بقلم: د. سمير محمود
“أن تنشر كتابًا يعني أنك عريت قلبك أمام الجميع، تحدثت بأعلى صوتك، رغم ذلك أنت لا تدري هل سيضيع صوتك خلف كل هذا الضجيج، أم سيصغي لبوحك أحد”.. بهذه العبارات قدمت القاصة والكاتبة السعودية سلمى بوخمسين لمجموعتها القصصية “على سُرر” الصادرة عن دار أثر للنشر والتوزيع بالسعودية.
تضم المجموعة ستة عشر قصة قصية، أشبه بلوحات قلمية متصلة منفصلة في آن، ففي ارتباطها بالمرأة ومعاناتها المتواصلة من أجل الوجود والحرية وإثبات الذات والوفاء بالاحتياجات الأساسية اتصال بحراك ومعركة أزلية أبدية في المجتمعات الذكورية، ويأتي الانفصال في أن لكل قصة شخصيتها المستقلة وفكرتها وبنائها المميز.
قصص بوخمسين منحوتة بحرفية من الواقع ومستقاة بامتياز من الذاكرة إلا أن لمسات الكاتبة بثت فيها من تجربتها وروحها وحياتها حياة كاملة صنعت ثرائها وخصوصيتها وتفردها، ولهذا لا تملك إلا أن تصدق هذا الواقع على مرارته وتجنح بالخيال لأبعد حدود العقل في الانتصار على كل القيود والافلات من المستحيلات الهاشة القاسية في آن، وهكذا نجحت القاصة في يناء عوالمها القصصية من أماكن وأزمنة تتحرك حركات تقدمية للمستقبل الواعد، وتجرها في المقابل قوى الشد التاريخية القديمة التي حركت الأحداث وبنيت على أساسها الشخصيات في تصاعد متناغم رغم التنافر الحقيقي بين معاناة المرأة وطموحاتها، انتصاراتها البسيط وإنكساراتها المتعددة، ورغم هذا النسيج القصصي الذي يحمل أضداد في داخله، إلا أن بوخمسين نجحت في تجاوز فكرة الكتابة النسوية والأدب النسائي، حيث قدمت نماذج طامحة رغم معاناتها الشديدة، ولم تقف بهن في خندق الضحية ورفع أكف المظلومية وندب الحظوظ، وإنما قفزت بنماذجها النسائية التي لعبت دور البطولة لتتخطى القوالب والأنماط الجامدة للمرأة والتي صنعتها المجتمعات الذكورية بامتياز.
اقتربت الكاتبة من عوالم المرأة المقهورة وبمشرط جراح ماهر تعاملت مع عذاباتها، وبخفة ورشاقة وانسيابية في السرد، عبرت بصيغ بلاغية راقية وصور وأخيلة مكثفة عن حاجات المرأة الأساسية ورغباتها وتطلعاتها وقيودها المتفاوتة الشدة بلا ابتذال، ما بين جنة تنشدها على الأرض في صورة حياة هادئة مستقرة يحق لها فيها البوح والكلام والضحك والرقص والبكاء حتى الدموع، وبين جنات أخرى يرسمها لها الرجل الشرقي على مقاسه وهواه الديني والقيمي والقبلي المجتمعي، جنة لا تحلم هي بها ولا تشبهها إذ ترى فيها الجحيم ذاته!
تمس المجموعة القصصية “على سُرر” قضايا بالغة الأهمية في عوالم المرأة بالمجتمعات العربية، ففي قصتها “انتظار” اقتراب حقيقي من نظرة المجتمع لفئة أصحاب الهمم ذوي الإعاقات في صورة طفلة جميلة أقعدتها إعاقتها وقيدت شخصية أمها القاسية الحادة، ومنها تدلف الكاتبة لزواج الصغيرات القاصرات في زمن ولى إلى غير رجعة!
أما في قصتها “قاب قوسين” فتغوص الكاتبة بسلاسة وعذوبة في علاقات الحب والفقد والهجر والانكسارات العاطفية بين زوجة تفقد زوجها ومحب عاشق يفقد صديق عمره ويلتقي بحبه الأول في لقاء عابر ترانزيت لساعات خاطفة بين المطار والحي القديم.
تقول بوخمسين:” قضيا ليلتهما تلك في رثائه، فيضحكان حينًا لذكرى جميلة، وحينًا يصمتان، وتتحدث بدلًا عنهما الدموع أحيانًا أخرى”. وتقفز في سرديتها البديعة لتصف جمال المرأة في حزنها فتقول:
هل هو واهم أم أن الحزن يزيد النساء بهاءًا؟ فحين تحزن المرأة لا تتكلف ولا تتصنع ولا تتجمل ولا تجرح، فهي أضعف من أن تقسو وبهذا تصبح أطهر وأجمل”.
تنتصر الكاتبة في أكثر من قصة لفكرة الإنسان، ولا تقف بنوعها الاجتماعي في خانة الضحية الفريسة المظلومة التي تعاني قهر الرجال وإن كان بعضه واقعًا، هي تنتصر لبنات حواء ضد مقولات وأنساق ترفضها كمقولة أن معظم أهل النار من النساء، ففي قصصها وضعت نماذجها النسائية “على سٌرر” مرفوعة موشاة بجنات وحرير وسندس واستبرق ورياحين، رغم قسوة الواقع، ففي قصتها البديعة “الله حي” تنتصر الكاتبة على ذاتها الضعيفة، إذ ترصد تجربة سفر المرأة وارتباطها بدينها ولباسها وقيمها وأخلاقياتها حتى وأن بعدت عن الأصول والجذور مكانيًا، كما تقترب أكثر من تصورات الغرب عن المجتمعات العربية ونسائها وعقولهن على وجه التحديد، وتقدم نموذجًا إيجابيًا لحضور آخاذ وإيجابي للمرأة العربية التي تكسر كل الصور النمطية المغلوطة عنها والتي راجت بقسوة في الغرب.
تستعير الكاتبة في هذه القصة تابوهات الأجداد ومقولات الأمهات:” كل الغرباء خطرون وسيئون هكذا ربتنا أمهاتنا، ومهما كبرنا وتعرفنا على المزيد من الغرباء لا نزال لا نعشق إلا من يشبهنا”.
تنتصر الكاتبة للإنسان الذي كرمه رب الأكوان والأديان وتنتصر لتعاليم دينها وعروبتها وعاداتها وتقاليدها دون أن تنسلخ من جلدها أو تنقم على حياتها وترفضها، وأنما تسعى دائمًا لغد أفضل، ففي سفرتها الخارجية لحضور ورشة عمل ووجودها على منصة الحديث للوهلة الأولى ووسط أشخاص لا تعرفهم، يختلفون عنها كليًا في اللغة والدين والعادات والتقاليد، تثبت حضورها وجدارتها وتكسر نمطًا مغلوطًا للمرأة السلبية المنكسرة المنغلقة في خيمتها السوداء، وفي المساء وبعد تردد لقضاء آخر ساعات السفر في نزهة بها حلقة ذكر وإنشاد ديني، يطرب لها الجميع تكشف ذاتها هي في لحظة نادرة، ففي قصة “الله حي” يردد الذاكرون الله حي فتسرح هي بذهن شارد خارج حدود قاعة الذكر لترى الله حيًا في كل شيء من حولها، في كل إنسان على وجه الأرض: “الله حي في كل مرة كنت أنطقها، كنت أدرك لها بعدًا جديدًا، أجل فالله حي في قلبي أنا، بكل سقطاتي وزلاتي، بكل سهوي وجنوني الذي أحمله معي حيث أرتحل، الله حي في قلوب هؤلاء الذاكرين، الذين سعوا إلى أوطان تعبده طائعين، الله حي في قلب القهوجين يراه في كل قرش يجمعه كي يصل به إليه، وإن كان محاطًا بالمعازف كل مساء”.
هكذا تمضي الكاتبة في قصتها لتصل إلى نقاء قلبها الثلجي الناصع البياض وإن ارتدت عباءتها السوداء الفضفاضة وبرقعها الأسود… تقترب المجموعة القصصية من قيود الزواج الصارمة في الجزيرة العربية، والانتماءات الرسمية والقبلية، فتحزن وتوجعنا معها بواقعية السرد المكثف في قصتها “جائعة” ويالها من دلالة وبلاغة في اختيار عنوان القصة التي تصف جوع المرأة للحياة!
تقول بوخمسين على لسان بطلة القصة:” قبل شهرين تقريبًا، وقع خبر التحاق ابن عمتي البكر بصفوف المجاهدين على قلوبنا جميعًا كالصاعقة، يريد أن يدفع مهر حوريته بالموت، أما علم أن في بيته خاله حورية تريد الحياة مهرًا لها؟!
ثم تزرف الكاتبة زفرة آسى حارقة في وجه واقع أليم على لسان بطلة القصة فتقول:” إيه يا ابن العمة، أنا حوريتك المنشودة، أنا الثروة القومية المهدورة، أنا الكاعبة التربة، أنا التي لم يمسسني إنس قبلك ولا جان، أنا البكر المختومة بختم ربي بانتظار أحمق مثلك”.
قصص “على سُرر” كاشفة لتناقضات مجتمعية، تنتصر فيها الكاتبة صاحبة التجارب الفنية والأدبية المتعددة في كتابة السيناريو والكتابة للمسرح، لإرادة الحياة والحب والأمل والنقاء الإنساني الذي يتحدى كل المستحيلات والقيود الوهمية نحو غد أفضل للمرأة ولبني الإنسان عامة.
د. سمير محمود
Logo70@gmail.com