السياحي

«كبادوكيا» الساحرة سمراء في فستانها الأبيض

مدينة الأساطير والأحلام، مازالت آثار أقدام الجنيات منحوتة على صخورها الذهبية الجميلة، بصمات أيديها الغريبة في زوايا وحواف المغارات والكهوف، هنا لا تتوقف عن السفر بخيالك وروحك، لترسم عالما آخر جميلا محاطا بحياة مختلفة عن ما نعيشها نحن، كل الصور الخيالية المخبأة في أقصى ذاكرتي أصبحت جزءًا من هذه المدينة الساحرة.

زارتها: أنوار البلوشية

حملنا حقائبنا وأمتعتنا مع الحرص على حمل الملابس الثقيلة لنتحاشى التجمد في كهوف ومغارات «كبادوكيا» الساحرة. أيام ينايرية باردة، وليالٍ تحلو بالجلوس أمام المدفئة والسّمر حتى الصباح، رحلة استجمام بطعم آخر، وبشهرٍ قاسٍ نجحنا في ترويضه داخل الكهف القابع أعلى الجبل المنحوت، والمهيأ ليصلح مناما مريحا للعابرين الذين يعتمرهم الفضول لاكتشاف دهاليز هذه المدينة الجميلة.
انطلقنا من مسقط وصولا إلى إسطنبول، ولبلوغ وجهتنا التي حلمنا بها كثيرا، طرنا مجددا فوق سماء تركيا، ما هي إلا ساعة حتى ظهرت من تحتنا معالم المدينة المنشودة، تراءت أمام عيني الجبال السمراء المكسوة ببياض ناصع، بدت لي منذ الوهلة الأولى كعروس سمراء في ليلة زفافها، مزهوة بفستانها الأبيض. حطت الطائرة على أرض مطار «كبادوكيا»، توجهنا نحو مبنى بسيط اكتظ في دقائق مع توافد المسافرين وانتظارهم لاستلام الأمتعة، بعد أن ألقيت نظرة فاحصة على الوجوه المزدحمة من حولي، أدركت أن هذه المدينة منطقة جذب للسياح من الدول الآسيوية، حيث الملامح والتفاصيل توحي بذلك، وكنا العائلة الخليجية الوحيدة في صف الانتظار.
ما إن فُتحت أبواب الخروج حتى أدركنا مدى قساوة يناير القارسة في هذه البقعة من العالم، فنحن سكان الخليج غير ملومين عندما نتفاجأ بهذا التجمد، ومن حسن الحظ كان «محمد» (السائق الخاص) بانتظارنا حاملا قائمة لأسماء الذين سيقلهم إلى وجهاتهم، بعد التعريف بهويتنا سارعنا في تحميل الأمتعة لنحظى بدفء «الميني باص» الذي سيقلنا إلى الفندق.
حيث «غوريميه» الرائعة
قادتنا الصدفة أثناء البحث لإعداد تجربة مميزة عند زيارتنا لتركيا، باكتشاف هذه المنطقة «كتباتوكا» بمعنى «أرض الخيول الجميلة»، وهو اسم فارسي أصيل، وبمرور الزمن توالت الحضارات في هذه المنطقة حتى أصبحت تحت مسمى «كبادوكيا» الآن، وهي تقع في منطقة «نوشهر» أو «فشهير»، في شرق هضبة الأناضول، وسط تركيا المعاصرة.
نعيد المشهد حيث تكومنا ككتلة باردة في «الميني باص» بأيدا ممدودة نحو المكيف الذي بلغت درجة حرارته أقصاها، ومازالت غير قادرة على إرضائنا بمنحنا الدفء الذي تنشده أصابعنا المتجمدة، على أنغام الأغنية التركية المذاعة عبر الراديو، وفي طريقنا للوصول إلى وجهتنا مررنا بالجزء الحديث من المدينة، حيث شهدنا المباني والعمارات ومظاهر الحياة المتقدمة، ثم ظهرت أمامنا معالم «غوريميه» التي وقع اختيارنا عليها للسكن فيها، فهي أفضل منطقة لسكن السياح، لوجود الأماكن الأثرية الأخّاذة بالقرب منها، وتميزها بمناظر الفنادق المحفورة في الكهوف الجبلية، والاهتمام بنسج السجاد العثماني، وصناعة الفخار والزجاج الملون، تقع المنطقة بمقاطعة «القيصرية»، فالسكان الذين أقاموا في المنطقة قاموا بنحت البيوت والكنائس والأديرة من رواسب الحمم البركانية التي كانت تتفاعل في المنطقة آنذاك، حيث أصبحت مركزا رهبانيا ومزارا للشعب المسيحي بين عامي 300_ 1200 ميلادي. كما بقيت هذه الآثار والبيوت والقلاع الصخرية والكنائس القديمة حتى يومنا هذا، وتم تحويل العديد منها إلى فنادق سياحية.
