العام
أعلنت السلام مع السرطان فغادرني من غير أذيَّة
عندما تكون اللحمة العائلية في أقصى تجلياتها، يكون الحب الأسري قد بلغ الذروة، وربما أعلى من معدل الذروة بقليل حينما تجبر الحياة الأسرةَ الواحدة على التفكك طلبا للرزق وفي سبيل تأمين الحياة والروح والبناء الأسري.
هكذا كانت علاقة «دعاء السعود»، بَطَلَةُ قصتنا لهذا اليوم، بوالدتها، فرقتهم مئات الكيلومترات عن بعضهما، فزاد ألم الشوق وجرعة الحب وحنين الطفولة، وبين أمل وألم ثم أمل أصبحت بَطَلَة قاهرة في وجه أكثر الأمراض رعبًا بوجهة نظر المجتمع لا بوجهة نظرها!
عامر بن عبدالله الأنصاري
أما الأمل الأول فكان قبولها في البلد التي تعمل فيها والدتها، حيث عملت والدتها في السلطنة، وتم قبول «دعاء» كمضيفة طيران، لتشرق الحياة أمهما فتغفو وتصبح في كنف الحنان والأمان والحب الدفين، كنف والدتها.
مضى الوقت سريعا، ليحل الألم في غفلة، فيأخذ منها أحنَّ ما تملك، حلَّ الضيف الثقيل على بنكرياس والدتها، وصنفت حينها مصابة بسرطان البنكرياس، بقيت «دعاء» في رفقة والدتها، تتابع مفارقتها للحياة خطوة بخطوة، تدَّعي القوة لتمنح والدتها شيئًا منه، وتبكي بينها وبين نفسها، فليس من السهل أن ترقب روحا تقطر منها الحياة قطرة قطرة حتى تختفي وتنفد، فتفيض روحها الطاهرة إلى بارئها، محفوفة بالدعاء من «دعاء» وكل من عزَّ عليها، ومنكم أيها القراء.. آمين.
الحزن مرض
تدرك «دعاء» يقينا أن الحزن مرض عضال أشد فتكا من السرطان بحد ذاته، سرطان من نوع آخر، فإذا اتحد سرطان النفس مع سرطان البدن أصبح لا يُقهر ولا يُغلب، بكت «دعاء» كثيرا، ولساعات في اليوم، ولأيام في الشهر، ولأشهر في السنة، بكاء مرير إلى حد اليأس من الحياة، لتخف وطأة الفراق تدريجيا، فتواصل حياتها بعد انكسارة كبيرة الفجوة، وبعد مسح الدموع.
وفي ذات يوم، بدأت بالشعور بثقل في صدرها، وورم صغير سرعان ما يكبر، وفي حضرة الدكتور طه اللواتي تلقت خبرا بضرورة إجراء عملية لاستئصال الورم، فأجرت العملية ما ان انهت الإجراءات، وبعدها بعشرة أيام تلقت اتصالا، كان من المفترض أن يكون صاعقا، إلا أنه لم يكن بالغريب عليها، «أنت مصابة بسرطان الثدي، ويجب التدخل بأسرع وقت» صمت رهيب، قلق من سيناريو قد يتكرر، واقتراح بعملية أخرى تطرح الشك باليقين.
أدركت «دعاء» أن حزنها المفرط هو السبب في ما حل بها، لم تبكِ، فقد بكت لما يستحق البكاء سابقا، وبرباطة جأش عزمت على المضي قدما نحو العلاج، ولم تقلق من العلاج داخل السلطنة، وبإشراف الدكتور طه اللواتي، المعروف على مستوى العالم ويجري عمليات في أرقى المستشفيات العالمية.
ارتضت لما حل بها، ومقارنة بأسوأ الأحوال، فلن تكون حياتها أغلى من حياة والدتها، ارتضت أن تمشي على العلاج وتوكلت على الله الذي أمر عباده بالعمل والسعي والاجتهاد، فمضت على بركته سبحانه.
