السياحي
السّيرُ على الأقدامِ عبر «مندوس عمان»
قبل الحديث عن عين الحبنة والطريق الشاق حتى الوصول لها، نعرّج قليلا للحديث حول مندوس عمان أو وادي السحتن فهو المدخل الرئيس لمن أحب هواية المشي وصعود الجبال والتسلق أحيانا كما يعرفه البعض ب (الهايكنج).
مَشَى إليها:
سامي بن خلفان البحري
يُعدّ وادي السحتن أحد الأودية الشهيرة بولاية الرستاق، به عدد كبير من القرى والتجمعات السكانية منها: الطباقة والخضراء وفسح والطويان والحويجر وعمق والظاهر والغور والفراعة وظهرة القيلين والهويب والنيد ويصب ووجمة والودايم وغيرها الكثير. يزرع سكان الوادي المحاصيل والأشجار المثمرة وبجباله أشجار ونباتات برية متنوعة إضافة للكثير من الحياة البرية كالوعل العربي والوشق وغيرها. كان الوادي يغذي الأسواق المحلية القريبة بأصناف شتى من الفواكه والأعلاف والمنتوجات الزراعية المختلفة؛ لذلك سُمّي (مندوس عمان).
يعتبر الطريق الجديد المعبد من أحدث الطرق وفق مواصفاته العالمية ويخدم الأهالي والتجار والسياح بكل يسر وسهولة وذلك من الدوار المؤدي إليه للقادمين من ولاية الرستاق من جهة الشرق، أو القادمين من ولاية عبري من جهة الغرب. كما تربط وادي السحتن طرق ترابية وأخرى جبلية كتلك التي تصل شرقا إلى وادي بني عوف بولاية الرستاق ثم إلى وادي بني خروص بولاية العوابي؛ ويقبع وادي السحتن على مشارف جبل شمس. ويحظى الوادي بكافة مقومات الحياة الحديثة من تعليم وصحة وطرق وكهرباء وماء واتصالات وغيرها. ويعد موسم نزول الأمطار متنفسا للسياح حيث نزول شلالات الشعاب من الجبال الملاصقة للطريق الجديد.
من النيد إلى المسطاح
عندما أرسلت الشمسُ خيوطَها معلنة بداية يوم جديد في شهر أكتوبر، كان عصر الخميس مميزا به امتزاجٌ بين الدفء وشيء من الرطوبة الخفيفة مع قطع من السحب الركامية ترافقها رشات المطر الممزوجة بأصوات الرعد – فنحن في المرحلة الانتقالية والاعتدال الخريفي في الجزيرة العربية – وبدأت تداعب أُنوفَنا رائحةٌ جذّابة تُسعد النفسَ بنسيمها العليل الموسوم بالصفاء والنقاء؛ فعندما تلامس قطراتُ المطر أغصانَ الأشجار الجبلية والنباتات البرية ترسل عَبَقا لا مثيل له.
أوقفنا سياراتنا في (قرية النيد) الوادعة أسفل الجبل من الجهة الشرقية، لنحمل الحقائب فوق ظهورنا وأعيننا تراوح يمينا وشمالا في طريق (الجعاز) صعودا شيئا فشيئا ثم طريق (الشواغي) يحملنا الشوق للوصول إلى (عين الحبنة). يتبادل سالم بن محمد الهطالي ومحمد بن سيف العبري أطراف الحديث حول وادي السحتن وعين الحبنة، ويشاركهم عبدالله بن خلفان العبري وداؤود بن سليمان العبري حول المسار الجبلي والقرى التي نراها شرقا وغربا وأسفل منا، ونحن نرقب العلياء بين التكوينات الصخرية والأشجار البرية والنباتات المتنوعة عابرين مساقط الشعاب والأودية السحيقة.
سعيد بن ناصر الهشامي من وادي مستل بولاية وادي المعاول يرافقنا منذ البداية ويحكي لنا بعضاً من المواقف التي يمر بها أثناء تجواله الجبلي في قمم جبال وادي مستل بولاية وادي المعاول؛ نعم فأبو نايف هو الآخر قد عايش واقع الجبال ماضيها وحاضرها ويحفظ طرقها ف «أهل مكة أدرى بشعابها»، لديه الكثير من المعلومات حول الأشجار والأزهار والنباتات البرية، وكذلك سالم الهطالي ومحمد العبري وعبدالله العبري وداؤود العبري فهم ممن عشق الجبال وهام بحبها.
يبدأ بسرد القصص والروايات وبعض التجارب الواقعية والناجعة حول أهمية وفوائد العديد من النباتات البرية والأشجار المتنوعة التي تزخر بها جبال عمان، أثناء مسارنا الجبلي فعندما نمر على عشبة أو شجرة أو زهرة نقف برهة نلتقط لها صورة ونعرف بعضا من استعمالاتها، ومنها العلعلان والعتم والبوت والشحص والتين البري والزام والسعتر والنمت وغيرها الكثير، يسقيها المطر تارةً وتشرب من قطرات الندى أحيانا ومنها ما يتحمل العطش والجفاف.
ستخدم الكثير من هذه الأشجار والنباتات في العلاج وأخرى طعاما للحيوانات أو للطيب والزينة وغيرها الكثير. لبعضها مواسم صيفية وأخرى شتوية يجنيها المواطنون والسكان القريبون منها ومن أحب صعوب الجبال واصطبر عليها، فيباع – مثلا – البوت البري بالوزن في بدايات الصيف مع دخول شهري مايو ويونيو، يحمل على الظهور في (الميشان) بعد جَنْيِه حبةً حبةً من تلكم الأشجار المعلقة على ضفاف الشعاب ومنها ما نبت على صخرةِ أو حافةِ وادٍ سحيق. كذلك السعتر أو الزعتر لا سيما فوائده الطبية والعلاجية واستخداماته المتنوعة في المائدة العمانية، أضف إلى ذلك استخدام أغصان بعض الأشجار البرية كعِصّي أو جسر لطريق بين جبلين أو لسقف منزل قديم ومنها شجرة العتم أو الزيتون البري. وما زالت الكثير منها متنفسا للطب البديل.
(المسطاح) أو مفترق الدروب كما يسميه البعض كان نقطة نلتقط فيها بعض الراحة في وقت يسير كاستراحة محارب، نشرب قليلا من الماء ونضحك في أخرى. هنا نلتقي بالأشبال الذين يرافقوننا فيسبقوننا تارة ونسبقهم أخرى وهم رشاد العبري ومحمد العبري وعبدالله العبري ثم نلتقط معهم أفضل الصور، ونسأل عن مفترق الطريق؛ حيث يمرّ من هنا من أراد الذهاب إلى عين الحبنة غربا أو يذهب شرقا لمكان آخر ومن يصعد لقمم الجبال العالية. التقطنا بعض الصور التذكارية الجماعية والفردية ثم واصلنا السير في طريق صار أسهل قليلا يحدونا الشوق لعين الحبنة قبل أن تتوارى الشمس خلف الجبال مرسلة خيوطها الذهبية.
غرفة حجرية
آذنت الشمس بالرحيل وبدأ النور يخفت شيئا فشيئا ونحن نتبعها واثِقيّ الخُطى حتى تتراءى لنا (الغرفة الحجرية) شامخة كحارس يطل من بعيد على فضاءات مندوس عمان وملؤها: سأظل أرقبك وأنت تحتضن أهلي وأحبابي وقد جاؤوا لزيارتي فأهلا بهم بين أحضاني. ذلك كان لقاؤنا الأول عندما أبصرنا تلك الحجارة التي صُفّت ورُصّ بعضها ببعض بعناية فائقة وإتقان متناهٍ، وقد سُدّت بعض الفجوات بين صخورها بالإسمنت الذي أُحضر من أسفل الوادي على ظهر الحمار، نعم فقد شارك هو الآخر في بنائها قبل أقل من سنة من الآن. وانتظمت أعمدة قِطَع الحديد أسفل سقفها لتحمله بكل ثقة. لقد قام عدد من شباب وادي السحتن بجهد عظيم وتعاون كبير أخذ من وقتهم شهرا أو أكثر بقليل في شتاء بارد في العام الماضي. كانوا يحملون المؤن على الحمار من أسفل الوادي مرورا بتلك الرحلة الشاقة صعودا وتزودهم عين الحبنة بالماء العذب للبناء والشرب والأكل. وبعد اكتمالها تم تزويدها بالكثير من المؤن والأدوات التي يحتاجها كل شخص يمر من هنا ويحتاج للراحة أو التخييم، فتنتصب نارُ المخيّمين بجوارها علم يرفرف ليلا ليشاهده سكان الوادي من الأسفل.
