العام
خلفان البلوشي. . شاب «أنقذه» الفشل
لم تكن النسبة «الضعيفة» التي حصل عليها في الثانوية العامة إلا مفتاح عبورٍ لمرحلة تتقافز فيها الأرقام لاحقًا، ولم يكن سيرُه «مشيًا» إلى عمله الأول إلا مطبة يتجاوزها اليوم بسيارة «فحص» جديدة، ولم تكن الغرفة التي تقاسمها مع أربعة أشخاص في الوادي الكبير إلا حجر أساس لمنزلٍ سيبنيه قريبًا في مرتفعات المُنى ببوشر، ولم يكن المرتب الشهري «100 ريال» إلا خطوة لشركة من الدرجة الممتازة تفوز بمشاريع تتعدى نصف مليون ريال.
إنها حكاية الشاب خلفان بن سالم البلوشي، التي ابتدأت بـ «فشل» أنقذه، واستمرت بـ «صبر» تحمّله، ووصلت اليوم إلى «نجاح» يجني ثمره، رواها لنا «بكل فخر» وهو «يتنفّس الصعداء» بعد مطبّات كادت أن توئِد الحلم، وتقتل الطموح. فإلى الحوار.
لنتحدث عن البدايات أولًا كيف كانت؟
وُلِدت في ولاية قريات لعائلة ميسورة الحال ولله الحمد، وعشت الطفولة بكل شقاوتها وحلاوتها ومرّها، ودرست في الولاية حتى الثانوية العامة، التي وقعت في مطبتها؛ إذ إنني لم أحصل على نسبة النجاح، فكان هذا الفشل هو أحد مفاتيح نجاحي اليوم ولله الحمد.
كيف ذلك، وماذا فعلت؟
بسبب النسبة التي من الممكن وصفها بأنها «ضعيفة جدًا» التجأت إلى منزل أحد أقربائنا في مسقط؛ خوفًا من التأنيب واللوم في منزل العائلة، وظل المشهد الصباحي الذي كُنت أُشاهده يوميًا يُثير في نفسي الكثير من التساؤلات والهواجس؛ لماذا الكل يذهب للعمل أو للدراسة وأنا لا «شغل ولا مشغلة لديّ»، حتى جاءت الجملة التي حرّكت داخلي الهمّة، وأعطتني الخيط لبداية المشوار.
ما هي؟ ومَن صاحبها؟
في أحد الصباحات وبعد أن ذهب أقراني إلى أعمالهم ومشاغلهم، قال لي أحد ساكني المنزل: لماذا لا تذهب لمكتب أخيك فيصل في الغبرة، وتعمل معه حتى في تقديم الشاي؛ فالعمل وإن كان قليلًا وبسيطًا إلا أنه سيُعلّمك الكثير بدلًا من النوم بدون أي عمل. فخرجت من المنزل ومشيت حتى ركبت سيارة أجرة واتجهت إلى مشوار العمل الأول في حياتي.
صف لنا مشوارك العملي الأول في حياتك..
اتفقت مع أخي على العمل معه براتب شهري مقداره 100 ريال فقط، حيث كان مكتبه يختص بالعقارات، ثم وجدت إعلانًا للتدريب في المعهد الوطني للضيافة بالوادي الكبير، والتحقت به، رغبةً في تعلّم اللغة الإنجليزية، وكذلك في الحصول على فرصة عمل مناسبة، وتقاسمت غرفة مع أربعة أشخاص، وعشنا معًا معاناة علّمتنا الكثير.
ما هي هذه المعاناة؟
كُنا نتسلّم من المعهد 50 ريالًا شهريًا، نُوزّعها على المسكن والمأكل، وبالطبع هي لا تكفي، فقد كنا في بعض الأيام لا نتعشى، كما نقوم بالمشي لمسافات طويلة لعدم وجود مبالغ لدينا لدفعها لمركبات الأجرة.
ماذا بعد مرحلة المعهد؟
تخرجت من المعهد وعُيِّنت في أحد المنتجعات المشهورة في مسقط بوظيفة «نادل طعام» وهي وظيفة كنت أحبها، لكن مدير الموارد البشرية في المنتجع اشترط شيئًا غريبًا، وهو حلق الشنب للمواصلة في الوظيفة، وعندما رفضت التنفيذ دخلنا في جدال، وقررت ترك الوظيفة.
إذًا رجعت للمربع الأول «بدون وظيفة»؟
نعم، لكنني عدت إلى مكتب أخي فيصل مرة أخرى، بعرض أفضل هذه المرة؛ إذ عرض علي راتبًا شهريًا مقداره 180 ريالا و40% من نسبة البيع، ولأن تلك الفترة وتحديدًا في عام 2008 كانت تشهد طفرة في السوق العقاري فقد تمكنت من تجاوز هذا السقف حيث كان راتبي الشهري مع العمولات يتجاوز أحيانًا الـ 2000 ريال، وكسبت علاقات مع أشخاص كثر، وانتقلنا من مكتبنا القديم إلى مكتب جديد، وكنت أصرف بلا حساب، حتى «انكسر المركب» مرة أخرى.
وكيف انكسر؟
بعد فترة الانتعاش العقاري، جاء الكساد، وشُلّت حركة البيع والشراء، لدرجة أننا لا نبيع شيئًا، فرجعت مرة أخرى إلى المربع الأول «بدون وظيفة» ولا مصروف، حتى جاءني في يوم ما أخي، وأخذ بيدي، لأنهض من جديد، لكن هذه المرة بشيء من التعقّل، والهدوء، والصبر.