بارقة أمل أضحت تضيء بوجهها شيئا فشيئا، بدأ الأصدقاء بالسؤال عنها، وبدأت تتلقى الاتصالات والزيارات، وجدت في من حولها من الأصدقاء أهلًا وأنسًا ومحبةً، وجدت رعاية نفسية إضافة للرعاية الطبية، وكذلك مراعاة من جهة العمل التي فتحت لها مجالا للعلاج حتى اكتماله، ولم تفرق بين كونها مصرية الجنسة او عمانية، هنا أصبحت لحياتها معنى أجمل، فقررت بكل حزم أن يكون علاجها ناجحا بمساندة من الطاقة النفسية الإيجابية والتي تمنح العلاج دفعة مضاعفة نحو الشفاء من السقم والبرء من العلة.
بلا شعر
دخلت «دعاء» مرحلة العلاج، تارة بجلسات الكيماوي، وتارة في جلسات الراديو، تذهب وحيدة بسيارتها، فعزمها على الحياة، وأملها بالشفاء قوي حدَّ الاعتماد على النفس.
يسري الكيماوي بمفعوله، شعرها يتساقط بكثافة، فتقرر أن تحلق شعرها كاملا، توثق ذلك بابتسامة لتحتفظ بها في ملف الذكريات، لم تبالِ بكيف سيكون شكلها، وجسدها الذي بدأ بمسيرة النحافة أكثر من اللازم حتى وصلت ذات يوم إلى رقم قياسي يشير إلى 38 كيلوجراما، مؤمنة بأن جمالها في روحها، وفي قلبها النابض بالحياة أكثر من أي انسان، ولسان حالها يقول «كوني واثقة من نفسك.. أنت قوية».
أعلنت «دعاء» السلام مع السرطان، وأخذت تحاربه بطير أبيض دليلاً على السلام، كأنها تطلب منه بأدب أن يرحل، فهو ضيف غير مرحب به، لا أن تجرحه، ولا أن يجرحها بألم ولا صدمة ولا مضاعفات، فقبل الضيف المشؤوم بذلك السلام، ورحل بلا نية في العدوة من جديد.
غادرها المرض الغادر، والرعاية الصحية متواصلة، ففي كل ثلاثة أشهر تكون «دعاء» في موعد بالمستشفى لإجراء فحوصات طبية للتأكد من سلامتها، ويوصف لها من العقارات والأدوية الوقائية بشكل منتظم في خطة للوقاية تستمر لعشرة أعوام، وتواصل طريق الوقاية بالابتسامة والرضا.
وتتمنى «دعاء» لو بادرت المؤسسات الصحية بتعيين طبيب نفسي يكون مرافقا للمريض بعد جلسات الكيماوي، والتي غالبا ما تكون سببا في الكآبة واليأس والضجر، ولن يفهم هذا الشعور سوى المريض بالسرطان، فالطبيب النفسي خير من يدعم الجانب المعني حينها.
مذكرات وكتاب
في جلسات الكيماوي، اضطرت «دعاء» أن تكون في المنزل وحدها، لأسباب عديدة أهمها ان مستوى المناعة ينخفض إلى حد كبير، فأي عدوى بسيطة قد تكون كارثة لها، 10 أيام من العزلة في المنزل بعد جلسات الكيماوي، تسطر تجربتها، وتكتب مذكراتها، خواطر أدبية، تجارب نفسية، دروس تعلمتها، أمل في الحياة، تجمع شتات أفكارها، فجمعت تلك المذكرات، التي كُتِبت بالانجليزية، اللغة التي تجد فيها راحتها في التعبير، وجمعتها في كتاب لم ترَ اكتماله بالشكل المطلوب، لتواصل العمل إلى اليوم في إصدار كتاب الطبعة الثانية، لتقاسم الناس تفاؤلهم بالحياة، وتمنح جرعة من الإيجابية لكل من يئس من الحياة سواء أكان سببه تافهًا أو كان سببًا عضالًا.