بجانب الغرفة الحجرية وأعلى منها بقليل يقف (العريش) الذي بناه الأجداد قديما ليكون متنفسا لهم ومكانا يقضون فيه بعض الوقت أو يستظلون تحته وينامون بداخله. لقد تم بناؤه بإحكام شديد فوق صخور جبلية قوية وصماء واستخدموا الأشجار الجبلية القوية كالعلعلان والعتم وغيرها ووضعوا الحجارة أمامه على شكل (ضبك) ليكون كالمُدرّج يحميه ويخلق مكانا فسيحا أمامه.
عينُ الحَبْنَة
لعينِ الحبنةِ حكايةُ حُبٍّ وعطاءٍ مُنذ الأزل يرويها القدماءُ ويخلّدها الأبناءُ، فكانت ومازالت تروي العاشقين لجوارها أعذب القطرات المنسابة رقراقة تنبع من بين الصخور الجبلية رويدا رويدا ليحتضنها الحوض الصخري و(الجحلة الفخارية) المغروسة بعناية فائقة. جمال لا يوصف فليس من سمع كَمَنْ رأى وراحة نفسية تجعلك تعيش لحظات من السعادة تود لو أنها لا تنتهي ولا تفارق ذلك المكان الساحر الذي تلفه الأشجار المتنوعة والنباتات المختلفة مع نسمات الهواء العليل حيث الصفاء والنقاء.
تقع العين في الجهة الغربية من الغرفة الحجرية ويجب النزول إليها في أقل من خمس دقائق، نعم فهي على حافة جبل عالٍ في ممر ضيق. وقد سُمّيت بعين الحبنة نظرا لشجرة الحبن التي تنبت بجوارها بأوراقها الخضراء وأغصانها الصغيرة. نستقي منها ونتوضأ للصلاة والظلام يلفنا، ثم نصعد للغرفة الحجرية ونعود أخرى للعين كمن لا يستطيع فراقها. وقبل أن ترسل الشمس خيوط الفجر نتسلل في هدوء لنقرئ العينَ السلامَ (ألا عمتِ صباحا أيتها العين واسعدي)، فَنَرِدُ منها قبل أن يسبقنا الطير ونتوضأ لصلاة الفجر بمياهها الباردة. كذلك أخرى بعد الإفطار نعاود الكرة ونلتقط معها (السلفي) والصور التذكارية ونطمح في تخليد ذكراها بقلوبنا وعقولنا وعدساتنا التي خفنا أن ترهقها بكثرة التصوير في حضنها. ثم نَعِدُها بأننا سنعود قريبا بإذن الله.
وادي القبيل (وجمة)
بعد أنْ ودّعنا عينَ الحبنة، وقبل أنْ نُودّع الغرفةَ الحجرية و(العريش) نتأمل إشراقة الصباح من ذاك المكان العالي والشمس ترسل خيوطها على قرى وادي السحتن أسفل منا وتنير الصخور الجبلية والأشجار البرية، فنستغل كل لحظة لنخلدها في قلوبنا وعقولنا وبعدسات كاميراتنا. نرى السحب الخفيفة منها والركامية التي بدت تبشر بغيث قادم، منها ما يصعد للأعلى وأخرى تتموج كالعباب. وما أن تناولنا الإفطار الذي امتزجت به رائحة أغصان الأشجار البرية الخفيفة المتناثرة هنا وهناك وارتشفنا فنجان من القهوة التي أُعِدّت بالحطب حتى تدق ساعة الرحيل عن المكان الذي ألفناه وعشقناه وبدأ الشوق يحدونا إليه قبل تركه..
