مقالات

راعي أغنام عُمر أبو ريشة

زاهر المحروقي 

 

في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، عندما كنتُ مذيعًا أقدِّم – مع زملائي – برنامج «البث المباشر» في إذاعة سلطنة عُمان، اتصلَتْ بالبرنامج مستمعةٌ اسمها فاطمة أحمد، وساهمَت في تلك الحلقة بقراءة قصيدة عنوانُها «أمّتي»، للشاعر عُمر أبو ريشة. في تلك اللحظة لم تكن تعلم فاطمة – ولا أنا أيضًا – بأنها بتلك القصيدة سوف تشغل عقلي لسنواتٍ طويلة بمضامين تلك القصيدة، التي وجّه فيها الشاعرُ أسئلة إلى الأمة العربية والإسلامية، بعد ضياع القدس وفلسطين.
دارت الأسئلةُ حول أسباب الضعف والخنوع والذلّ والهوان الذي يلف الأمة. وقد كان اختيار فاطمة لتلك القصيدة في زمن شهد الكثيرَ من الأحداث السياسية والعسكرية، التي أدّت إلى تشتيت منظمة التحرير الفلسطينية وبداية تراجع القضية الفلسطينية، مع بزوغ نجم إسرائيل في المنطقة، لدرجة أن يصل الأمر بإسرائيل –الآن– أن تقود الأمة العربية؛ بما يعني أنّ اختيار فاطمة للقصيدة في ذلك الظرف كان اختيارًا فيه من التوفيق ما فيه. وقد رحل شاعرُنا عمر أبو ريشة عام 1990، فماذا عساه أن يقول لو عاش إلى يومنا هذا، ورأى بأم عينيه كيف أصبحت راية إسرائيل «تعلو في حمى المهدِ وظلِّ الحَرَمِ»!؟، وكيف انطلقت صيحة «وامعتصماه» ملءَ أفواهِ الصبايا الُيَّتِم، وكيف «لامست الأسماعَ… لكنَّها لم تُلامس نَخْوةَ المُعْتَصِمِ».
رغم أنّ القصيدة كلها رائعة؛ إلا أنّ هذين البيتين استوقفاني طويلا وهما:
أمّتي كم صنمٍ مَجَّدتِهِ
لم يكن يحملُ طُهْرَ الصَّنمِ
لا يُلامُ الذِّئبُ في عُدوانهِ
إنْ يَكُ الرَّاعي عَدُوَّ الغَنَمِ
لماذا رأى أبو ريشة أنّ الأمة مجّدت أصنامًا لا تحمل طهر الصنّم؟ وهل كان يقصدُ صنمًا معيّنًا أم أنّ حكمه كان عامًا يشمل الكلّ؟! ولكن الأغرب من ذلك، هل يمكن أن يكون الرّاعي عدوّ الغنم؟! كيف ذلك وهو المؤتمن عليها. فلماذا يكون عدوّها؟!.
ألم يردِّد خطباءُ الجمعة على مسامعنا قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيّته»؟. فما يقوله عمر أبو ريشة الآن يناقضُ ما كان يقوله لنا مدرِّسونا في المراحل الدراسية الأولى. فقد حدث ذات مرة أن شرح لنا أحدُ المدرِّسين المصريين، ونحن في المراحل الأولى للدراسة، أنّ الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، استقبل أحد الضيوف ليلًا، ودار الحديث بينهما عن شؤون المسلمين؛ ثم سأل الضيفُ الخليفةَ عن أحوال أهله وأولاده، فقام عمر وأطفأ السراج، فجاوب الضيفَ بأنّ الأهل بخير وعافية. فاستفسر الضيف مستغربًا، لماذا قام الخليفة بإطفاء السراج؟. قال له الخليفة لأنّ السراج من بيت مال المسلمين، وبما أنّ الحديث عن شؤونهم قد انتهى وانتقل إلى الشؤون الخاصة، فلا ينبغي أن نستغل أموال المسلمين في الأمور الشخصية.! وقد أذهلني هذا الموقف، مثلما تأثرتُ كثيرًا بقصة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث أرسل ملك الفرس رسولاً إلى عمر، فلما دخل المدينة سأل أهلَها أين ملككم؟ فأجابوه: ليس لدينا ملك، بل لنا أمير، وقد ذهب إلى ظاهر المدينة. فذهب الرسول في طلب عمر رضي الله عنه، فرآه نائمًا في الشمس على الأرض فوق الرمل، وقد وضع عصاه تحت رأسه بدلا من الوسادة، والعرقُ يتصبّب من جبينه. فلما رآه على هذه الحالة وقع الخشوع في قلبه وقال: رجلٌ تهابه جميع الملوك وتكون هذه حاله؟ لقد حكمتَ فعَدَلت فأمِنْت فنِمْت يا عمر.
