مقالات
آخـر الأوراق… رَمْلَةٌ كنتُ جَنينَ رُكامِها
حسن المطروشي
(1)
كُنْ أوّلَ الضوءِ والتكوينِ والزمنِ
كُـنْ آخـرَ الغـيـمِ يا خَـفَّاقُ يا وطـني
كُنْ تَمْرَ صُبْحي مع الفنجانِ، كُنْ شَجَراً
كُـنْ أنـتَ، يا سيـدَ الأسـماءِ والـمدنِ
أنتَ الجهاتُ إذا صَدَّقْتُ خارطةً
وأنتَ، يا حـقُّ، بَـعْــدَ اللهِ تَـسْـكُــنُـنـي
حسن
(2)
نحن لا ننبت من الفراغ. إننا نقيم في أرحام أماهتنا تسعة أشهر، يحملننا وهنا على وهن. ثم نقضي بقية أعمارنا في أحضان الوطن. نجوب بقاع العالم، وتأخذنا المحطات، وتبعدنا المطارات والمنافي، وتمضي بنا الطراقت والموانئ إلى متاهات البعيد، ثم نعود إلى دفء بحنين العصافير لأغصان المساء.
وحين نغادر الوجود ونرجحل من هذا العالم، نعود بعدها إلى رحم الأرض، أمنا الأولى، لنهجع أبديا في تراب الوطن. هذه الحقيقة كانت جديرة بأن تستنطق هوميروس ليطلق حكمته الأزلية: «ليس أعذب من أرض الوطن»!
(3)
إن حب الأرض لا يقتصر على الحكماء والفلاسفة، ولا يحتاج إلى بلاغات كبيرة. إنه فطرة عميقة في الكينونة البشرية، تفيض بها الحنايا وتلمسها الروح. فها هو الأعرابي يعبر قديما عن صحرائه قائلا: «رَمْلَةٌ كنتُ جَنينَ رُكامِها، ورَضيعَ غَمامِها، فحضَنَتْني أحشاؤها، وأرضَعَتْني أحساؤها»!
(4)
«إذا مات جسدي اسمحوا لجسدي أن يموت، ولكن لا تدعوا بلدي يموت».
جنكيز خان
(5)
إذا ذكر الوطن، تمر عبر مرايا الروح وجوه وأصوات قادمة من أزمنة غائرة في أعماق النفس. يمر وجه أمك وصوت أبيك السادران في الغياب. يمر ضجيج أخوتك وهم يلهون خارج المنزل العتيق. يمر صوت البحارة والفلاحين والرعاة وثغاء الماعز وسقسقات الدجاج في الظهيرة. يمر القمر المتثائب صاعدا من مرايا الماء. تمر رائحة القهوة المتسللة صباحا من سقوف المنازل. وتمر الأشرعة الوادعة في سكون الساحل الناعس. ويمر رنين الطبول قادما من بعيد يثقب سكية الليل، وهي تصدح بـ(الشلات) و(الرزحات) و(الويلية). وتمر «سبلة» المُطَوَّع مشغولة بطنين الأصوات الملائكية وهي ترتل كلام السماء. ويمر طفل كسول يفرك عن عينيه غبار الحقول وزبد الأمواج، كي يبصر طرقات العالم، وها هو ما يزال يلاحقك في تشردك الأزلي.
(6)
«لست آسفاً إلّا لأنني لا أملك إلّا حياة واحدة أضحى بها فى سبيل الوطن.
الكاتب والخطيب الروماني شيشرون
(7)
ومـا ذُكِــرَتْ عـــمـانُ لـديَّ إلَّا
وطِفْلٌ في ثيابي صاحَ «ماما»
خَريطَتُها دمي، وبماءِ عَيْني
رَسَـمْتُ حـدودَها بَلَدًا حَراما
حسن