كُنا على موعد مع وادٍ سحيق مسقطه أعالي جبل شمس، إنه (وادي القبيل) الذي يدفع بمياهه بقوة نحو القرية المشهورة بتاريخها وعبقها القديم قرية (وجمة) ذات المدرجات الزراعية الجبلية الوادعة تحت هدوء الجبال الصماء وكأنما تحتضنها وتلفها بين ذراعيها. تلكم القرية الجميلة التي تستقبل تبر الشمس الذهبي في حافةٍ على جبل امتزجت تربته الزراعية بحجارته القاسية التي ألصق سكانُها بيوتَهم عليه بالحجارة والطين تارةً والإسمنت في العهد الحديث تارةً أخرى. كانت مضرب المثل في المنتجات الزراعية والأماكن السياحية تَئِنُّ بيوتُها القديمة – عدا واحدٍ لا يزالُ مُرابطاً – من هجرة أهلها بسبب قلة الأمطار ووعورة الطريق الترابي وارتباطهم بمقومات الحياة العصرية والأعمال الحديثة لا سيما التعليم والصحة وغيرها.
كان لطريق العودة حكاية أخرى ربما سترويها الصور التي التقطناها فليس من رأى كَمَن سَمِع، نعم فهو مكان فريد يمتزج فيه حب المغامرة مع الحذر والتأنّي ودليل متمكن؛ نعم فيسبقنا عبدالله وأحيانا محمد ليتأكدا من الطريق حرصا منهم على أعلى درجات الأمن والسلامة نظرا للمرتفعات والمساقط والصخور وغيرها، نَمرُّ من خلالها بمواقع فريدة لمساقط مياه طبيعية يسميها البعض (ميبان) تنساب في انحدار شديد وخطير، ونقف قليلا لنرى بصمة لأجدادٍ نقشوا الصخور وأبدعوا في استحداث المدرجات الزراعية في ذلك المكان العالي.
قبل أن نصل إلى (وجمة) ننزل أسفل وادي القبيل حيث عُلقت (الجحال الفخارية) أسفل مسقط الوادي في (كُور المَلَح) ووضعت أخرى داخل الكهف الصخري في تناسق بديع؛ لتملأها قطرات المياه الندية وتشكل موردا لمن يقصد المكان أو يعيش بالقرب منه. هنا نخلّد بالصور الجماعية ذكرى تلك الرحلة الفريدة هنُا نبتسم نحن الستة لنعلن انتهاء اقتفائنا لأثر الأجداد، ومن الجهة الشرقية ربما قد سبقنا رفقاؤنا الأشبال إلى قرية النيد التي انطلقنا منها يوم أمس.
همسة
تعمل عدساتُنا للمرة الأخيرة – ونحن نسمع أصوات الرعد وقد بدأ يسبح بحمد ربه -؛ لتلامس البيوت الحجرية وما تبقّى من المدرجات الزراعية في قرية وجمة وفلجها العذب وأشجارها ونباتاتها سائلين الله أن يُيسّر من السُبل لِتَدُبّ تفاصيل الحياة من جديد في قرية وجمة، وأن يسخر الأسباب لجميع قرى وادي السحتن بولاية الرستاق لمزيد من التطور والألق في ظل قائد مسيرة عُمان الغالية مولانا جلالة السلطان قابوس بن سعيد – حفظه الله ورعاه -. نرتشف فنجان القهوة في بيت سالم بن محمد الهطالي في ظهرة القلين كمحطة أخيرة وغيث الرحمن يكسو جبال وسهول وادي السحتن فتجري الأودية والشعاب لتروي الأرض والقلوب.