مقالات

في مسجد الصريبيخ حيث هبت نفحات رمضان

حمود بن سالم السيابي 

لم تكن ببيتنا السمائلي ساعة حائط يتراقص بندولها لينعش عقارب الوقت فالزمن كان حكرا على معاصم الكبار المزدانة بساعات “الوست أند”، وكانوا وحدهم يستأثرون بتعاقب الأوقات وبمواقيت الأذانات ويبشرون بساعاتهم الفوسفورية المضيئة عطش المقاصير بتضاحك السواقي . 

ولم يكن التلفزيون على أيامنا سلوة صيامنا فنتابع برامجه الترفيهية لتتسارع عقارب الوقت، ولا نقرأ على شاشته حان موعد أذان المغرب فقد صمنا قبل مجيء التلفزيون بسنين. ولا كان صوت المذيع حسن بن سالم الفارسي بشارة الإفطار في طفولتنا ليعلن دخول وقت الأذان فقد استبقنا الصوم قبل الراديو وقبل أن نتدفأ بحناجر المذيعين.وكنا نعرف إقبال الليل وإدبار النهار من الروائح المشعشعة من فوران «صفاري» الفطور في البيوت المتحابة، ومن سكينة الدروب حيث تتنزل الملائكة كل غروب كما تقول الجدات، ومن هدأة العصافير بعد صخب الإياب، ومن الوجوه الباسمة وهي تستقبل أولى الفرحتين، فرحة إفطار الصائم وفرحة لقاء الخالق جل في علاه. وكنا نمشي من عتبة بيت الصافية إلى مسجد «الصريبيخ» بصحون التمر ودلال القهوة، بأمنيات أن ينطلق الأذان ونحن بالدرب القصير، بل الأقصر مما يُتَصَوَّرُ، والأطول مما كنا نراه بقياسات الشوق لمذقةٍ من لبن أو تمرة حائلة أو حسوة ماء.
ندخل الصريبيخ الذي لم يكن يعرف موائد الإفطار كما هي عليه الآن لنرى الصائمين وقد احتازوا ركنا من الصرح، وتحلقوا حول سراج مضيء هو وجه أبي، وعمامة بيضاء شامخة هي عمامته. وكان بالجلسة من شامخي القامات العم سليمان بن شامس السيابي وناصر بن سليم السيابي وعلي بن خلفان السيابي وعامر الريامي وثني بن سيف السيابي ومحمد بن حمود الريامي. وكان سيد بيت العود ناصر بن سيف البرطماني أقصر القامات وأطول الهمم.
وبين هذه الهامات كان الأبناء والأحفاد وملازمو المسجد أمثال سلام بن هاشل وسالم بن مسلم وسعيد بن عبدالله وأحمد بن عبدالله ومرهون بن محمد وحميد بن ضحي وسعيد بن ضحي وسلام بن فيروز وسعيد الشيخ وخميس الغليبي وتيسير بن ناصر وغيرهم. وكان الكبار في حلقة انتظار الأذان يتسلَّون بساعاتهم فيتابعون ركض «الشعيرة» الحمراء وهي تدور بسرعة حول ميناء «الوست أند» لتجر خلفها كسل العقربين البطيئتين، وكانوا ينهمكون بفرك رأس الساعة كل غروب لـ «يترسوها» لدوران يوم جديد، بينما كنا نتسلى بمطالعة التمرات السوداء وهي تستحث رمادية المغيب لتزداد سوادا.
ينبِّهُ حملة الساعات بموعد الأذان فيرفعه أحد الحاضرين فأتابع إشراقة الصوت على الوجوه كومضة فرح وبارقة بشر. تمتدُّ الأيادي للصحون قبل أن ينهي البعض الاستفتاح بدعاء «اللهم إنا لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله» فكنا نتسابق كما لم نأكل التمر من قبل رغم الإرث المكتنز بخنيزي وزبد وهلالي الصيف وتمر «خلاص وبرني ومدلوكي» الشتاء. وكنا نعذِّب «المُغنِّم وهو يصبُّ ويصبُّ ويصبُّ كما لم نذق من قبل مرارة البن ولا تداولنا رحيق الفناجين. وكنا رغم البرد نحتسي ماء الجحلة القادم عذبًا من «الجفر» وخفيفا ك «إكوابانا» وزلالًا ك «إفيفيان» فنشرب لنثأر لوحدة الجحال المشنوقة على الأوتاد طوال النهار. وبينما يقف أبي ليكبِّرُ تكبيرة الأحرام قبالة المحراب الطيني إماما للصلاة كان الكسالى على فوالتهم وفناجينهم يسألونه التريث.