أسلوب حياة
تعلمت بطلة قصتنا العديد من الأمور، فكانت لها أسلوب حياة، الوجبات السريعة يجب ان لا تكون جزءا أساسيا من حياتها، التركيز على التغذية النباتية يزيد من قوة المناعة، فقد بقيت خلال فترة العلاج لمدة 6 أشهر لا تأكل إلا الأكل النباتي، كما انها لا تغفل الجانب البدني وتعطيه حقه من النشاط والرياضة والحركة، 30 دقيقة في اليوم أقل ما يجب أن يمارس فيها المرء الرياضة.
ورغم هذا لا تحرم نفسها مما تشتهيه في خاطرها، تأكل البيتزا والبرجر وما تحبه، ولكن باعتدال وبمتوسط مرة واحدة في الأسبوع وبكميات معقولة.
العصائر الطازجة، والأفضل تحضيرها بالمنزل، جزء أساسي من برنامج غذائها اليومي، فالصحة لا تعوض، والحياة فيها من الجمال ما يكفي أن تشحذ تفاؤلنا.
ولرياضة «اليوجا» نصيبٌ من أسلوب حياة «دعاء»، لأنها تحتاج إلى الهدوء، وتنظيم النفس وطرد الطاقة السلبية دائما.
قصص
خلال فترة العلاج، أصبح لـ «دعاء» وقت وفراغ أحبت ان تملأه بالمفيد، فشاركت في فعاليات توعوية كثيرة، تستعرض تجربتها واملها وقوتها، وهي لا زالت في مرحلة العلاج، وكانت حينها قرينة لجمعية السرطان العمانية، تشارك في فعالياتها، وتمنح الناس الأمل والطموح والتجربة المفعمة بالتفاؤل، شاركت في مسيرة للمشي نظمتها الجمعية، وفي مؤتمرات دولة احتضنتها السلطنة، فكانت مثالا حيَّا لمكافحة ومحاربة للسرطان، وفي مرحلة العلاج، تقف بكل شموخ، وبلا شعر، لتكون ملهمة للكثيرين حتى للأطباء والدكاترة الذين يعانون من فقدان مرضاهم الثقة وتشاؤمهم من الحياة.
الجانب الإيجابي
لكل شيء في الحياة وجهان، أو أغلب الأشياء، وللسرطان في حياة «دعاء» جانب إيجابي، تمثل في اكتشاف نفسها، فقد اكتشفت أنها قوية جدا، تحب الكلمة، اجتماعية، واكتشفت أهمية الأصدقاء، وأهمية أن يتشارك الناس التفاؤل والأثر الطيب على نفوس الآخرين، وتعلمت أن الصبر جميل، وأن الطريق المسدود له مخارج أخرى، فقط عليك أن تتحلى بالهدوء والتفكير الإيجابي والصبر.
رسالة:
وبعد استماع «التكوين» لبطلة القصة الناجحة والكفاح المنتصر، أَمْلت «دعاء» رسالتها النبيلة إلى قرائنا الأعزاء، قائلة: «إذا تعرضتم إلى أي شيء غير محبوب أعلنوا معه السلام، فلن يؤذيكم، حتى السرطان، وافرحوا بحياتكم، كونوا سعداء دائما، وارضوا بما كتبه الله لكم، حتى وإن كان ابتلاء ومرضًا، الرضا سعادة واطمئنان، ولا يجب التفكير بيوم الغد كثيرا، وتفاءلوا بالخير تجدوه، واحرصوا على طريقة تغذيتكم وتجنبوا الأكلات والمشروبات غير الصحية وهي معروفة ومنتشرة كثيرا، وحافظوا على أبنائكم وابنوا أسرة سعيدة خالية من المشوهات، ولا تخبئوا ضحكاتكم، اضحكوا في كل فرصة تستدعي الضحك، لأن المرض بالنفسية أكثر ما يكون في الأعضاء، ولا تفقدوا الأمل بأي حالة وبأي شكل ومهما كان الوضع، وانظروا إلى الجانب الإيجابي في كل شيء، حتما ستجدوه».