ماذا فعلت للنهوض من جديد؟
حصلت على دعم من أهلي لأبدأ نشاطًا تجاريًا، فقررت العودة إلى قريات «منزل العائلة» ومزاولة نشاطي من هناك، ففتحت السجل وأخذت سيارة «بيكب أب» وكنت أنطلق الساعة الثالثة فجر كل يوم من الولاية لأتجه مع العمّال إلى بركاء ونخل وغيرها من المواقع.
هل كان الأمر بسيطًا؟
أبدًا، لم يكن بسيطًا؛ فقد تعرضت لخسائر، واستبدلت العمال، وغيّرت النشاط، وكدت أن أعود مرة أخرى للمربع الأول، لولا وقوف أهلي معي، وعلى رأسهم والدي رحمه الله، ووالدتي حفظها الله، اللذين كانا السند لي بالدعاء تارةً، وبما يقدران عليه تارة أخرى، كما أن الأمر احتاج إلى الصبر والبحث عن الفرص، واختيار الأفضل منها.
وهل نجحت في ذلك؟
نعم ولله الحمد، فقد أصبحت شركتي الآن «راية النهضة الدولية» من الدرجة الممتازة، وتعمل في مجال رصف الطرق والحفريات، وتحظى بثقة العديد من المؤسسات والشركات، بل تمكّنا من القيام بمشاريع تتعدى قيمتها نصف مليون ريال عُماني.
لمن يسأل: كيف فعلت ذلك، بماذا تُجيب؟
هناك عوامل كثيرة أثمرت في ذلك منها الصبر وعدم استعجال النتائج، وكذلك تقديم الأولويات، والاستثمار في العنصر البشري وكذلك الأجهزة، فأنا ركّزت على دفع المديونيات، وإعطاء الرواتب أولا بأول للموظفين، وكذلك استثمار المبالغ في شراء الأجهزة والمعدات الحديثة. وهناك أمرٌ مهمٌ يجب عدم إغفاله وهو الجانب الاجتماعي والإنساني، فكلما قدّم الإنسان خدمة لأشخاص أو للمجتمع وهبه الله الكثير وعوّضه عنها من حيث لا يحتسب، وخلال مسيرتي مرّت علي نماذج وقصص أكدت هذا الأمر.
ذكرت في بداية حوارنا بأن نسبتك في الثانوية العامة كانت ضعيفة، هل بقيت على حالها؟
لا، فقد أكملت الثانوية العامة بنجاح، وذهبت إلى الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا للدراسة على فترتين، صحيحٌ أنني لم أحصل على شهادة الهندسة، لكنني أصبحت عارفًا بكل التفاصيل الهندسية للأعمال التي تقوم بها شركتي ولله الحمد.
من يقول إن عائلتك أسهمت في ما وصلت إليه الآن، وهناك شباب عائلاتهم مساعدتهم نظرًا لظروفها، فبماذا ترد؟
صحيح أن عائلتي ميسورة الحال ولله الحمد، لكنها علّمتني الاعتماد على الذات وعدم الطلب، وصحيحٌ أن مساعدتهم لي لها فضلٌ كبيرٌ إلا أنها لم تكن هي كل شيء؛ فقد صبرت وتحمّلت الكثير، وكل من عمِل معي كان يُدرِك ذلك، وعليه فإن التعلل بعدم قدرة العائلة على مساعدة الشباب أمر غير صحيح، فمن يملك الإرادة عليه بالمبادرة والمخاطرة والصبر والتحمّل.
اليوم وبعد هذه المسيرة، ما الذي يريد خلفان البلوشي قوله للشباب وللمؤسسات؟
بصراحة يُحزنني رؤية الشباب العُمانيين الخريجين وغير الخريجين بدون عمل، خصوصًا وأن السوق فيه الخير الكثير الذي من الممكن أن يُوجِد وظائف لهم، فماذا لو اجتمع أربعة مُهندسين خريجين مثلا وأنشأوا شركة تعمل في مجالهم وحصلوا على عقود من مؤسسات حكومية وخاصة، أليس هذا الأمر كفيل بتوفير وظائف مُستدامة، وهنا دعوة لهذه المؤسسات للأخذ بيد الشباب وتفعيل نسبة 10% للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ودعوة أخرى للشباب بأن لا تتكاسلوا فبلدكم فيه الخير، وعليكم بالبحث عن مصدر رزق ودخل لكم حتى وإن كان بعيدًا عن الوظيفة الحكومية والخاصة.
في ختام الحوار: لمن يقول البلوشي شكرًا؟
في البداية أرفع أسمى آيات الشكر والعرفان لمولاي جلالة السلطان المعظم – حفظه الله- على اهتمامه بالشباب العُماني، وما 10 % المخصصة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة إلا نظير توجيهاته السامية؛ الأمر الذي أثمر علاقة طيبة بيني وبين المؤسسات التي طبّقت هذه النسبة ووثقت بي وبعملي وعلى رأسهم «ريادة» وبنك عمان العربي، وشركة مسقط للتمويل، والشركة العمانية للنطاق العريض، والشركة العمانية للألياف البصرية، وشركة المقاولات المصرية. وأدعو الله العلي القدير أن يغفر لوالدي ويُجزيه خير الجزاء على وقفته معي، ويحفظ والدتي وعائلتي جميعًا، ويوفق الجميع.