تنتهي صلاة المغرب ويستزيد من شاء من السنن ويبكِّر من شاء للفطور فيحتوينا من جديد الدرب لنمشي بين النخل بهدي من بقايا وميض الشفق لننتظر عودة الوالد إلى البيت فتحتوينا مائدة الإفطار وقد غاب عنها التعدد وحضرت فيها وبقوة لذة الشوربة في «الملال». وكان رمضان يتعاقب مع الفصول، ومتى ما حل بالشتاء كان أكثر حميمية إذ تتقارب فيه الجلسات حول «الصريدان» وتتمدد الأكف حول جمره، ولكن جلسة ما بعد الإفطار سرعان ما تنتهي فنغادر الدفء من جديد باتجاه نفس الدرب إلى مسجد الصريبيخ، وإن كنا هذه المرة لا نمشي بعجلة من أمرنا بعد أن فطرنا وتثاقل بعضنا من قيامات التراويح فنتباطأ لعل وعسى نفوِّت بعضها. وكما كان أبي سراج حلقة الإفطار كان السراج الرديف في التراويح بعد السراج المشع في الأوتاد قبل أن يعرف الصريبيخ الكهرباء.
وكانت ليالي الشتاء على طولها تبدو قصيرة، وكنا نشكل أزمة ليلية لأهلنا هي إشكالية «التوريق» للسحور رغم ما قرأنا عن بركته وهي حاجة الصائم له ليقويه على الطاعة، إلا أن إبليس كان بالمرصاد،وكأنه يداوم حتى في رمضان ليوسوس للضعفاء أمثالنا لنا بعدم النهوض في صردة البرد لصلاة الفجر فنبقى أسارى صراعات واشتباكات بين إغراءات السحور وعصا الوالد ومراودات إبليس، إلا أننا بحمد الله كنا ننتصر عليه في أكثر الأحيان فنتسحر ونمخر الليل والبرد إلى الصريبيخ لنصطف في صفوف هي أقصر بكثير من صفوف المغرب والتراويح، لنجد من يشاركنا من ضحايا إبليس وقد سوَّل لهم كما سول لنا بمشاق إسباغ الوضوء على المكاره.
وفي رمضان بتعاقبه صيفا أو شتاء كان سوق السفالة في رمضان عامرا باحتياجات «الصفاري» وهمهمة الأثافي و«سنق» الصائمين فكنا نرتاده «حِجًَّا وحاجة» فمنها التموين لاحتياجات البيوت ولقتل الوقت الذي يزحف ببطء السلحفاة من نواح أخرى. وكان بيتنا ككل البيوت يتبعثر سكانه في نهارات رمضان بين الصفيف والغرف، وبين مجالسة المصحف أو التثاؤب في السبلة ونحن تابع حديثا للوالد لا يعنينا بحكم السن الكثير من تفاصيله بقدر ما يعيننا على قتل الوقت، رغم أن السبلة العامرة للوالد تحيينا وتحيي الوقت. وكانت فترات المغرب في رمضان على النقيض من فترات النهار، حيث تعود كل الضحكات الغائبة وترجع خفة الدم التي أثقلها وجوم العطش والجوع. وفي كل يوم نصومه كان يقربنا لصبيحة العيد، وكان البيت يشغل نفسه بتجهيزات المناسبة وذلك بطحن البهارات للتبزيرة فتتزاحم روائح البيوت المتحابة بروائح الفرح المنتظر. وتتجدد مع انتظار لحظة الإفطار كل ليلة فرحة انتظار الإفطار صبيحة العيد لنسرج الأماني لصباح سنلبس فيه الجديد وستعمر فيه «المخابي» بـ «الغويزيات» وتمتشق فيه الأكتاف تفاق «السكتون».
وأعود اليوم إلى الصريبيخ الذي خلع طينه وجذوعه وخشب أبوابه واكتسى الصاروج لأراه حزينا رغم الطلاء الأبيض، ومعتمًا رغم الكهرباء المضاءة، فقد غاب أبي وغابت الوجوه التي عرفتها، وتيبست صحون التمر، وتحشرجت الدلال وتصايحت الفناجين.
وأسرحُ الطرف حيث كان يجلس أبي فلا أراه، وأستعيد الوجوه والعمائم وهي «تتعازم» على أسبقية تناول الفناجين فتتماهى المشاهد. وأستذكر الدرب الذي كنت أمشيه على رؤوس الأصابع حتى لا أخض الدلال ولا أصب فنجانا متحنكرًا ثارت «خمرته» وفار معه غضب أبي. أين؟ وأين؟ وأين؟ أسئلة يذبحني طرحها مع كل قدوم لرمضان، ويذبحني غياب الإجابات عليها قبل رمضان وفي رمضان وبعد بعد بعد رمضان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق