخل بني الإنسان، يقابله على الضفة الثانية فرح وبهجة وسعادة وجمال، وهي الأشياء التي يقدمها المبدعون، فالإبداع يحتفي بالخراب ويستعيده ليس لذاته، إنما لصناعة عالم خال منه ومتجاوز له.
النتائج والآثار من السهل مشاهدتها في أعمال المبدعين، فالشكاية من ظلم ذوي القربى – كما فعل طرفة بن العبد – لا تعني الاعتناء وتمجيد والإعلاء من هذا الفعل وإنما لتحطيمه وتدميره وإقامة عالم جميل على أنقاضه، هذا الفعل؛ بما هو فعل بناء، لا فعل هدم؛ هو ما سعى إليه المبدعون وتغلغل بداخل كتاباتهم.
بقي أن نشير إلى أن الإبداع لا يأتي على وتيرة واحدة فهناك الشعر والقصة والمسرحية وهناك أيضا النحت والرسم والتصوير وهناك الترميم والنقوش، جميعها والكثير غيرها تندرج ضمن الإبداع، ويتم رعايتها والاهتمام بها، ومنح الجوائز والأوسمة لممارسيها والمتفوقين فيها.