وبالتأكيد هناك مواقف وقصص كثيرة رُويت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واهتمامه بالرعية. ولستُ هنا في سبيل مناقشة الموقفين السابقين أو تلك القصص التي رُويَت عن الفاروق، هل هي حقيقة أم خيال؟، لكني بصدد مناقشة حالة شاب تعلّم في المدارس صورةً نموذجيةً للحكّام، كادوا أن يطالوا الأنجمَ في عدالتهم واهتمامهم بالرعيّة؛ فإذا بعمر أبو ريشة يشكِّكه في كلِّ ذلك، بأنّ الأصنام أشرفُ من البعض، وبأنّ هناك من الرعاة من هُم أعداء القطيع.
وعُمانيًا كنا قد قرأنا قصة وفاة الإمام الوارث بن كعب الخروصي؛ تلك الوفاة المؤثرة؛ حيث يذكر التاريخ أنّ مجموعة من المساجين تم حبسهم تحت شجرةٍ بمكانٍ مرتفع عن مجرى وادي يسمى «كلبوه» يقع بمحاذاة قلعة نزوى مباشرة، ولكن بسبب السيول الغزيرة وجريان الوادي بشكل قوي؛ أمر الإمامُ الوارث بن كعب جنودَه بإطلاق سراح المساجين، خوفاً على حياتهم بسبب جريان الوادي. فلم يجسر أحدٌ أن يصل إليهم. وعزّ على الإمام الوارث أن يصبح مساجينه ضحية الغرق في الوادي وهو حيٌ يُرزق، يرى بأم عينه غرقهم. فقال قولته المشهورة لجنوده: «أمانتي وأنا مسؤولٌ عنهم غداً»؛ فارتمى إليهم كي يساعد من يستطيع مساعدته، ولكن الوادي كان أقوى فجرفه وجرف معه المساجين؛ وحينما بدأ منسوب الوادي يقل تدريجياً، خرج أصحابه يتفقدونهم في المجرى، وإذا بجثمان الإمام الوارث، على شفير الوادي بالجانب الشرقي من منطقة «سعال»، وقد فارق الحياة. فتنازع أهل «العقر» و «سعال» على مكان دفنه رحمه الله؛ ولكنهم في الأخير اتفقوا على دفنه في المكان نفسه الذي وُجد فيه جثمانه، عند حافة الوادي الذي يحمل قبره حتى يومنا هذا. فكان استشهاده دليلا على عدله وتحمله لمسؤولية رعيته أمام الله.
كبرنا وعشنا لنرى العجب العجاب؛ فبدأت ثقتُنا تهتزّ في كلِّ أحد وفي كلِّ شيء؛ وكأننا كنا نعيش خدعة كبرى. فبعدما نشأنا على حب الأوطان والإخلاص لها، وعلى أنّ الأمة العربية أمةٌ واحدةٌ وذات مصير واحد، وأنّ القضية الفلسطينية هي قضية العرب والمسلمين الأساسية؛ قرأنا تصريحات إسرائيلية كثيرة يقول أصحابُها إنّ بعض الحكّام العرب يتّصلون بقادة إسرائيل، كي تخلّصهم من حزب الله اللبناني، وكذلك من حركة حماس والجهاد الإسلامي. ولعل تصريح بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الاسرائيلي خير دليل، فقد قال: «الشرق الأوسط يشهد حاليًا تغييرًا جوهريًا، وهناك دولٌ عربيةٌ هامةٌ لم تعد تعتبر اسرائيل عدوًا لها؛ بل شريكًا محتملًا في مواجهة إيران والتنظيمات الإسلامية المتطرفة». والأهم من ذلك والأخطر أنّ نتنياهو، طالب «أصدقاءه» العرب، بأن يمارسوا ضغوطًا على الفلسطينيين من أجل تقديم تنازلات، و»إبداء المرونة، لكي لا تكون إسرائيل هي الوحيدة التي تقوم بذلك».
أمّا ما لم يكن ليخطر على بال أحد، فهو تصريح أفيغدور ليبرمان وزير الخارجية الإسرائيلي – حينها – لصحيفة هاآرتس الإسرائيلية، عندما قال إنّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس أجرى مكالمة هاتفية مع المسؤولين الإسرائيليين، إبّان الحرب على غزة عام 2009، وطالب فيها الإسرائيليين «بالقضاء على حماس». وهو تصريحٌ يدلّ تمامًا على بُعد نظر عمر أبو ريشة، الذي رأى أنّ الراعي هو عدوّ الغنم. هذا إذا تركنا جانبًا ما صار يُعرف الآن بـ «صفقة القرن»، أو الاتفاق النهائي، وهو مقترحٌ وضعه الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. تهدف الصفقة بشكلٍ رئيسي –وفق ما تسرّب عنها بشكل غير رسمي- إلى توطين الفلسطينيين في وطن بديل، خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإنهاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين، مع اعتبار القدس عاصمة أبدية لإسرائيل. وتتسابق الدول العربية لتنفيذ «صفقة القرن» على حساب القضية الفلسطينية. وقد رأينا كيف كان لملك الأردن عبد الله الثاني ابن الحسين، تحفظاتٌ على جعل الأردن الوطنَ البديل للفلسطينيين؛ فمنعت الدول الغنية مساعداتها للأردن، وحرّكت الشعب الأردني ضد النظام. ولكن عندما أحسّ الملك الأردني بالخطر، وافق على كلِّ شيء، فاستقرت الأوضاع. ثم قام بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي بزيارة نادرة لعمّان ليشدّ من أزر الملك.
وما حدث في الأردن من تحريكِ الشارع ضد الملك، ثم ما تبع ذلك من هدوء, دون أن تتحقّق مطالب الشعب الأردني، له دلالاتٌ كثيرةٌ، أبرزُها أنّ الدول التي لها مصالح مع دول أخرى، بيدها أن تحرّك الشارع وتوقفه، متى شاءت حسب استجابة تلك الدول للمطالب – هذا إن لم نقل بخنوعها -. وهذا يفتح علامات استفهام كبرى حول ما سمي بــ «الربيع العربي»، وهو مرشحٌ الآن أن يثور في أكثر من قُطرٍ عربي، إذا لم يستجب ويمشي في ركب صفقة القرن؛ وهذا ما يشير إليه الباحث الإسرائيلي إيدي كوهين في تغريدة نشرها في صفحته في تويتر يقول فيها: «أيّ حاكم عربي يرفض صفقة القرن، سوف يتم الإطاحة به. وأيُّ دولة مع الصفقة سوف يستمر نظامها حتى لو تظاهر شعبها كله. وأيُّ دولة ضد صفقة القرن سوف تسقط بثورة شعبية داخلية، حتى لو كانت دولة ملكية عربية. الأردن حاولت الرفض لكن سرعان ما غيّرت رأيها ورضخت للمعلّم أبو إيفنكا».
وسواء كان كلام كوهين حقيقياً، أم يندرج في إطار الحرب النفسية التي تشنها إسرائيل على العرب، فإنّ الأمر المسلّم به هو ارتهان القادة العرب للإرادة الأمريكية والإسرائيلية، ومعظمُهم – حسب الكاتب رفعت البدوي- لا هَمّ لهم سوى استرضاء سيد البيت الأبيض، ولو على حساب سيادة أوطانهم ومصلحة شعوبهم. ويصف حالة الشعب العربي بأنه أضحى تائهاً حائراً، لا يملك أيَّ مخطط يمكن الاعتماد عليه في رسم المستقبل؛ فصار الشعب يعيش يومه فقط لا يعلم عن الغد القادم ولا عن مصيره شيئاً. ويعزو مسؤوليةَ ذلك إلى من أسميتُهم برعاة الغنم، «فأولئك الحكّام جعلوا من كرامة شعوبهم، سلعة تُباع وتُشترى في سوق النخاسة وسوق الذل والهوان، وأرادوا أن يجعلوا من المواطنين في بلادهم أذلاء يلهثون خلف رغيف الخبز ولقمة العيش الكريم. فقد زرعوا الفوضى في الوطن العربي، إرضاءً لرغبة العم سام الأميركي وبن غوريون الصهيوني».
وإذا كان الكاتب رفعت البدوي قد تناول الأمر من وجهة النظر العربية، فإنّ الباحث الإسرائيلي إيدي كوهين يشخّص الوضعَ العربيّ من وجهة نظر إسرائيلية في مقابلة متلفزة نشرها في صفحته في تويتر بالقول إنَّ «صفقة القرن بدأت، عندما باع حكام العرب القدس لترامب ونتنياهو (في قمة الرياض).. ويتضمن جزءٌ من الصفقة تطبيعاً خليجياً مع إسرائيل.. وهو ما يتم الآن ونراه اليوم»!. وفي تغريدة له يقول: «تجربتي بالتويتر جعلتني أغيّر رأيي. القادم هو عقد اتفاقات مشتركة مع حكامكم وولاة أمركم أيها العرب. ما يهمّنا هو الحكام والملوك العرب من الخليج إلى المحيط. خطابُنا معهم؛ أما الشعوب العربية لا حول لها ولا قوة، غير السمع والطاعة. فلا يهمّنا أمر الشعوب. هذه هي الحقيقة. افهموا بقه»؛ وهي إشارةٌ واضحةٌ تدلّ على أنّ الراعي العربي هو عدوّ الغنم. وأرى في تغريدته تلك إشادةً – لم يكن يقصدها بالطبع – بمواقف الشعوب العربية.
ولكن ما الذي أوصل الأمر إلى أن تفكِّر إسرائيل –على لسان إيدي كوهين– بأنّ الشعوب العربية لا حول لها ولا قوة غير السمع والطاعة؟! أليس ما قاله صحيحاً لا غبار عليه؟. ثم ألم يكن عمر أبو ريشة محقًا بأنّ الذئب لا يُلام إذا كان الرّاعي عدوّ الغنم؟!.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق