مقالات
في وادي محرم أستعيد مئوية أبي مسلم وأتشاقى مع أول رئيس للتحرير
حمود بن سالم السيابي
كان الرذاذ يكتب قصيدته حين وصلت “المحضر” بوادي محرم فتتبعت السواقي إلى بيت أبي مسلم فالشعراء لا يبتعدون كثيرا عن الينابيع ، ومساكنهم حيث تتكثف الخمائل دوماً ، وحيث يطيب للحمام الهديل.
وكما يتخير الشعراء أجمل الإستهلالات للقصائد يتخيرون لمساكنهم أعالي الذري التي تتيح لهم أجمل الإطلالات.
قادتني ساقية “فلج بوخشاشة” إلى حارة الحصن لأشرئب بعنقي نحو قصور آل الخليل التي ارتقتْ هذا الشامخ الجبلي ، فكان عليّ أن أتخير لصاحب “تلك البوارق حاديهن مرنان” أجمل البيوت وأعلاها.
إلا إن الوالد عبدالله بن ناصر بن عامر الرواحي وهو آخر الذين مدوا جدار بيوتهم بحارة الحصن ليجاور مسجد “الحوية” لم يترك لحدسي أن يتوجه لبيت أبي مسلم ، ولا لفراستي لأن تتعرف على جدران بيوت الشعراء.
ولم يمهل حاسة الشم لديَّ لأن تمد “مجسّات” استشعاراتها نحو الوسائد المغسولة بياسمين القصائد فانتشلني الوالد عبدالله من تشابك الأمنيات بين أجمل قصر لأبي مسلم إلى القصر الذي اختاره القدر ليطال من درايشه الشاعر ناصر بن سالم بن عديم الرواحي غدور النخل ، ويتلقَّى حبات البَرَد من شرفاته بيديه قبل أن تتشضَّى إلى أوديةٍ من ثلج تسيل من قمم المكان.
وكان الوالد عبدالله الرواحي بين آخر الباقين الذين رأوا الإمام الرضي الخليلي فشممت في عمامته أريج نزوى و”سَحْرا” وزعفران “المحْضر” في وادي محرم.
وصافحت فيه يداً صافحت يد الإمام.
هرولْتُ والوالد عبدالله في دروب حارة الحصن لنسابق الخطوات وكأننا على موعد عزومة في بيت الشاعر أبي مسلم في مئوية رحيله (توفي في صفر ١٣٣٩).
كان الوالد عبدالله الرواحي يتقشع “بباكورته” ليتوازن مع التاريخ ، وكنت أسابق أنفاسي فيختل توازني وتتبعثر خطواتي وأنا أعتصر الشوق لأبلغ بيت أمير شعراء عمان.
هاهو البيت إذن وقد بدا حزيناً وكالحاً لولا سدرة خضراء كسرت لون الطين ومدت الظل حيث اعتاد أبو مسلم أن يجلس ليخاتل شياطين الشعر وليسبك القلائد التي يزدان بها جيد الزمان.
ورغم حزن القصر ويُتْمِ المكان إلا إنه يشي إلى أمسٍ باذخٍ يليق بتخيلي لمنزل صاحب النونية ، وإلى شموخٍ يناسب أبيات استنهاضات”يا للرجال” ، ويليق بسحر صاحب رائية “سميري وهل للمستهام سمير”.
أشار الوالد عبدالله الرواحي إلى البيت فتفصد جبيني عرقاً وأنا أدلف فتحة الطين التي تخلَّتْ عن بابها الخشبي ولم تعدْ بحاجة لأن يطلق الداخلون “هود هود” بينما ذاكرة الوالد عبدالله لا تزال تقرع بالباكورة الحِلَقَ المتوهمة للبوابة ، وتقلِّب في الصكوك القديمة لأرض البيت التي كانت مملوكة لجده عامر بن سلطان الرواحي قبل أن يشتريها منه صالح بن محمد الرواحي المعروف بولد الوكيل فيشيِّدُ عليها هذا القصر.
إلا أن ولد الوكيل لم يطل به المقام فيه ، إذ سرعان ما هجره ليتيمم شطر البر الإفريقي للوطن فيعود أبو مسلم الرواحي مالكاً جديداً للبيت بكل استحقاقات هذا العنفوان في البناء.
يتكون القصر من طابقين ويتم الدخول إليه من البوابة المتصلة بحارة الحصن عبر الدرب المتصلة بمسجد الحوية.
وينفتح الباب على غرفة للضيوف تليها أخرى تنفتح على الواجهة الأخرى ولعلها سبلة البيت لاتصالها بباب جهة الدرب المتصل بالبساتين.
وتنفتح الغرفتان على الفناء الداخلي ثم تتدرج مرافق البيت من مجالس للعائلة إلى مطابخ وغرف تتوزع على طابقي البيت للنوم والطعام والجلوس.
أنهى الوالد عبدالله الرواحي مهمته بتعريفي بالبيت وحضوره في الوعي والوجدان ، ثم ودعته بعد أن نكأ كل الجراحات والذكريات ، ومضى يتقشع مجددا بباكورته باتجاه مسجد “الحوية” لأغرق لوحدي في لجج بيت أبي مسلم الغائب الحاضر ، بل الحاضر الذي لا يغيب.
وتخيلتُ وأنا في جلستي تلك أبا مسلم يدخل متأبطا صحيفة النجاح كأول رئيس تحرير عماني لأول صحيفة عمانية عربية تصدر في زنجبار فأقف بجواره لأبدي رأيي في “اللوجو” الذي ظهر في العدد الأول للنجاح الصادر في الثاني من أكتوبر ١٩١١ فيرمقني أبو مسلم بنظرة من عليائه.
ويتملكني الغرور وأنا أجالسه تحت السدرة وأمامنا “بستان البيت” وفلج “بوخشاشة” يتلوى بساقيته بين النخل والأمباء ، وبالجوار “شرجة الخب” وقد تبلل حصباؤها أثر غيمة عابرة.
وبينما يدندن أبو مسلم بمطلع لقصيدة جديدة ألقيتُ في سمع أبي مسلم رأيي في العنوان البريدي للصحيفة والذي يعلو “اللوجو” وقد حمل إسم “شارع البرتكيس” فكان من رأيي أن الأوْلى بصحيفة تستلهم عنفوان اليعاربة الذين دوخوا البرتغاليين أن تتخير مكانا يليق باسمها كصحيفة لحزب الإصلاح لتكون على شارع يتلألأ بقامة عمانية كشارع ناصر بن مرشد أو سعيد بن سلطان أو برغش بن سعيد خاصة وأن الانجليز خلفاء الهيمنة البرتغالية يصنفون صحيفة النجاح كجريدة غير موالية للإدارة الإنجليزية ، فيقطيب أبو مسلم حاجبيه .
وأتمادي في تطاولي بإبداء رأيي في التبويب الفني للجريدة وبضرورة إجراء لمسات تجديدية للصفحة الأولى كإضافة نهر رابع لأنهارها الثلاثة ، وتمييز حروف العناوين عن بقية حروف مواد الصحيفة فيمتعض محدثي بتحريك شفتيه.
وأواصل إزعاجي لأبي مسلم لأنهيه بأمنية أعلقها على أهداب عمامته الشريفة قبل أن أتركه ليكمل قصيدته ، بأن يعتمدني مراسلا للنجاح في الفيحاء لأكتب له عن السمدي من أول “صوار” ينساب فيه ، وإلى آخر سفرجلة تنتظر بشوق “بادة” الإرتواء.
ولأوافي جريدته برسائل عن بيت السبحية حيث روح الشهيد سعيد بن خلفان تحوم كل صباح.
وسأخبره عن حركة البيع والشراء في أسواق “العلاية والسفالة والخوبار”.
ولأحدث قراء النجاح عن “فلج القلعي” وهو يعزف السيفونية السمائلية الثانية ، وعن بيت الصاروج حيث الجبور أخوال سلطان بن أحمد الذين دفعوه ليجلس على عرش عمان .
وكانت سماء وادي محرم بدأت تمطر وأنا ما زلت أشتبك صحفياً مع أول رئيس تحرير عماني وأمطره بالأسئلة وديمة الأمنيات فودعته قبل أن يعتمدني مراسلاً لصحيفته لأخرج منكسرا ومعي حيطان القصر الآيلة للسقوط وسدرة البيت التي تمد ظلها حيث لم يمتد الترميم بعد لهذا الجزء البهي في التاريخ.
ومرة أخرى تحتويني الخمائل في طريق العودة فأسير متتبعا ساقية “بوخشاشة” إلى ظل الأمباء حيث ظل البداية.
وكانت سماحة وجه الوالد عبدالله بن ناصر الرواحي آخر قصيدة كتبها وادي محرم.
وكانت “باكورته” على الحصباء آخر “التقشعات” على الزمن الجميل.