مساكن الكهوف القديمة
في طرق متعرجة وضيقة، وحارات قديمة تعبق برائحة الماضي الجميل، يقود «محمد» الباص الصغير بمهارة عالية، فهو ابن البلد وقد قاس أطوالها ومسافاتها، ودرس كل ركن فيها منذ صغره، وبعد الوقوف في محطات عدة، بلغنا محطتنا التي يبدو أنها كانت نهاية المشوار، حيث درنا في دائرة المدينة هبوطا ونزولا، وقد ضاقت الدائرة شيئا فشيئا لنصل بالقرب من المركز الحيوي للمنطقة، حيث مسكننا الذي يأوينا طيلة فترة إقامتنا.
مبنى صخري جميل على حافة ارتفاع السطح، مكون من ثلاثة أدوار وفي كل دور مجموعة من الغرف المجاورة لبعضها البعض في صف واحد بقبالة شرفة واسعة مفتوحة في الهواء الطلق، انعدمت مظاهر التقدم هنا، فلابد من صعود السلم والمكافحة في المنحدرات الحادة للصعود والنزول، هذه الإقامة منحتنا نظرة ثاقبة عن كيف كان الناس يعيشون في هذه المنطقة داخل الكهوف لعدة قرون، وقد بنيت الغرف على مساكن الكهوف القديمة، وتم الحفاظ على جميع جدران الكهوف الأصلية، والتصميم الداخلي يطابق الهيكل الأساسي الذي كان موجودا قديمًا والاستمتاع بالنظر من على أسطح هذه الفنادق بمنظر الغروب الساحر الذي يأسر الأنفاس، تجربة فريدة من نوعها، وسياحة من نوع آخر بالفعل!
مأكولات ومذاق شهي
«غوريميه» أو غوريم بعدة أسماء حسب نطق الثقافات واللهجات المختلفة، ولكن سحرها واحد، تشدك معالمها نهارا، وتجذبك بلياليها الحالمة، رغم مشقة السفر إلا أننا لم نتردد في النزول إلى مركز المدينة، فقد كان الوقت صباحا، خرجنا للبحث عن إفطار شهي يسد جوعنا. تجولنا في الأنحاء حتى استوقفنا مقهى صغير يقدم المأكولات الشعبية، ألقينا نظرة سريعة على قائمة الطعام، ثم وقع اختيارنا على طبق الشكشوكة المسمى «مينيمين» بالتركية، مع كوب شاي يُنسيك كل عناء ومشقة. حياة أخرى تعيشها المنطقة في المساء، تُنار الأضواء التي تزين الطرقات، وتفتح المطاعم والمقاهي أبوابها لتقدم أشهى المأكولات وألذ المقبلات، حيث تشتهر غوريم بوجبة الكباب المطبوخ في قدر من الفخار «Poetry Kebab» حيث يأخذ وقته حتى الاستواء في التنور الحامي، ويُقدم إما مع الأرز أو الخبز البلدي، وكذلك وجبة «الرافيولي» الذي لن تتذوق مثله في كل أنحاء العالم. لمسنا في أفراد المنطقة البساطة وحب تقديم المساعدة، فجمال بلدتهم انعكس على أرواحهم السمحة.
سوء الطقس!
فور البحث حول منطقة «كبادوكيا» تتقين بأهم نشاط يمكن أن تمارسه عند زيارتك لها، ألا وهو نشاط البالون الهوائي الساخن «المناطيد»، فهناك أكثر من مائة بالون يحلق يوميًا حسب حالة الطقس في وقت مبكر من الصباح، للاستمتاع بمنظر شروق الشمس الساحر، حيث تعد رحلة البالون أفضل طريقة ممتعة يمكنك من خلالها التعرف على المشهد الفاتن لكبادوكيا من أعلى، حيث المناظر الطبيعية الخلابة من الجبال المنحوتة منذ العصور التاريخية القديمة. ولكن للأسف، لسوء حالة الطقس لم نستطع التحليق طوال أيام تواجدنا! إضافة إلى نشاط ركوب الأحصنة التي تأخذك في جولة حول الأودية المعروفة، وبالطبع هي مخصصة للأفراد المتمرسين في ركوب الخيل!
“وادي الحب” والمزيد
صباح اليوم الثاني انطلقنا نحو «متحف غوريميه المفتوح» منطقة آسرة عبرنا بوابة دخولها بسعر رمزي، مشينا دقائق حتى انكشفت أمامنا معالم المتحف في الهواء الطلق، حيث الممرات والمداخل والمخارج العشوائية المحاطة بالمكان، تدور الأساطير حول هذه المدينة ويُقال إنها بُنيت على يد الجان منذ العصر البرونزي، فالمكان عبارة عن مجموعة من الكنائس التي تضم عددا من الجداريات الفنية الرائعة، وقد أُدرج المتحف في قائمة اليونسكو للتراث الإنساني والعالمي.
قبل غروب الشمس انطلقنا في رحلة على متن الدبابات النارية لاستكشاف المنطقة وأوديتها ومعالمها الجميلة، قمنا باستئجار الدراجات والانطلاق مع مجموعة من الأفراد للقيام بالنشاط عبر مجموعات تقود في مسار واحد للتجول من منطقة إلى أخرى، تجربة جديدة لأول مرة أقوم بها، أثناء الرحلة مررنا عبر «وادي الحب» الذي يتميز بالصخور المدببة والمعالم الأثرية الجميلة، وصولا حتى نهاية الرحلة حيث بلغنا تلة عالية لرؤية غروب الشمس، منظر فريد من نوعة يحول «غوريم»إلى مدينة نابضة بالحياة عند الغروب، مشهد جميل حيث مراقبتنا لحركة غروب الشمس، والظلام يغطي السماء ببطء، وتضيئها أضواء الفنادق والشوارع والكهوف.
بانوراما غوريميه
المنطقة مهيأة ومنظمة سياحيا، وكل الجولات السياحية تقدم خيارات محددة، حيث توجد ثلاثة مسارات مختلفة يمكنك اختيار أحدها، وجميعها تبدأ منذ الصباح وحتى غروب الشمس، وقع اختيارنا على مسار خطة الجولة «الخضراء» من بين الجولة الحمراء والزرقاء، بعد تناول الإفطار الشهي انطلقنا صباحا وركبنا «الميني باص» لتبدأ رحلتنا الجميلة.
المرشد السياحي «قاسم» رحب بنا وعرفنا على سائق الرحلة «علي» وعرض بشكل سريع خطة الرحلة ومعلومات قيمة عن تاريخ المنطقة، حتى وصولنا المحطة الأولى «بانوراما غوريميه»، مكان مرتفع يطل على واد أسفل الحافة، وعلى مد البصر تستطيع رؤية معالم المدينة بشكل واسع وجميل، الأودية المتنوعة التي بدأت تتوشح ببياض الثلج، والصخور البركانية التي تشكلت منذ آلاف السنين، تعد هذه التكوينات الصخرية الرائعة من أبرز المعالم الرئيسية التي تطغى على أفق كبادوكيا، وهي عبارة عن مناظر طبيعية فريدة من نوعها ناجمة عن قوى الطبيعة مثل الانفجارات البركانية والرياح القوية وعوامل التعرية، وأيضا يمكن رؤية منظر بديع لقرية غوريم الساحرة، إلى جانب «وادي الحمام» حيث يمكن رؤية الصخور التي نُحتت فيها منازل الحمام فوق الجبال، وقاموا بتلوين الكثير منها باللون الأبيض لجذب أكبر عدد ممكن من الحمام، وعلى ذكر «قاسم» حول سبب جذب الحمام حيث تعود بعض التكهنات بأنهم كانوا يأكلون لحم الحمام، ويستخدمون عظامها وجلودها ودماءها للعديد -من الأغراض في الحياة اليومية.
وفي موقع «بانوراما غوريميه» تم تخصيص مساحة للجلوس والاستمتاع بكوب من الشاي والتأمل بالمنظر الخلاب، وأكثر ما يشد الانتباه في هذا المكان هو «شجرة الأمنيات» التي يزعم بأن من يشتري تميمة ويقوم بتعليقها على هذه الشجرة فسوف تتحقق أمنياته!
المدينة تحت الأرض
انطلقنا نحو المحطة الثانية، من أفضل وأجمل الأماكن وأغربها من وجهة نظري «المدينة تحت الأرض» والتي تعرف أيضا باسم «مدينة الجن» يعود عمرها نحو 5 آلاف عام، توجد العديد من المدن تحت الأرض في كبادوكيا ولكن لم يتم اكتشاف سوى 200 منها، حيث قام أهل المنطقة قديما بحفر مدن كاملة تحت الأرض لتكون مخابئ من غارات الأعداء على مدينتهم. حيث قاموا ببناء ملاجئ تحت الأرض تكفي لمعيشة الآلاف لعدة شهور، ويصل عمق بعض المدن إلى أكثر من 11 دورا تحت الأرض، تتكون هذه الأدوار من غرف نوم وغرف معيشة وكنائس وحمامات ومطابخ وسلالم وقنوات تربط بينها جميعا، بالإضافة إلى آبار مياه وغرف تخزين الطعام، وغيرها. وتم تزويدها بنظام تهوية يسمح بتغلغل الهواء إلى جميع أرجاء المدينة تحت الأرض.
أعلم بأني أصف أمرا يفوق الخيال للبعض، ولكنه واقعي وجميل جدا، وأيضا كان أهل المدينة يقومون بالاختباء تحت الأرض لعدة شهور أثناء الغزو، حتى يحين الإعلان عن الانتصار وطرد الغزاة. المدينة التي قمنا بزيارتها تسمى «مدينة DERINKUYU”، وهي واحدة من أشهر وأكبر المدن المكتشفة تحت الأرض، وتتسع ل20 ألف شخص، وتبلغ مساحتها حوالي 10 كيلو مترات مربع، وهي تقع على بعد ساعة عن مدينة «غوريميه».
وادي إهلارا
بعد جولة «مدينة الجن» المدهشة اتجهنا إلى «وادي إهلارا» وهي عبارة عن رحلة مشي عبر أدغال الوادي واكتشاف المنطقة (رحلة Hike)، المكان عبارة عن واد كبير داخل أخدود صخري، يمر من خلاله نهر طويل.
السائق «علي» قام بتوصيلنا عند مدخل الوادي، ليواصل هو إكمال المسير عبر الطريق المعبد والمختصر حتى يصل عند المخرج، حيث سيقلنا عند نهاية الرحلة. ونحن بدورنا نقوم بشق الطريق مشيا على الأقدام لمسافة حوالي 4 كيلومترات مرورا بحواف الوادي، والاستمتاع بالمناظر الخلابة للبط والطيور، والجلوس وسط أحضان الطبيعة لأكل المرطبات والوجبات الخفيفة في المقاهي الصغيرة المنتشرة على طول ضفاف النهر المحاطة بالصخور المحفورة التي كان يسكنها أهل المنطقة قديما. فور الوصول إلى منطقة الخروج تتناثر المقاهي والمطاعم الجميلة العائمة على سطح النهر، منظر من صور الخيال الرائعة، حيث تناولنا وجبة الغداء ومن ثم الانطلاق إلى المحطة التالية.
دير سليمة والمجوهرات العجيبة
بعد القيادة لساعتين وصلنا إلى محطتنا التالية وهي زيارة دير Selime Monastery الذي يعد من أكبر وأقدم الأديرة في كبادوكيا. تم نحت الدير في الصخور ويضم كنيسة ومطبخًا وغرفًا متفرقة محفورة داخل الكهوف، تبادر إلى ذهني مدى العبقرية المعمارية للبشر الذين قاموا ببناء هذا الدير آنذاك، وإعادة ترميمه لعدة قرون. بعد احتساء الشاي توجهنا إلى محطتنا الأخيرة وهي زيارة مصنع المجوهرات والأحجار الكريمة، حيث تتميز كبادوكيا بحجر نادر جدا يسمى سلطانة “ Zultanite” يتغير لونه حسب تغير درجة الإضاءة في المكان ويمكنه التحول إلى 8 ألوان مختلفة، ثم انتهت الجولة السياحية الرائعة ولم تنته دهشتنا ورغبتنا في اكتشاف المزيد.
وفي اليوم التالي حرصنا على اقتناء التذكارات الجميلة وشراء الهدايا التذكارية من السوق المحلي للمنطقة، حيث السجاد الملون والمنسوج بعناية فائقة، والحلي المميزة ذات الطابع العثماني القديم، وغيرها من المقتنيات التي تحمل رموز المنطقة، ثم ولينا راجعين نحو طريق العودة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق